لا شك أن الغالبية العظمى، إن لم يكن الجميع، إلا من بعض حفنةٍ ترى أن الأسعار داخل البلاد في متناول كل العباد، ويشرعون يقارنونها بثمن ساندوتشات الفول في نيويورك والتضخم البريطاني (المخيف) على حد وصفهم، تتحدث، هذه الأغلبية، عن حالة الغلاء الطاغية الطافية على كل المستويات، وفي كل الأوقات والأماكن والمواقف والأتوبيسات والميكروباصات، إلا أن سائقًا لتاكسي، وعلى مدار نحو 23 دقيقة مثّلت زمن رحلة قطعها من شارع صلاح الدين حتى محطة قطار سيدي جابر، وسط عروس البحر الأبيض المتوسط، (الإسكندرية)، تلك المدينة حاضنة الحضارات وذات السمعة الدولية الفريدة وعاصمة التحضّر والرقي لأكثر من 23 قرنًا من الزمان، والتي لا يزال إرثها الرائع منارةً للعالم لتحقيق إنجازات فى العمل التنموي والبيئي والاجتماعي، وكونها في العصر الحديث إحدى المدن العالمية الرائدة وعاصمة الثقافة العالمية، هذا السائق الذي بمجرد سماعه من الزبون، إطراءً بأن الطريق أصبح رائعًا بعد عمليات التطوير التي تشهدها شبكة الطرق، رد (بهدوووووء): قد يكون ذلك كذلك في الطرق الخارجية، لكن الأوضاع لا تزال صعبة في الشوارع الداخلية، وأخذ الرجلُ يتحدث طيلة الطريق، كأنك فككت عقدة لسانه، أو ضغطت على زر التشغيل، مستطردًا: إنه كان في يوم من الأيام، يعد نفسه ضمن الطبقة المتوسطة وأن صافي دخله حاليًّا قد يتجاوز الـ15 ألف جنيه شهريًا، لكنه لا يكفي متطلبات أسرته، رغم أن لديه ابنين اثنين فقط بمرحلتي الثانوية العامة والجامعة، مُقسمًا أنه عندما كان متوسط دخله نحو 5 آلاف من سنوات ليست ببعيدة كان يضحي بـ، لا مؤاخذة، عجل، فيما الآن قد لا تزور اللحمة بيته إلا كل "فين وفين" على حد تعبيره..
وفي وقت تطغى فيه الأسعار على حديث العامة، وباتت الأوضاع صعبة على الجميع ولم يكد تعد هناك طبقة متوسطة أو قد بدأت تتآكل، ذكر سائق التاكسي أن الجميع يتحدث بالفعل، لكن لا أحد يسمع، حتى الصحافة- وهنا مربط الفرس- "مبقااااش لها أي لزمة"، والقول لصاحبنا، لا تتحدث إلا عن الإنجازات، ولا تستطيع نقد المسؤول، وإن حدث تنقد مسؤولين صغارا لا حول لهم ولا قوة ينفذون الإملاءات مثلهم مثل الصحافة والإعلام- كررها ثانية- ولم يعد يصدقها أحد..
ومع أن الطريق لم يستمر إلا ثلاثا وعشرين دقيقة، فإنها مرت كثلاث وعشرين ساعة من ثقل ما سُمع، رغم اعتياد الآذان على هكذا حديث، لكن الكلام عن الصحافة والإعلام بهذه اللهجة الحادة وخيبة الأمل والرجاء المنقطع من رسالتها، كل ذلك ترك أثرا غير قليل، وأثار تساؤلا مثارًا أصلًا حول دور الصحافة في وجهة نظر الآخرين..
لا يخفى على أحد أن انطباع هذا السائق الذي يمثل جزءًا أصيلًا وشريحةً كبيرة من المواطنين الذين لا غنى عنهم، إذ يعي الكل أن هناك المئات إن لم يكن الآلاف من المتخرّجين في الجامعات يعملون سائقين، لا سيما مع انتشار تطبيقات النقل الذكي، المنتشرة في كل ربوع المحافظات، خاصة مع تضاؤل فرص العمل من ناحية، ومن ناحية أخرى بات يعرّض الاعتماد على وظيفة أو عمل واحد صاحبه لتسول ما يكفي قوت أيامه، هذا بالنسبة إلى من تسمح لهم ظروف عملهم وأوقاتهم بالجمع بين أكثر من "شغلانة"، أما بالنسبة للعمالة غير المنتظمة أو أرباب المعاشات وغيرهم ممن ليس لديهم دخل محدد، فالله وحده يعلم كيف تسير حيواتهم..
انطباع السائق عن الصحافة، لا شك، يعبر عن قطاع عريض من المجتمع، والحق كل الحق مع وجهة النظر تلك، ولِمَ لا وقد أضحى دور المهنة مقتصرًا على وجهة نظر واحدة، وفي زاوية محددة وموجهة، وقد سمع بأم أذنه، إن جاز التعبير، رسالة إعلامية نقلا عن جهاز تليفوني بمسماه، وعلى الهواء مباشرة؟ ولِمَ لا وقد أصبح من ينتقد قصورًا في مرمى الاتهام بعداء الطرف الآخر، بل بعداء البلد نفسه؟ ولِمَ لا وقد قد غاب أو غُيِّب دور الصحافة التي عُدَّتْ في وقت من الأوقات حلقة وصل بين المجتمع، والحكومة، كونها، كانت، صوت الشعب للحكومة وفي الوقت نفسه صوت الحكومة للشعب تغطي الجوانب الاجتماعية كافة، وتشمل جل الأفراد من الرئيس إلى أصغر فرد، كون الجميع في دائرة واحدة تسمى المجتمع.
غاب دور الصحافة كعين الشعب على المسؤولين بمن فيهم الحاكمون، وتلاشت كأداة لتنوير عقل الإنسان، وآلية إرشاد، فبات استخدام بعضها أو إن شئت معظمها وسيلة للدعاية والتمجيد وتحقيق المكسب، وقلة الحيلة كذلك، فلم تعد كما تحدث عن مستقبلها الدكتور حمزة عبداللطيف، بأنها قادرة على صنع الأعاجيب، إذا كانت تتمتع بالحرية، لها ظهر لا ينثني ورأس لا ينحني، وطاقة على الدأب في سبيل تحقيق الغاية، ومقاومة الشرور والظلم وبعث الإصلاح في شتى مرافق الحياة، فظهر المنتج الأخير كأنك تقرأ أو تشاهد نافذة إعلامية واحدة.
وفي الأخير، هل يُمكن أن تُكرَّس الصحافة للصالح العام؟ تنتقد المقصر وغياب الكفاءة، وتمدح المجتهد والذي يعمل بجد، بعيدًا عن العاطفة والتحيز والتعصب، تكون لها مواردها المستقلة بغض النظر عما تقدمه من محتوى لا يتدخل فيه أي مسؤول أو صاحب شركة أو مؤسسة، ولا تخدم طرفًا على حساب آخر، فتضحى مهنة لا تستميلها الصدقات، ولا يرهبها الأعداء، لا تطلب معروفا، ولا تقبل امتنانا، عادلة ومنصفة لجميع الآراء، همّها الأوحد المواطن ولا أحد غيره، عند ذلك قد تتغير وجهة نظر سائق التاكسي، وكل سائق تاكسي.
---------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي