عرفت اللواء أحمد رجائي عطية قبل عشر سنوات، وزرته في بيته مراراً، كما كانت الاتصالات التليفونية بيننا لا تتوقف .. يسرد لي محطات هامة من حياته، وقد أجريت معه حديثاً مطولاً لجريدة "البحر الأحمر" التي كانت تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم، ونشر على صفحة كاملة، كما كنت استضيفه في احتفالات قصر ثقافة الغردقة في المناسبات الوطنية، وكان يلبي الدعوة بصحبة زوجته وأولاده وأحفاده،.. وكان اللواء رجائي كاتباً وشاعراً، وقد أمد المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات منها "نواص" وهو مذكراته في الحرب والسلم وقد استقينا منها مادة مقالنا هذا إضافة إلى حواراتي العديدة معه.
واللواء أحمد رجائي عطية أحد أبطال القوات المسلحة والصاعقة المصرية. وقد أبلى بلاء حسناً في محطات حياته وكان يتنفس حباً بهذا الوطن الذي عشقه منذ أن وعى، وهو يسير في المظاهرات التي تندد بالإنجليز وأعوانهم.. كان في المرحلة الابتدائية، كما شارك في قوات المتطوعين الذين كانوا يكافحون المستعمر الانجليزي البغيض في منطقة قناة السويس وهو دون الخامسة عشر، ثم التحق بالكلية الحربية وكان من المتميزين خلال سنوات الدراسة، ثم التحق بقوات الصاعقة، وكان من المؤسسين للمجموعة 39 قتال التي أنشأتها المخابرات الحربية وقد قامت بعمليات خلف خطوط العدو أثناء حرب الاستنزاف وكبدت العدو خسائر فادحة في معارك الاستنزاف وكل هذا كان له أثره في حرب أكتوبر 1973.
ولد أحمد رجائي عطية في إحدى قرى مركز أبو كبير بمحافظة الشرقية 1938، ونشأ في القاهرة بين أحياء بولاق والعباسية ومصر الجديدة، وكان يمضي الصيف في أبو كبير بين أحضان الطبيعة الخلابة يشاهد عن كثب طبائع الريف وأهله الطيبين، الذين أثروا فيه، كما تأثر أيضاً بطبائع أولاد البلد في حي بولاق الذين تغلب عليهم الشهامة والدفاع عن الأهل، كما جاور الجاليات الأجنبية الموجودة بمصر في ذلك الوقت، لكل ثقافته، وفي هذه الأحوال تنشأ ثقافة التأثير والتأثر، وكان يشغل فراغه بالقراءة في التاريخ والجغرافيا وعلم النفس وسير الأبطال وقراءة الشعر والقصة والرواية..
جده لوالدته كان أميرالاً (عميدا) بالجيش المصري، ومشاهدته عن قرب للنضال ضد الاستعمار في القاهرة ومدن القناة، كل ذلك ألهب شعوره عندما حصل على التوجيهية، صمّم أن يلتحق بالكلية الحربية مصنع الأبطال، وكانت أمه تؤازره، وتلهب حماسه، وفي الكلية الحربية بز أقرانه، وتفوق في التدريب والتحصيل وكانت له مهارات رياضية وحصل على جائزة بطل الرماية، وتميز في الملاكمة وكذلك كانت دفعته هي أول دفعة تحصل على فرقة صاعقة محلية، هذا السلاح الذي سيكون له شأن فيه خلال تواجده بالقوات المسلحة بعد ذلك. وقد تأثر بالعديد من القادة من أمثال: اللواء أركان حرب محمد فوزي مدير الكلية الحربية، والعقيد أركان حرب جمال حماد كبير المعلمين بالكلية...
تخرج رجائي من الكلية الحربية في مايو 1958 والتحق بسلاح المدفعية، وخدم في إحدى وحدات المدفعية في السرية 21 هاون، وكان قائدها في أجازة مرضية، فتولى قيادتها وهو برتبة ملازم ثان، ومضى يدرب جنودها حتى حصلت السرية على المركز الأول للقوات المسلحة، بعدما كانت من أسوأ الوحدات، بعدها نقل للواء مدفعية آخر، وهنا يقابل قائد اللواء العقيد أ.ح جمال محفوظ (اللواء محمد جمال الدين محفوظ مدير إدارة التوجيه المعنوي في حرب أكتوبر، وصاحب الدراسات العسكرية الإسلامية)، واستفاد منه ومن نصائحه، ولكن أهم نصيحة تعلمها منه كانت "الضابط يساوى نوتة وقلم".. منذ هذه اللحظة كان يدّون كل يقابله من أحداث، ومازال يحرص على ذلك بصفة يومية حتى يوم رحيله وكل كتبه وأشعاره التي أنجزها بعد ذلك كانت من ثمار هذه النوتة..
في قوات الصاعقة
ذهب الملازم أحمد رجائي إلى مدرسة الصاعقة للحصول على فرقة بها، وتميز فيها مما أثار أعجاب المقدم أ.ح جلال هريدي مؤسس وقائد قوات الصاعقة، والذي أصر على استبقائه في قوات الصاعقة وفي جناح العدو، وكان الضباط يستعينون بالأدلاء من البدو للسير في الجبال، وقد ألغى رجائي هذا وأصبح الضباط هم الأدلة، وقد وضع قواعد جديدة لأسلوب التعليم مختلفة تماماً يتعلم الطالب.. كيف يمكنه السير في الجبل دون الدليل.. كما كان رجائي أول من أدخل النزول من الطائرات الهيلوكوبتر دون الحبل أو الحلقة، وقد جرّب ذلك أمام الفريق محمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وقد قفز أمامه من ارتفاع 45 مترا في ترعة الإسماعيلية، كان مثار إعجاب القادة ومنهم الفريق فوزي نفسه الذي صافحه بحرارة وجسمه مليء بالطين.
في الجزائر ونواة تأسيس قوات الصاعقة الجزائرية:
بعد خدمته عامين ونصف في الصاعقة، سافر أحمد رجائي في بعثة إلى الجزائر وقتما كانت حديثة الاستقلال عن فرنسا، وكان الغرض من هذه البعثة المشاركة في إيجاد حل للخلاف بين الجزائر والمغرب حول مشكلة الصحراء الغربية، وانتهى الخلاف بين الجزائر والمغرب، وإذ بـ(هوارى بومدين) وكان يشغل منصب القائد العام للجيش الجزائري، يعرض تأسيس فرقة صاعقة جزائرية، وخصص له معسكرات تدريب بقرية "اسكيكيدا" في شرق الجزائر، وواجه صعوبات جمة لعدم توافر وثائق تدريب، واستطاع بالإمكانيات المتاحة تأسيس مدرسة الصاعقة، وقد درّب خلالها بعضا من أبناء الجزائر على الرماية والتكتيك واللياقة البدنية وتحويلهم بكفاءة من مدنيين إلى عسكريين متميزين، وقد مكث بالجزائر عاماً ونصف العام، أنشأ خلال هذه الفترة الوجيزة قوات الصاعقة ومدرسة الصاعقة ومركز تدريب للمستجدين..
في اليمن:
ذهب رجائي عطية إلى اليمن ضمن قوات الصاعقة، وقد تأثر عندما سمع مقولة من أحد أقربائه (خلى بالك أنك حتحارب ناس بتقول الله أكبر زيها زيك)!! ولما كلفت السرية التي يقودها بهدم بعض المنازل بحجة وجود ذخائر بداخلها، وذهب بالسرية هناك فوجد عائل البيت يختبئ هو وأطفاله وهو يهتف "الله أكبر"، فتذكر مقولة قريبه فلم يتعرض لهم بشيء، فكاد أن يتعرض لما لا يحمد عقباه، لولا أن الله سلم، وخرج من هذا الموقف بسلام.
التأكد من نية عدوان إسرائيل:
فى 29/5/1967 وقع الاختيار على النقيب رجائي للقيام بالاستطلاع في صحراء النقب، وتحرك باتجاه مطار (متسابية رامون) الذي يبعد عن الحدود مسافة 9كم، وتم رصد أرض الهبوط، ولم يجد فيه أي حياة مما يدل على عدم نية العدو استخدامها، وفى يوم 3/6/1967 صدرت الأوامر لنقل كتيبتي صاعقة يقودهما العقيد جلال هريدي قائد قوات الصاعقة بنفسه، وهناك شاهد بعين رأسه تخاذل القوات الأردنية، علماً بأن المدن الإسرائيلية كانت في مرمى نيران أسلحتهم، ورجع إلى مصر بعد نكسة 1967، ووجد اليأس يستولي على الجميع، ولم يستسلم هو، بل بدأ الكفاح بإنشائه منظمة سيناء العربية..
منظمة سيناء العربية
كان الصحفي وجيه أبو ذكرى على اتصال بكل المنظمات الفلسطينية، وذهب إليه النقيب رجائي في مكتبه بجريدة الأخبار، يطلب منه أن يدله على إحدى هذه المنظمات ليعمل معها، وبالفعل ذهبا إلى المناضل أحمد جبريل الذي توجس منهما خيفة، ففكر في إنشاء منظمة على غرار تلك المنظمات، كان حماس الشباب والكره لإسرائيل والرغبة في استرداد الكرامة هو الدافع الأهم لتسميتها بـ (منظمة سيناء العربية)، وضم إليها عدد لا بأس به من الضباط والصف الذين يثق بهم وفى قدراتهم، بالإضافة إلى الصحفي وجيه أبو ذكرى وكان لابد من الاستعانة ببدو سيناء وبالذات بدو جنوب سيناء، الذين يعرفون دروبها ومسالكها كما أنها منطقة جبلية يسهل الاختفاء بها والتعايش وسط كهوفها وجبالها، وبدأ الطور الأول من التكوين، والحماس يستولي على الجميع، وباع كلٌ ما يملكه من أجل التمويل، وقد باع رجائي سيارته الخاصة، وبدأوا يعقدون الجلسات على مقهى بالضاهر، وكان الاتفاق بينه وبين وجيه أن يؤازرهم إعلامياً عندما يستقرون بجنوب سيناء، وتم التعرف بشيخ قبيلة المزينة بسيناء يدعى الشيخ (بريك) والشيخ(المغبش) عن طريق ابنه (عيد المغبش) الذي كان بالقاهرة في أمر ما، والشيخ (سليمان مدخل) شيخ قبيلة العليقات، وأشار عليه هؤلاء بالاتصال بشيخ مشايخ سيناء وهو الشيخ (عيد أبو جرير)، وقد قابله وبعد أن تفرس الشيخ النقيب رجائي برهة، ثم قال له:"هناك ضابط وطني وشجاع يدعى اللواء محمد صادق.. أعرض عليه هذا الأمر وسيوافق"، وهنا أصيب بخيبة الأمل.
الغردقة.. قاعدة انطلاق لعمليات في طور سيناء
ذهب النقيب رجائي إلى لقاء اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية، وصمم أن يفاتحه في هذا الأمر، وقد فاجأه بأنهم كانوا مرصودين من قبل المخابرات الحربية، وفي الحال قررر اللواء صادق أن يلحقه بالمخابرات الحربية، وبعث به إلى مكتب مخابرات السويس الذي كانت تتبعه مدينة الغردقة والتي ستكون انطلاقاً للعمليات إلى طور سيناء بمساعدة العربان المتواجدين بمدينة الغردقة والذين نزحوا إليها عقب عدوان 1967، وقد كانوا على علم بكل دروب سيناء، من أمثال: (سالم أبو سالم) والذي تعدى الخمسين واستخدم رجائي في تلك العمليات على مراكب الصيد التي قادها (حسين عيد)، وكان معه ميكانيكي القارب، وكان محمد عوض سليمان رئيس شركة المصايد بالغردقة يقوم بتجهيز المراكب، وهو بورسعيدي الأصل، ومن العائلات التي هجرت بلادها بسبب الحرب، وقد كان له دور فيما بعد بالمشاركة في الخدمة الوطنية للدوريات التي قامت من الغردقة وتوطدت الصداقة بينه وبين رجائي بعد ذلك عندما خدم بمكتب مخابرات الغردقة..
وقد تم التحرك من منطقة نائية شمال مدينة الغردقة مباشرة تسمى منطقة (جبل أبو شعر) و(مكانها الآن مدينة الجونة) بمركب صيد - إلى الجانب الشرقي لخليج السويس، حيث يتم الإنزال بمنطقة (رأس جارة) بجنوب مدينة الطور وتبعد عنها بأربعين كيلو مترا، وتم استطلاع مطار (رأس نصراني) الذي نقل العدو المطار إليه من شرم الشيخ، وتم تصويره بثلاثة أفلام، وكم عانى رجائي طيلة تسعة أيام كان يراوغ قوات العدو التي تنتشر في كل الأرجاء بالاختباء داخل الكهوف والمغارات نهاراً والسير ليلاً، وأعجب اللواء صادق بنجاح هذه المهمة والتي تكررت أكثر من أربعين مرة بعد ذلك.
وفى 9 سبتمبر 1969، أغارت القوات الإسرائيلية على منطقة الزعفرانة شمال رأس غارب، وقتلت القوة التي تحرس الرادار الموجود بالمنطقة، وفكته وحملته ورجعت بعد بضع ساعات، وكانت تقصد من ذلك عملية تليفزيونية وفرقعة إعلامية، لكي تعوض خسارتها في حرب الاستنزاف في ذلك الوقت، وقد تحرك الرائد رجائي بأمر من اللواء محمد عبدالغني الجمسي نائب مدير المخابرات الحربية في طائرة هيلوكوبتر لاستطلاع الموقع والقتال مع القوى المعادية والتأكد من تطهيره.
وهكذا ظل اللواء ينتقل من نصر إلى نصر في الصاعقة والمخابرات إلى أن توج حياته بإنشائه للوحدة 777 صاعقة إرهاب دولي، وكان الدافع من إنشائها ضرورياً في هذا التوقيت وخصوصاً بعد استشهاد الأديب يوسف السباعي وزير الثقافة في قبرص، وبعدها قدم استقالته ولكن الفريق أول كمال حسن علي وزير الدفاع قام برفضها، حتى خرج للمعاش في بداية عام 1981 ليتفرغ لمجال آخر قومي وهو التعليم.
وقد رحل اللواء أحمد رجائي يوم الجمعة الموافق 5 مارس سنة 2021
----------------------
بقلم: أبو الحسن الجمّال
* كاتب ومؤرخ مصري