سألت الطفلة البديعة ميسرة والدها : " إذا كانت مصر هي أم الدنيا ، فمن هو " بابا " الدنيا ؟َ " ، واحتار الأب كيف يجيبها ، لأن أقرب إجابة وردت إلي ذهنه هي " أمريكا " ، ولكن المشكلة هي كيف يمكن أن تتزوج أمريكا التي لا يزيد عمرها عن قرنين ونيف ، من مصر ذات السبع تلاف سنة ؟ ، بمعني أن أمريكا لم تكن " بابا " الدنيا علي مدي التاريخ ، ربما كانت فقط كذلك خلال النصف قرن الأخير فقط ، بينما مصر يعترف لها التاريخ بأمومتها منذ أن تعرف التاريخ علي نفسه ..
في النهاية وجد الأب أن الحل العبقري والإجابة الأيسر والأسلم هو أن يقول لها : " أن أمريكا تعتبر " عم " الدنيا ، علي أساس أن من يتزوج أمي أقول له يا عمي !! " ، إلا أن تلك الطفلة المشاغبة لم تقتنع بهذه الإجابة ، لأنها مصممة علي أن تعرف من هو " بابا " الدنيا ؟ ، ولم يتخلص الأب من هذه المشكلة إلا عندما شاهدت طفلته برنامجاً في التليفزيون عن " بابا " الفاتيكان ، فتوجهت إلي أبيها قائلة له بشكل ساخر : " لقد عرفت من هو " بابا " الدنيا " ...
ولا جدال في أن العيال مشاكلهم كثيرة ، وأسئلتهم محرجة ، إلا أن إجاباتهم في أحيان كثيرة تعبر عن الحكمة التي قد لا يدركها الكبار ، وربما السبب في ذلك هو أنهم يصلون إلي بعض الحقائق بشكل مبسط ومباشر دون تعقيد أو فذلكة أو تحفظات عقلية ، لا تزال عقولهم طازجة بريئة طاهرة لم تتلوث بالرياء والنفاق والإدعاء أو الخوف ، وأسئلتهم – مثلهم – صغيرة بسيطة صريحة ، واكتشافاتهم دائماً مدهشة مثيرة ، وأحياناً كثيرة لها مغزي ..
لذلك فقد عادت " ميسرة " بعد عدة أيام كي تقول لأبيها وكأنها اكتشفت كوكباً جديداً ، أنها عرفت من هو " بابا " الدنيا الحقيقي ، وأنها تريد أن تصحح معلوماته ، لأنهـــا اكتشفت أن " البابا " الأول لا يمكن أن يكون " بابا " الدنيا ، لأن الفاتيكان أصغر من مدينة السادس من أكتوبر ، ولا يعقل أن يكون الأب أصغر من الأم .. وذلك بالطبع أمر منطقي .. واستطردت موضحة أن " بوش " هو " بابا " العالم بالتأكيد ، مدللة علي ذلك بأن الجميع يشكون منه في التليفزيون ، وقالت ضاحكة لأبيها " مثلما أشتكي منك طول الوقت " ...
لم يعترض أبوها علي استخلاصاتها ووافقها عليها حتي يريح رأسه ، ولكنه ما ارتاح ، لأنها جاءته بعد عدة أيام لتسأله مرة أخري : " إذا كانت مصر أم الدنيا ، وبوش أبو الدنيا ، فمن هم عيال الدنيا ؟ " ، وشعر الأب أن المسألة لن تنتهي ، فاليوم عيال الدنيا وغداً خال الدنيا وعم الدنيا إلي باقي شجرة العائلة .. فقال لها بحكمة : " الحكاية كلها رمزية " .. فسألته عن معني الرمزية ، وحاول أن يشرح لها وهي تنظر إليه بانتباه ، وحين انتهي قالت له وهـي تتثاءب : " لا أفهم شيئاً .. يعني مصر ليست " أم الدنيا " ؟ .. يعني الناس كذابين وهم يغنون " مصر هي أمي " وهذه الحاجات ؟ " ، ويبدو أن الأب قد شعر بأنه قد يتسبب في ضعف المشاعر الوطنية لدي طفلته ، لذلك فقد أكد لها أن مصر أم الدنيا ولكن الأب غير معروف ...
وذات ليلة جاءته ودموعها تملأ عينيها قائلة له أنها حزينة من أجل الفلسطينيين ، خاصة وأنها رأت جثمان طفلة فلسطينية قتلتها القوات الإسرائيلية ، سألته ببراءة : " لماذا يقتلون الأطفال ؟" ثم أضافت وهي توجه حديثها إلي أبيها : " لماذا لا تذهب إلي إسرائيل وتعاقبها ؟ " ، واضطر الأب أن يروي لها الحكاية بشكل مبسط : " الحكاية يا ابنتي أن ناس جاءت من أماكن بعيدة وأخذت بيت ناس آخرين ، ورمتهم في الشارع ، وهم يحاولون أن يأخذوا مجرد حجرة واحدة في البيت بلا فائدة " ، قاطعته بحدة : " ولكن لماذا لا يستعيدون البيت كله ؟ .. أليس حقهم ؟ " ، مسح شعرها وقال لها في حنان : " نامي .. هذا سؤال أعجز الدنيا كلها " ...
المشكلة أنه لا يمكنه أن يمنعها من مشاهدة التليفزيون ، ولكنها زادت تعقيداً عندما أصبحت قادرة علي التعامل مع الحاسوب والدخول علي شبكات المعلومات المختلفة ، أنها من جيل مختلف ، جيل يسأل ويعرف كيف يسأل !! ..
ليس هذا فحسب ، بل يبدو أنه جيل شكاك ( من الشك ) ، لا يقتنع بالإجابات البسيطة .. أن أباها يترحم علي زمن كان أقصي ما يمكن الحصول عليه من معلومات يتطلب تمقيق العين في آلاف من صفحات الكتب ، والإعتماد علي ذاكرة قد لا تخون .. زمن كانت كلمة الأب فيه فاصلة حاسمة ، بينما كانت الأسئلة – إن طرحت – ساذجة تدور حول الخرافات والأساطير وحكايات الجدة عن العفاريت وأبي رجل مسلوخة ..
وذات يوم جاءته وعيناها تطقان شرراً ، وقالت له : " لماذا لا تحارب الإسرائيليين الذين يقتلون الأطفال ؟ .. لقد قتلوا الليلة تسعة أطفال ! " ، وأحتار أبوها فيما يقوله لها ، أجلسها أمامه وبدأ يحكي لها حكايات الجبهة وليالي الغارات في قناة السويس ، عن لحظة العبور والشهداء ، عن تلك اللحظة المستحيلة التي ارتفع فيها علم مصر لأول مرة علي الضفة الشرقية للقناة ..
كانت تتابعه باهتمام وقد اتسعت عيناها ، وكان يظن أن هذه الحكايات سوف تدفعها إلي النوم ، مثلما كان يحدث له في طفولته عندما كانت جدته تروي له الحواديت ، لكنها وكأنها شربت ألف فنجان قهوة ، منفجلة العينين ، متحفزة ، مستوعبة .. وفي النهاية ، سألته بدهشة : " ولكن أين هو النصر والسلام الذي تحدثني عنه ؟ .. لا يزال الإسرائيليون يقتلون الأطفال .. أنا لا أصدق هذه الحكايات !! .. ولا يصح أن تكذب علي !! " ، ولكي ينقذ الأب مصداقيته أمام طفلته ، كشف لها عن ساقه كي يريها أثر شظية أصابته أثناء حرب العبور ، فقالت له ضـــاحكة : " ربما أصبت بها في مباراة لكرة القدم !! " ، ثم قالت له بشكل جاد : " عندما أكبر سوف أحاربهم بنفسي " ...
ورغم أن الأب يسعد لجرأة هذا الجيل الجديد ، إلا أنه يشعر بالأسي لفقدانهم الثقة في آبائهم ، ويتذكر أنه في شبابه كان بين جيله يرددون " نحن جيل بلا آباء " ، إلا أن ذلك كان مجازياً ، وليس له علاقة بمسألة الثقة ، وإنما كانت إشارة إلي أزمة المثقفين ، وذلك يختلف مع الوضع الحالي ، لأن الجيل الجديد لا يصدق جيل الآباء ، بل أنه يراه عاجزا عديم الجدوي .. فهل ذلك نوع من العقوق ؟ ، أم فشل في التربية ؟ أم تلك هي طبيعة المرحلة ؟ ...
أن جيل الآباء الحالي يحاول بالإغداق علي الجيل الجديد وتلبية طلباته أن يشتري " حب " هذا الجيل ، إلا أن ذلك قد يؤدي إلي إفسادهم بحيث إذا جاءت ساعة مواجهة حقائق الحياة وصعوباتها ، ينحني بفعل طراوة النشأة وسهولة البداية ، ومن ناحية أخري إذا حاول الآباء زرع المبادئ والمثل التي تربي عليها في الأبناء ، فأنه قد يضيف الحرمان إلي أزمة الثقة ، بما يهدد بانقطاع الحبل السري الذي يربط بين الجيلين ..
كان الأب يفكر في كل هذه الاسئلة حين دخلت طفلته علي استحياء ثم عانقته بشدة وامطرته بقبلاتها ، قالت له كلمات جميلة عن مدي حبها وتعلقها به ، فشعر وكأن الدنيا تطير به إلي سماوات السعادة والرضا ، وعبر لها بدوره عن أنها نور عينيه الذي يري به ، وعن أمنياته لها بالسعادة والصحة والتوفيق ، ثم اعتذرت له عن ضعف درجاتها في إختبارها الدوري الأخير ( وكان قد عاقبها بحرمانها من شراء الأقراص المدمجة التي طلبتها مؤخراً ) ، وعدته بأنها سوف تتفوق ورجته ألا يكون غاضباً عليها ، وأسعده تراجع عنادها وتصلبها ، وما أبدته من مشاعر صادقة خاصة وأنها أغلب الوقت أمام شاشة الحاسوب ..
وبعد دقائق من ذلك المشهد العائلي البديع ، قالت له فجأة : " إذن أنت سامحتني " ، فقال لها مبتسماً وطائعاً : " طبعاً يا حبيبتي " ، فاستطردت بسرعة وهي تبتعد عنه : " سأقول لماما إذن كي نذهب اليوم لشراء الأقراص المدمجة " ، ثم غادرت الحجرة وهو لا يزال في مرحلة الإستيعاب !! ..
بعد قليل ، دخلت زوجته قائلة له بعتاب : " ضحكت مرة أخري علي ذقنك !! " .. تحسس ذقنه ، ثم قال لها وهو يهز رأسه يائساً : " ليس لي ذقن علي أي حال !! " ...
-------------------------
بقلم السفير: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق