09 - 05 - 2025

روشتة تشخيص لا علاج !

روشتة تشخيص لا علاج !

القفز أو توهم القفز فوق معطيات الواقع والزمن ليس إلا نوعا من الوهم ، ولا يزيد عن قفز في المكان نفسه ، فهو وهم يرفض رؤية حقيقة أن الإنتقال بمجتمع من مكان إلي آخر ومن مكانة إلي أخري (إيجابا أو سلبا) يشتمل بالحتم والضرورة علي فكرة التدرج والمرحلية وبشكل حسابي دقيق ..

أو بمعني آخر ، لا يوجد شئ اسمه (إحراق المراحل) ، لأن كل مرحلة هي في التحليل الأخير مسافة وزمن وجهد ، يستحيل علي تجربة بشرية أن تخترق هذه الحواجز دون خسائر فادحة ..

لقد حاول محمد علي باشا ذلك ظنا منه أن جيشا كبيرا جيد التسليح يكفي لبناء إمبراطوريته ، متغافلا عن حقائق المجتمع المصري في عصره وأبعاد الوضع الدولي ، وكلاهما كان يتطلب بناء تدريجيا قد يستغرق عشرات السنين ..

ولقد وقع الخديو إسماعيل في نفس الخطأ ولكن من زاوية أخري ، حيث تصور أن العمارة المرصعة بمظاهر وقشور العصر تكفي كي يقف كتفا بكتف مع أباطرة وملوك أوروبا ، فكأن الأول كان يريد الإقتحام بالسيف في ميادين القتال ، والثاني بالجيتار في ساحة الأوبرا ! .

وبنفس المقياس "إحراق المراحل" ، وقع عبد الناصر في الخطأ وإن كان أكثر إدراكا ووعيا ، فقد كان الرجل يمتلك ملكات شخصية ، ومكتسبة كضابط أركان حرب تتيح له إدراك " المعضلة " التي حاول تفادي آثارها السلبية ، إلا أن حماسه وثوريته، وطبيعة النظام الديكتاتوري كان يدفع بإتجاه عدم الإلتفات إلي مخاطر عدم التدرج ، وأهمية التمهيد الصبور لبناء الإنسان المصري أولا .. وهكذا قيل "أنها كانت إشتراكية بلا اشتراكيين" ، و "عدالة توزيع الفقر" ، و "دولة المخابرات" ..إلخ ، والتي أدت في النهاية إلي النتيجة المنطقية التي تمثلت في هزيمة 1967 العسكرية.

قد يصعب فهم ما تقدم أو التسليم به علي إعتبار أن العصر الحالي يمتلك أدوات أتاحتها التكنولوجيا تسمح بالفعل "حرق المراحل" والقفز عبر الزمن بأشكال لا تتحدي العلم أو تخترق طبيعة الأشياء ، وأن التحدي الماثل هو "اللحاق بالعصر" ولن يتسني مواجهة هذا التحدي بنفس أدوات وأفكار عصور مضت.

ولكن .. هل يمكن لأي مجتمع أن يتقدم خطوة للأمام دون أن يتسلح بالعلم ؟ ، العلم الحقيقي الذي ينير العقول ويزيح الظلام عن الإدراك والوعي ..هل يستطيع اقتصاد مريض ، يفتقد إلي فلسفة حاكمة قابلة للتطبيق أن يتحمل أسلوب "الصدمات الكهربائية" من أجل "حرق المراحل"؟..

بل هل يمكن أن يتحرك المجتمع دون أن يتوفر له مناخ الاستقرار والأمن والحرية بشكل يسمح بالمبادرة والإبتكار وممارسة النقد الذاتي البناء والضروري ، كعناصر لا غني عنها للانتقال من وضع الجمود إلي وضع الحركة؟.
-------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب