سألني ذلك الشاب مندهشاً، وعيناه منديّتان بدموع : " ألست حزيناً علي السيد حسن نصر الله ؟" ؛
قلت له : بلي ، ولكنني أغبطه علي ما ناله من جائزة كبري ، وذلك يخفف الأحزان كثيراً .. ".
لقد رأيت بعيني جثمان أحد الرفاق بعد أيام من استشهاده ، ولم نكن في وضع يسمح باسترداد جثمانه بسبب نيران العدو ..
عندما تأملت إلي ملامحه ، كان هو نفس مصطفي رفيق عنبر الكلية الحربية ، بل إنه كان متبسماً ، يبدو قريراً مرتاحاً، ولم نلحظ أي انتفاخ أو رائحة ، مثل ما كانت عليه جثث جنود العدو التي كانت علي مقربة منه ، وتقريباً قتلهم مصطفي قبل أن يستشهد ..
يا بني .. كانت تلك والله أعز الجوائز التي نرجوها من الله ، وأهم من كل الأوسمة التي تقلدناها فيما بعد ..فأي شئ يمكن أن يعادل شهادة نكون بعدها " أحياء نرزق عند ربنا في جنات النعيم " ..
ذلك وعد الله ، والله لا يخلف وعده .
تحية للرفيق الشهيد مصطفي عبد السلام ، وليس لدي أدني شك أنه يسمعها مني الآن ، ولعله يبتسم وهو يتذكر تعاهدنا في آخر لقاء بنادي الجلاء قبل الحرب أن نستشهد معاً في عملية صاعقة خلف خطوط العدو .
" مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا " .
***
لم اتذكر " العبور " فقط ، بل أنني في ذلك اليوم قبل ستة أعوام ، وفي ظلام الزنزانة ، استحضرت يوسف الصديق ، فأنا مثله ، مسجونا بلا جريمة ، وقد قُد قميصي من دبر ، ولكن الشاهد لم يكن أمينا .
همست متبسما: " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي مصيبتنا "....
وكان الهواء قد فر من الزنزانة ، وآلام الصدر مبرحة بعد يوم طويل قضيته معصوب العينين ، مقيد الذراعين ، ينقلونني من مكان إلي آخر في سيارة التراحيل الضخمة ، بلا ماء او طعام بل وأخذوا مني الدواء بإعتباره من الممنوعات ..
ضربت بكلتا يدي علي باب الزنزانة وانا أهتف كي يفتحوا الطاقة الصغيرة التي كانوا قد اغلقوها باللحام ، كنت اختنق فعليا ..
في النهاية استلقيت كي اوفر طاقتي ، واستحضرت أيام الجبهة والملاجئ المدفونة تحت الأرض التي كنا نعيش فيها صيفا وشتاء ، ووجدتني أتبسم مرة أخري ، لأن المقارنة لا تصلح ، فشتان بين شاب في عنفوان العشرين ، وشيخ يزحف إلي السبعين ..
ثم .. كأنني سمعت يوسف الصديق الذي كان أيضا في حبس إحتياطي ، يقول في صوت عطوف :" ستمر الأيام العجاف ، ثم يأتي بعد ذلك زمن فيه يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " ..
قلت لنفسي متبسما :" ربما كان يوسف في هذه الزنزانة أو في مكان قريب منها".
ثم غبت عن الوعي ..
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق