في عام ٢٠١٤ جمعني لقاء مع احد قيادات حزب الله ، على هامش مؤتمر سياسي كانت تستضيفه العاصمة السودانية الخرطوم ، وكنت أحضره بصفتي الصحفية .في ذلك الوقت كان حزب الله في ذروه تورطه او تدخله في مستنقع الدم السوري، حين أرسل الالاف من عناصره للقتال إلى جانب النظام السوري ضد الانتفاضة الشعبية التي بدأت سلمية وسرعان ما تحولت إلى حرب أهلية دامية والتي كادت أن تطيح بنظام الأسد لولا الدعم والاسناد الإيراني ،وكان حزب الله جزءا من ذلك الإسناد.
خلال تلك الفترة انتشرت على نطاق واسع صور ومشاهد منسوبة لمسلحي الحزب وهم يستجوبون ويعذبون المعارضين السوريين بصورة بشعة، بينما يرفعون ويرددون شعارات طائفية طافحة.كما نسب لهولاء المقاتلين الكثير من الجرائم والممارسات والانتهاكات اللا أخلاقية بحق السوريين والنساء السوريات .
سألت هذا القيادي البارز والذي كان مسؤول العلاقات العربية في حزب الله أنذاك ،عما إن كانت قيادة الحزب تدرك حجم الثمن الفادح الذي دفعه الحزب من صورته وسمعته في االشارع العربي نتيجة تورطه في سوريا و الجرائم التي اقترفها مقاتلوه هناك؟ وكيف تحول من قوة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي تحظي بشبه اجماع في الشارع العربي ، وكيف كان الناس يحتفلون به وبصموده في وجه العدوان عام ٢٠٠٦، إلى جماعة طائفية والغة في الدم السوري ؟
وقد فاجأني الرجل بصراحته حين أخبرني أن الحزب يدرك جيدا فداحة هذا الثمن، كما يدرك حجم الضرر الذي لحق به بصورته في الشارع العربي جراء تدخله في سوريا ..لكنه استدرك قائلا إن هذا التدخل كان مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا ..." أرجو أن تفهموا جيدا أننا ما تدخلنا دفاعا عن نظام بشار الأسد بقدر ما كنا ندافع عن وجودنا نفسه، ولإبعاد السكين عن رقبتنا بمنع سقوط النظام في سوريا".
أضاف متسائلا: "هل تعلم ما معني أن تسقط سوريا في يد الجماعات المتشددة والجهادية والتكفيرية، وما معنى أن يسقط نظام الرئيس بشار ..معناه اننا سنكون الضحية القادمة".
خلال النقاش قدم الرجل الكثير من الحجج والمبررات التي اعتبرها برأيه كافية لارسال مقاتلي الحزب إلى سوريا، وقد انتهى النقاش بيننا وأنا مازلت متمسكا بموقفي بأن حجم الخسارة التي لحقت بالحزب وصورته كحركة مقاومة وطنية لبنانية كانت أفدح بكثير من أي مكسب يتصور او يظن أنه حققه نتيجة هذا التدخل الذي جعله يبدو مجرد بيدق من بيادق إيران والحرس الثوري الإيراني. تقبل الرجل وجهة نظري برحابة صدر ودعاني لزيارة بيروت لاستكمال النقاش يوما ما وهي الزيارة التي لم تتم .
اليوم وبعد مرور عشر سنوات على هذا النقاش، يتضح ويتكشف أن حجم خسارة حزب الله نتيجة تورطه في سوريا كان أفدح من مجرد تضرر صورة وسمعة الحزب..بل إن المحنة الوجودية التي يعيشها الحزب وأنصاره في هذه اللحظة عقب الضربات المزلزلة التي تلقاها من إسرائيل والتي بلغت ذروتها باغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله ومعظم قيادات الصف الأول به، وهذه الاختراقات الإسرائيلية المدهشة لصفوفه وكوادره، كانت في أحد جوانبها إحدى ثمار الحصاد المر للتدخل في سوريا . إذ شكل هذا التدخل كما تشير بعض التقارير الاستخبارية فرصة ذهبية ثمينة لإسرائيل لدراسة وتتبع عناصر وقيادات الحزب وجمع معلومات شاملة عنهم. بل ومراقبة وتقييم ادائهم ومدى كفاءتهم القتالية خلال وجودهم في سوريا .
صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية وفي تقرير لافت لها بعنوان "حسن نصر الله وبشار الأسد: الحرب السورية التي غيرت حزب الله " كشفت عن أن تدخل الحزب في سوريا منذ عام 2012 لدعم نظام الأسد في قمع الانتفاضة المسلحة ضده ونشر الالاف من مسلحي الحزب على الأراضي السورية كان مثل "كعب أخيل" بالنسبة لإسرائيل لاختراق ومراقبة الحزب وعناصره. إذ شكل ذلك فرصة ذهبية لإسرائيل الفرصة لقياس وتقييم قوة الحزب عسكريا وكفاءة مسلحيه، كما أنه مكن الاستخبارات الإسرائيلية من جمع كم هائل من المعلومات عن قادة عمليات حزب الله وأخلاقياتهم ومدى التزامهم الحزبي،
وحسب تقرير الصحيفة فان هذا الانتشار لمقاتلي الحزب في سوريا وسعى الحزب لتجنيد المزيد من المقاتلين جعلهم عرضة لاختراق وربما التجنيد من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية والغربية .
وتضيف الصحيفة في تقريرها أن تورط حزب الله في الحرب في سوريا أتاح الكثير من البيانات لعملاء إسرائيل - ولخوارزمياتها - ومن بين هذه البيانات كانت إعلانات القتلي في صفوف مسلحي الحزب، والتي كانت تحتوي على معلومات مثل البلدة التي ينتمي إليها المقاتل، والمكان الذي قُتل فيه، وأصدقاؤه الذين ينشرون الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي. كما كانت جنازات هولاء القتلي فرصة أخرى لعملاء إسرائيل لجمع المزيد من المعلومات. فقد كانت هذه الجنائز فرصة لمراقبة بعض القادة الكبار الذين يخرجون من الظل، ولو لفترة وجيزة لتشييع بعض الضحايا.
وتنقل الفايننشال تايمز عن سياسي لبناني سابق رفيع المستوى قوله إن اختراق حزب الله من قبل المخابرات الإسرائيلية أو الأمريكية كان "ثمن دعمهم للأسد....كان عليهم أن يكشفوا عن أنفسهم في سوريا"، حيث اضطر التنظيم السري فجأة إلى البقاء على اتصال ومشاركة المعلومات مع أجهزة المخابرات السورية الفاسدة أو مع أجهزة المخابرات الروسية التي كانت تخضع للمراقبة الدائمة من جانب الامريكان".
كل ذلك وغيره مع ما تملكه إسرائيل من إمكانيات تقنية متقدمة ووسائل تجسس ومراقبة فائقة الدقة، سمح لها بجمع كميات هائلة من المعلومات والبيانات والصور التي تولت وحدة متخصصة بالمخابرات الإسرائيلية تعرف باسم "وحدة 9900"، مهمة فرزها وتحليلها وترجمتها إلى معلومات محددة عن كل أنشطة وعناصر الحزب وهوياتهم وأماكن وجودهم .. وحسب التقرير فإنه بمجرد تحديد هوية أحد عناصر حزب الله، يتم رصد تحركاته اليومية وإدخالها في قاعدة بيانات ضخمة، حيث يتم جمع المعلومات من أجهزته الإلكترونية أو الأجهزة الخاصة بعائلته.. وهكذا نجحت إسرائيل ومخابراتها في اختراق صفوف حزب الله وصولا إلى قادته الكبار.. ونتيجة ذلك كان هذا الزلزال الذي ضرب الحزب وقيادته بشكل لم يحدث منذ تأسس الحزب قبل أكثر من أربعين سنة.
ومع ذلك يظل السؤال.. هل كان التورط في سوريا وحده المسؤول عن هذا الانكشاف الأمني المدهش لحزب الله في مواجهة إسرائيل ، أم أن ثمة عوامل عديدة أخرى ساهمت في ذلك، وعلى رأسها التفوق التكنولوجي والدعم والاسناد اللوجستي غير المحدود لاسرائيل من جانب الحلفاء الغربيين؟ .. وأيا تكن الإجابة فإن تدخله في سوريا ،كان نقطة تحول تاريخية لم يعد الحزب بعدها كما كان قبلها ولن يعود !
----------------------------------
بقلم: شحاتة محمود
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)