13 - 10 - 2024

على حبيش .. ملك النحت على الخشب

على حبيش .. ملك النحت على الخشب

انجذب منذ صغره لنجارين القرية التقليديين الذين يصنعون الساقية، والنورج، والزحافات. تابع الفلاحين وهم يصنعون الأوتاد وأيادى الفؤوس والناف.. اعتقد أن الكثير لا يعرف هذه الأشياء.. أنها أدوات الزراعة التى كانت تعينهم على الزرع والحرث والرى والحصاد، وكلها من الأشجار الخشنة كالسنط والتوت والزنزلخت والبأس. كان تنفيذ هذه الأشياء يتم يدويا پأبسط الأدوات، ويخرجونه بمهارة. تابعهم على حبيش، وأحب النحت الخشن من إعجابه بصبرهم فى التنفيذ والانتهاء.

لا يتقيد حبيش بنوعية محددة من الخشب كى ينفذ إبداعاته. يكسر كل الشروط والقواعد الخاصة بنوعية الخشب وأهمية تماسك لحاءاته وسهولة النحت عليه، أنه يقوم بمعالجة لحاءاته حتى لا يتشقق أو يطوله السوس. تمرد الفنان على كل هذه الشروط وقرر أن ينفذ ما يتخيله فى أى قطعة خشب مهما كان نوعها ليقوم بتحريرها من كتل الخشب لتتحول الأشجار الضخمة إلى عجينة بين يده يصارعها بأدوات النحت ويتغلب عليها ليخرج ما يراه فيها من أشكال وموضوعات ترتبط برؤيته الخاصة.

هذا ما شاهدناه بمعرضه الاستيعادى المقام الآن بقاعة ضى بالزمالك فى بداية الموسم الفنى لهذا العام.

أنواع كثيرة من خشب السنط والتوت والزنزلخت والبأس والسرسوع، وحتى الكافور. ولكل قطعة فنية حكاية فهو لا يذهب إلى شادر الخشب ليشترى ولكنه يتجول بين الحقول يبحث عن فريسته. وما أن يرى فيها ضالته حتى يقرر شراءها ونقلها إلى ورشته الخاصة بالنحت. وان استعصى النقل التقليدى على ظهر سيارات النقل يقوم بتهذيبها فى نفس المكان أو يجرها بواسطة جرارات الحرث إلى ورشته. فنان عنيد فريد ومتميز لا يهدأ الا بتحقيق ما يراه خلف لحاءات الشجر .

كل الأشجار بأنواعها خامات طيعة لتنفيذ إبداعاته وهو خبير فى تناولها. فهناك نوعيات من الخشب لا يجب أن يبالغ فى تأكيد التفاصيل حتى تحتفظ بتماسكها. لا بأس.. يركز الفنان على الكتلة المتماسكة ويبتعد عن التفاصيل . هل هذا يقلل من قيمة العمل..لا أعتقد ذلك فقد يحتاج إلى اختيار التكوين الذى يصلح مع نوعية الخشب وطبيعة اللحاءات حتى يكون التماسك .

ففى تمثال "ثورة الحجارة" على سبيل المثال راعى الفنان طبيعة الخشب. ورغم أن الثورة ترتبط بالانفعال والحركة الا أن الفنان أهتم بالبناء القوى المتماسك وشكل شاب يقف فى تحد يرفع يديه ممسكا بالحجارة وملامح وجهه بها تحد وقد اهتم الفنان بتعريض صدره كنوع من التحدى وبذكاء ملفت استخدم النحات الضوء والظل ليقوى الفكرة. ففى أى مكان يوضع فيه التمثال وبسقوط الضوء من أى جهة يصنع ظلال تقوى فكرته وتعظم الحالة التى قصدها الفنان وإمكانياته العبقرية.

فى عمل آخر لوجه سيدة شاهدها فى الساق وجذع شجرة ضخمة وقرر أن يحررها من الجذع المتمدد الجذور وبدأ بالنحت الشاق ليبرز ملامحها بالحفر والتفريغ والتنعيم حتى وصل إلى هذا العمل الذى وصل ارتفاعه إلى المتر وعرضه اقترب من المترين تقريبا. واختار قاعدته من نفس نوع الشجرة أيضا ليضيف قيمة أخرى للعمل. كذلك تحرر "وجه الغزالة" من جذع شجرة أخرى استطاع الفنان رؤيته داخل الخذع فقام بكشفه ونحت الخشب المتراكم على هذا الوجه الذى تخيله وقام بتحريره.

فى معظم أعمال الفنان تتأكد الملامح المصرية ويحرص على أن تكون حاضرة. ترتبط الأعمال بأيدولوجية حبيش المتمردة الناقدة لكل ما هو سلبى. أو هكذا يرى فى منحوتاته للفلاحات والفلاحين، وفى العلاقات الإنسانية المرتبطة بالحب والصداقة والعمل والكفاح، وأيضا فى الموروث الشعبي، وايضا يهتم بالموضوعات الخاصة بالعمل والكفاح وقضايا الحرب والسلام.

ويتنقل حبيش بين أسطاوات سمكرة السيارات، ويتابعهم كما تابع النجارين البسطاء بأدواتهم وقدرتهم ومهاراتهم فى التصنيع بأقل الادوات. يتابع حبيش سمكرى السيارات وهو يطرق على الصاج ليعيده إلى ما كان عليه. ويقوم بتقديم أعمالهم من متوسط وجيد وماهر بدرجة فنان. ويدخل فى تحد مع نفسه فى تنفيذ أفكاره بالتشكيل بالحديد والصاج. هذا أمر معقد وهو يحب هذا التحدى. وقد نجح وتميز فى هذا الجانب أيضا. فنان يتحدى نفسه فى تشكيل أعماله بخامات صعبة يطوعها ويسيطر عليها ليصبح خبيرا فى كشف أسرارها وتأكيد أعماله من خلالها.

الفنان على حبيش مواليد الشرقية 1948 حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم النحت 1973، ووصل إلى درجة الأستاذية فى النحت الميدانى كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان. أقام العديد من المعارض الشخصية، كما شارك في المئات من المعارض المحلية والدولية داخل مصر وخارجها، وله عدد من المجسمات المنصوبة في ميادين مصر، وتمثال ميداني في دار الأوبرا المصرية، ومكتبة الإسكندرية، وأقام أول تمثال في العالم عن تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة صالون الإسكندرية الأول وجائزة يوم الأرض، وله مقتنيات في متحفي الفن الحديث، وأحمد شوقي بالقاهرة، فضلاً عن متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية (شمال مصر)، ومقتنيات في مؤسسات دولية في بلدان مختلفة.
---------------------------
بقلم: د. سامى البلشى