في حوار مهم بين مدرسات سمعته في أحد العيادات الطبية حول أزمة التعليم المتراكمة والتي اتخذت هذا العام شكلا جديدًا مع تولي الوزير الجديد الحالي مهام عمله، وقراره بتطبيق سياسة ونظام جديد أو مُكمل للسياسات السابقة، دون إعطاء فرصة للتجربة في عدد من المدارس.
النظام الجديد اقتضى تطبيق تخفيض كثافة الفصول – وهي خطوة جيدة – وذلك عبر تطبيق نظام الفترتين، في المراحل الدراسية المختلفة (الابتدائي والإعدادي والثانوي)، في الابتدائي الفترة الصباحية لتلاميذ الصفوف (الأول والثاني والثالث)، والفترة الثانية لصفوف (الرابع والخامس والسادس)، وفي الإعدادي والثانوي الطالبات بالفترة الأولى، والبنين في الفترة الثانية.
إلى الآن والامر جيد ليقل مستوى الكثافة إلى معدلات لا تتجاوز الـ50 طالبٌا، ويبدأ من 40 طالبًا، وإن كان البعض يعتبره ما زال عاليًا، إلا أن المشكلة جاءت في ندرة أو العجز الملحوظ في عدد المعلمين في جميع المراحل، وهو ما دفع وزارة التربية والتعليم للجوء إلى الاستعانة بالخريجين في الخدمة العامة، وأصحاب المعاشات من المدرسين والمدرسات، أو اللجوء إلى خريجي الجامعات، وربما غيرهم للعمل شبه التطوعي في التدريس.
المشكلة الأكبر والأكثر تعقيدا أن هذا كله يتم دون وضع ميزانية واضحة لتغطية الاحتياجات المالية الكافية لاستقطاب حقيقي للراغبين للعمل في التدريس، خصوصا أن التجارب العملية أثبتت أن العمل دون مقابل مناسب لا يأتي بنتائج حقيقية، فليس من المقبول أن تعمل مدرسة مقابل 4 جنيهات في الشهر، وكأن الوزارة تقول لها ابحثي عن الدروس الخصوصية والمجموعات المدرسية من اليوم الأول.
وفي تحليل ميداني أعدته نشرة (عدسة) لمركز "حلول للسياسات البديلة"، يؤكد أن الطلاب بدأ عامهم الدراسي الجديد في ظل عجز شديد في أعداد المعلمين في المدارس الحكومية في جميع مراحلها.
ومن المهم الربط بين أزمة نقص المدرسين وتقليص الإنفاق العام على التعليم وتوقف الحكومة عن تكليف خريجي كليات التربية، واعتمادها توظيف معلمين بعقود مؤقتة (بالحصة) ما يحولهم إلى عاملين موسميين بأجر بدلًا من مهنيين مستقرين وشركاء في الإصلاح التعليمي.
ومن المهم قراءة هذه الأرقام، حيث اشتدت أزمة عجز المعلمين في العامين الأخيرين وارتفع النقص بنحو 170.8 ألف معلم ومعلمة خلال 2022-2024، فيما تحتاج الحكومة حاليًّا إلى توظيف 398.3 ألف معلم من أجل مواكبة الزيادة في أعداد تلاميذ المدارس والوفاء بمستهدفات نسب الطلاب للمدرس الواحد، والتي من المفترض أن تصل إلى 22.6 تلميذ لكل معلم تطبيقا لخطة الدولة للارتقاء بمنظومة التعليم 2027.
ومن المهم البحث في أسباب ورود مصر في المركز قبل الأخير بين 43 دولة على المؤشر العالمي للقراءة في المرحلة الابتدائية، كما جاءت في مراكز متأخرة من حيث درجة تأهيل الطلاب في مواد العلوم والرياضيات في المرحلة الإعدادية.
والتحليل العلمي لذلك يرى أن هذا التردي يرتبط بعدم قدرة المعلمين على خلق بيئة تعلُّم صحية في ظل تكدس الفصول، والتأثير السلبي للنسب العالية من الطلاب للمعلمين على قدرة التلاميذ على التحصيل، والذي يتجلى في تدهور المهارات المعرفية في المرحلة الابتدائية في المدارس الحكومية.
وأعتقد أن هناك مسؤولية تقع على الحكومة فيما يتعلق بالعجز الشديد للمعلمين الذي يرجع إلى تجميد التعيينات، والذي تسبب في تناقص إجمالي معلمي المدارس الحكومية على مدار العشر سنوات الأخيرة بنحو 97 ألف معلم ومعلمة، بينما زادت أعداد الطلاب بـ 5 ملايين تلميذ خلال نفس الفترة.
ومن أهم النقاط التي رصدها تقرير (حلول للسياسات البديلة) أن السياسات التقشفية أدت إلى تقليص الدعم الحكومي لقطاع التعليم، وأنها من أهم عوامل تفشي ظاهرة عدم الاستقرار الوظيفي للمعلمين، التي تفاقمت في مصر في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع تطبيق الحكومة لشروط صندوق النقد الدولي التقشفية التي تتضمن تخفيضات في الإنفاق العام.
والسؤال المهم أين التزام الحكومة بالنص الدستوري بالإنفاق على التعليم قبل الجامعي بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي؟!، وهو وراء توقف وزارة التربية والتعليم عن تكليف الخريجين وسد العجز بشكل مؤقت وغير كافٍ عبر التعاقد مع بعض المدرسين بالحصة.
ثم هل سيستمر القبول بما أعلنته وزارة التربية والتعليم بالتعاقد مع معلمي العقود المؤقتة بمقابل مادي زهيد وصل إلى 50 جنيهًا للحصة بعد أن كان 20 جنيهًا حتى أغسطس 2024، ولكن مع شرط الوزارة بوضع 24 حصة أسبوعيًّا كحد أقصى لمعلمي الحصة لا يمكن تجاوزه، ليصبح أقصى مرتب يمكن أن يحصل عليه شهريًّا 4800 جنيه وهو أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 6000 جنيه.
الشفافية والوضوح مهم لحل قضية العجز في المدرسين، خصوصا ما يتعلق بعمل مدرسي الحصة وسط حالة شديدة من انعدام الاستقرار في ظل إجبار الوزارة إياهم على عدم المطالبة بالتعيين عند التعاقد، مع معاناة المعلمين المتعاقدين على العمل بالحصة بشكل عام من الإحساس بسوء المعاملة، والتمييز، وانعدام الأمان الوظيفي، وعدم الاستقرار لاضطرارهم إلى البحث المستمر عن عمل أو عقد آخر.
لابد من الوعي بأن استمرار العجز في أعداد المعلمين يعوق أي خطط أو قرارات معنية بالارتقاء بالتعليم، لذا يجب على الحكومة توفير وظائف تضمن ظروف عمل مستقرة للمدرسين، وعدم اللجوء إلى توظيفهم بعقود مؤقتة لما له من أثر كارثي على دور المعلم.
ولا شك أن التدريس بالحصة يجعل من المعلم يشعر أنه عامل مؤقت منشغل دائمًا بتوفير لقمة العيش، ويبعده عن الإسهام الإيجابي في تطوير المنظومة التعليمية، لذا يجب على الحكومة زيادة الإنفاق العام على القطاع من أجل الحفاظ على المهنة وضمان تعليم جيد للجميع.
ومن مخاطر نظام التدريس بالحصة أنه يحرم المعلمين من الحق في التشغيل العادل ويدفعهم إلى التركيز على الدروس الخصوصية حتى يستطيعوا الحصول على الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، بل يجعل مهنةَ التدريس مجالًا غير محبب للخريجين مما يدفعهم إلى الهروب منها والبحث عن وظائف بديلة.
إن إدراك الخطر مبكرًا خير علاج لأزمات تتفاقم في المستقبل.
-------------------
بقلم: محمود الحضري