13 - 10 - 2024

محمود الديدامونيّ: شَدْوُ الكازورينا والعَودَةُ إِلَى يَنابِيعِ القَصِّ والحيَاةِ والحُبِّ: (قِرَاءَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ في فنِّ الأُقْصُوصَةِ)

محمود الديدامونيّ: شَدْوُ الكازورينا والعَودَةُ إِلَى يَنابِيعِ القَصِّ والحيَاةِ والحُبِّ: (قِرَاءَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ في فنِّ الأُقْصُوصَةِ)

القراءةُ الإنشائيّةُ وأسئلةُ القصَّةِ القصيرةِ:

كثيرًا ما كنتُ أتساءلُ معَ صديقٍ ناقدٍ مبرَّزٍ سؤالينِ: أحدهما عن المنهجِ الذي يمكنُنا اعتمادهُ في  قراءةِ القصَّة القصيرة؛ لكونها سردًا مختلفًا عن السّردِ الرّوائيّ؟، والثَّاني: لمَ لا يُجدّدُ القاصُّ العربيُّ في فنونِ القصِّ؛ فيتجاوزَ المرحلةَ الإدريسيَّةَ، والجوهريَّةَ، والشَّارونيَّةَ إلى مناطقَ جديدةٍ منَ التَّجريبِ الذي يُعيدُ فنَّ القصَّةِ القصيرةِ إلى مكانها المعهود والمستحقِّ؟ فمن المفترض أن تكونَ هي فَنَّ العصر الحديث بإيقاعه السّريعِ اللَّاهثِ الذي اضطرّهم لاصطناعِ نوعٍ جديدٍ منها؛ أقصرَ وأدقَّ، وأكثرَ اختصارًا في تسميته؛ فأسموه بالحروف الأولى توافقًا مع سرعة الإيقاع، واختاروا الحروف الثّلاثةِ الأُوَل منَ الكلماتِ الأولى الحاويةِ لكلّ خصَائِصِهِ: ق. ق. ج.

وفي الحقيقةِ؛ ظلَّ هذَانِ السُّؤَالانِ شاغِلَينِ لي في كلّ قِرَاءةٍ لمجمُوعةٍ قصصيَّةٍ؛ حتّى أهداني القاصُّ الصَّديقُ محمود الدّيدامونيّ مجموعتَهُ الجدِيدةَ" شَدْو الكازورينا"؛ فظلَّ العنوانُ يداعبُ أذني؛ بوصفهِ عنوانًا صوتيًّا شاديًا، ويولّد صورًا متتابعةً أمامَ عيني وفي مخيلتي بحضور شجرةِ الكازورينا بزخم دلالاتها؛ فالعنوانُ شِعريٌّ غير مُستبعدٍ على شاعرٍ، والصّورة المستدعاة لشَجرة الكازورينا تردُّنا تلقائيًّا لعالمِ الرِّيفِ السَّاحرِ في طفولتنا بكلِّ أغاريدهِ، وشدوه، وذكريَّاتهِ، وخيالاتهِ، وهذه الصُّور والأهازيج المتداخلة جعلتني أُرجئ القراءةَ؛ خوفًا  من أنْ تُفْسِدَ الخيالاتِ الجامحةَ، والموسيقى الحنونَ العَذْبةَ...!

قرَأْتُ المجموعة فإذا بي نادمٌ على تأخير قراءتها والاستمتاع بها؛ فهذا صوتٌ سرديٌّ مختلفٌ في القصة القصيرةِ، يُجيبُ على السّؤال الثّاني؛ فقد مزج القاصُّ الواقعيَّ بالفانتازيّ، واليوميَّ بالنُّوستالجيّ الحميمِ، والملموسَ المعيشَ بالعجائبيّ السّاحرِ، في لغةٍ شعريَّةٍ تشفُّ وتسمُو، وتحلّق حتى تصلَ بنا إلى درجةٍ ساميَّة من شِعريَّةِ القَصِّ..!

شَجَرُ القَصِّ، وقصصُ الشَّجَرِ:

يلفِتُنا موضوع الشَّجرة التي نتمسَّكُ بظلّها وجذورها بروايات الشّجر الكثيرة في السّرد العربيّ والعالميّ؛ فللدكتور حلمي القاعود روايةٌ بعنوان:" شجرة الجميز" يهديها للجذور لا إلى الغصون والفروعِ والظِّلال؛ فهي شجرة العودة إلى الينابيعِ، التي تَحمينا من العواصفِ المتواليةِ الدَّاهمة، في مقابل " شَجرة البؤس" التي بدأتْ بها أشجار السَّرد العربي الحديثِ من لدن العميدِ، مرورًا بشَجرة العابد لعمار علي حسن، وشَجرة التفاح لطه الحرش حتّى تكاثفتِ الأَشجارُ وتشابكتْ أَغصانُها،  وتنوّعت أدوارها وثمارها...!

بقي السّؤال الأوّل ملحًّا: كيف نعالجُ فنّ القصة القصيرة منهجيًّا بعيدًا عن قراءة العناصر الكلاسيكيّة التّقليديّة؟ وقد كفانا الدّيداموني إجابة هذا السّؤال حين كتب نصًّا متكاملًا تكوينيًّا؛ فيمكنُكَ عدُّهُ متواليةً قصصيَّةً؛ مكوّنةً من ثلاثةِ أجزاء؛ هي: ( أصوات- متوالية للبَحرِ- ترنيمة البوحِ والألم)..!

عتباتُ القصّ وتذويتُ الكتابةِ الشّذريَّةِ:

 بلغَ القاصُّ بالأجزاء الثّلاثة درجةً من التّذويتِ الشّعريّ السَّرديّ تَضَعُنا أمامَ سَردٍ ذاتيٍّ، يعيشهُ الكاتبُ؛ بوصفهِ بطلًا متعدّدَ المشاعرِ والأطوارِ والوجوهِ؛ بما يتوافق مع تبدّل الزّمنِ وتطوّر الأحداثِ، وتغيّر المكان، بفلسفة الإثبات والمحو وفق حركة الكرونتوب/ الزّمكان، المزلزلة؛ لنبحَثَ مع هذه الشّخصيَّةِ عن شَجرةِ الكازورينا التي تُؤوينا من هذه الكوارث المحدقة بالإنسانيَّة، وقد تآكلت الإنسانيَّة إزاءها رويدًا رويدًا ثمَّ سريعًا سريعًا حينما تتحوّل شجرة الجنّة إلى شجرة للجانّ...!

ومع كلّ ما حاولته الدّراسات السِّيميائيّة بجهود العلّامة چيرارچينيت من قراءة المتعاليّات النَّصيَّة، في سبر عتباتِ النّصّ من الإهداءِ، والعنوانِ، والهوامشِ، وأيقوناتِ الغِلافِ والتَّنَاصّ وغيرها، ظلَّ الإهداءُ الرِّسَالةَ السِّريَّةَ التي تضمر وجهة النَّظر التي لا يسترها المجازُ؛ فالإهداءُ ،هُنا، يُشعرُنا بكلّ بواعثِ القَلَقِ والخوفِ من جرّاء الرّيح العاتيةِ التي تعصفُ بالإنسانيَّة لنبحثَ عن شجرةِ الحمايةِ: "إلى  شَجرة الصَّفصَافِ الصَّامدةِ في وجهِ الرِّيح  ...هناكَ على بُعد أَمتارٍ قلِيلةٍ مِن جَنَّتي" (ص5)؛ فإذا كان في القصِّ خيالٌ؛ فإنّهُ يسعى ليقولَ في النِّهَاية بطرائقهِ المخاتلةِ كلمةَ الإهداءِ التي يَكتبُها المبدعُ بعدما يَنْتهِي من نَصِّهِ كلِّهِ.

العَناوينُ وشَدْوُ القَصِّ:

 يُعنونُ الجزءَ الأوَّلَ"أصوات" فيذكِّرنا برواية" أصوات" لسليمان حزين، الرّواية المهضومة في تصوير علاقة الشَّرق بالغربِ؛ كثلاثيَّة حقّي والحكيمِ وصالح،  ولكنَّ أصواتَ الدّيدامونيّ غارقةٌ في محليِّتها؛ فتبدأُ بالقصّة الأولى" أصوات صَاخبة"، وكنا نتوقّع أنّهُ، بذلكَ، بدأ من أعلى لأدنى؛ أي من الصَّاخب للأقلّ ِصَخبًا؛ فإِذا بعُنوانِ الثّانيةِ" إعصَار"؛ ليتهيَّأَ القارئُ ليسمعَ أَصواتَ الرَّعدِ والصَّواعق؛ فإِذا بهِ يُنهِي الجزءَ الأوَّلَ بِـــ"شَدْوالكازورينا" الذي يهدهدُ مشاعرنا ويجمعُنا في ظلّها وحمايتها، وصوت طربها الرّخيم الذي يردُّنا إلى الجذور...!

ماذا يحدثُ حين تَصيرُ حبيبةُ الكاتبِ زوجَتَهُ؟!

* في القصَّة الأُولى نتمثُّل فيها الكاتب في صراعٍ بين نقيضينِ؛ فهو يجنح إلى  الصَّمتِ والسُّكونِ، والشَّوقِ إلى همس الأَصواتِ التي تهمس بها مشاعر المحبين، وشدو الغزل المتبادلِ في غرفتهِ حيث يعزف القلم على أوراقهِ لَحنَ الحُبّ، وضجيج الحياةِ خارجَ منزلهِ من الباعةِ والسَّابلةِ، وخارج غرفتِهِ؛ حيثُ تصرخُ زوجتهُ التي كانتْ بالأمسِ الحبيةَ الهامِسَةَ معَ  أَطفالهِ الذين يحفزّونها بأفعالِهم  إلى مزيدٍ من الصَّخبِ، والشَّغب المتصاعدِ، والضَّجيجِ المثيرِ المحفِّزِ على الغَضَبِ...!

* تَنْتَمِي القصَّةُ إلى ثيمةِ معاناةِ الكُتَّابِ التي تناولها الكثيرونَ قبله، وحلمُوا بعالمٍ من اليوتوبيا الحالمة، الذي يصحو فيه الكاتب الزّوج على همسِ الحبيبةِ بكلمات الغزلِ المهدهدةِ مع قبلاتها المحفزة؛ فإذا بهِ أمامَ واقع صاخبٍ مربكٍ، يخدش الرُّوح، ويثيرُ  كوامن  النَّفس؛ فيضعها أمام اختبارٍ صعبٍ من المشاعر الخالصة الصَّافية إلى المشاعر المختلطةِ المركّبة..!

  • هل يمكن للكاتب أن يستغنيَ عن الأُسرَةِ من أجل الكتابة، أو العكس؟، وكيف يمكنهُ الجمْعُ بينهما؟

ويجرّنا هذا السُّؤالُ إلى قضيَّة عدم زواج العقّاد، وتأخّر زواج نجيب محفوظ، وأنيس منصور، وعداوة الحكيم للمرأة لهذه الأسباب، وزواجه المتأخر، وغيرهم كثير من المبدعين...!

ومن ثمَّ؛ نجد الكاتبَ يواجهُ الصَّمْت الذي حلّ فجْأَةً برحيلِ الأسرةِ التي تركت له ورقة صفراء تعلن عن رحيلها، وخلوّ الشّارع "طنين الأسئلة يخرجنِي من لحظتِي، أهوى نحو الأسفل، كيف لِي بكلّ هذا الهدوءِ؟ فتحتُ البابَ، ولا أحدَ  ... فتَّشتُ في كلّ ركنٍ من شقتي الصَّغيرة، ولا مُجيبَ ... أرهفْتُ السَّمع لعلِّي ألتقط نبرة أحدِ، وكأنهم " فَصّ ملحٍ وذابَ " .. هبطتُ السُّلَّم وجلستُ أمامَ بوابةِ البيتِ، لعلِّي أحصل علَى إجابة من أحد الجيران، ربما يكونُ رآهم صدفة ، الأبواب مغلقة والشَّارع خالٍ تاما  .." (ص11)، يواجهُ الصّمت المفاجئ بصمتٍ أكبر في المقابل هو النّوم" دسستُ رأسِي بين كتبي القديمة، وأمسكت بطرف قلمِي، ورحتُ أخطُّ خطوطًا بعرضِ الأوراق وطولها ... كانت رأسي قد غلبتني فغططت فى نوم عميقٍ .."(ص11)

المفارقة القصصية: تعدُّ المفارقةُ أهمَّ سمةٍ  فنيَّةٍ محبَّبَةٍ في القصَّة القصيرةِ؛ لأنَّها تحملُ مُفاجأَةً تَكسرُ أُفقَ توقُّع القارئِ، وتجعلُ الحلَّ قريبًا منه؛ فيتذكرهُ بَعد مُفارقةِ القصَّةِ وتاريخ قراءتها، لكونِ التَّناقُضِ صَادمًا ومُدهشًا، ويتركُ حفرَةً في سطحِ الذّاكرةِ...!

ومن ثمَّ؛ ختمَ الدّيدامونيُّ قصَّتَهُ بمفارقةٍ، تحملُ صورةً داخليَّةً للّاوعي الشَّخصيّةِ، مع أنَّها تَرسمها أمامها بالقلم على سطح  أوراق مرصوصةٍ " أفقتُ .. كانت الخطوط قد شكَّلتْ صُورًا لأطفالي وهُم بصخبهم المعهودِ"(ص11)،وهو ما يفجّر إجابة الكاتب عن السَّؤالِ السَّابقِ الملحّ على أمثالهِ منَ الكُتَّابِ؛ فإنَّنَا نكتبُ لتكونَ الحياةُ أجملَ في النّهايةِ، ولن تكونَ دونَ سعادةِ مَن حَولَنا؛ تَصَاديًا مع ما صنعهُ محفوظٌ حين هجَرَ الكتابةِ بعد ثورة يوليو معتقدًا أنّها قد لبَّت كلّ ما يطمح إليه الكُتّابُ..!

شِعريَّة القصّ الدّيدامونيّ:

 يميّز محمود الدّيدامونيّ أنّه شاعرٌ؛ فيمكنه أن يستعين بشِعرٍ لهُ، أَو شِعرٍ يكتبهُ متوافقًا مع قصّهِ ليرفدَهُ بطاقاتٍ موسيقِيَّةٍ وإيقاعيَّةٍ وتخييليَّةٍ، تختزلُ النَّصَّ وتُكثّفُهُ، ولاسيّما أنّ الشّعر والأقصوصةَ أقربُ إلى التّكثيفِ والإيحاءِ لا المباشرةِ، فضلًا عنِ التَّعاطُفِ؛ فقَدْ يستميلُ به قارئَهُ العارفَ لشعرهِ المقبوسِ من دواوينهِ بالسّرقة الشّخصيَّةِ أو التَّناصِّ الذَّاتيِّ، كما  قدْ يجذبهُ من خلال شعرٍ يتساوقُ معَ السَّردِ في تداخل نوعيٍّ أقرب لذوبان الشَراب المعطّر في الماءِ المقطَّرِ؛ فتتدفّق المشاعرُ مع إيقاعِ النّصّ المهجّنِ:

-"ينسَابُ عبيرك فى أَوردَتي 
تتخلَّق فى قلبي زهرة 
تنمُو حول جداولِ عُمري 
تزهر حرَّة
أصبحُ كالنَّحلة أو ما أشبه
أمتص رحيقك 
فأحلِّق نحو فَضاءاتٍ قدسيَّة
لا أملكُ فيها إلاك ونفْسِي
يندي زهرك زهرِي
عمرك عمري 
تتَدفَّقُ أنهارُ العسلِ تصير حياة"(ص10- 11)

وفضلًا عنِ الاستعانة بالشِّعرِ الذي يجسّدُ المفارقةَ بين عالَمَينِ: عالمٍ واقعيٍّ صاخبٍ، وعالمٍ شعريٍّ هامسٍ؛ تجسّدهما لغةُ القصة في واقعيتها وصخبها فيما بعد الزّواج وضَجيجِ الأطفالِ، ولغة الشّعر التي تعود بنا إلى وقت الحبّ والهمس المنغَّم فيما قبلُ؛ فاللُّغةُ التَّصويريَّةُ المشحونةُ بالتَّوازن الإيقاعيّ في مناطقَ متفرّقةٍ ضاعفتْ من شِعريَّة القصِّ؛ كما نرى في تصويره لحظةَ الصَّمتِ التي خلَّفها اختفاءُ الصَّوت "صرير الصَّمت فى أذنيَّ يخرجنى من لحظتي، أنتزع قطعتي القُطنِ منهما، اختفى الصَّوتُ، وغابت صرخاتُ الأطفالِ على غير العادة، هدأتْ رُوحي .. أطفأتُ ضوء الغرفة، وعاودت تحليقي .. كان السَّطْر الثاني يلح على ذهني لأطلقه فى فضَاء الغُرفة" (ص10).

كما أنَّ استعانة القاصّ بالمسكوكاتِ والمأثورات الشّعبيّة أكسبَ النّصّ شعريَّةً مُضَاعَفَةً، وحميميَّةً تناسبان تحوّلاتِ الشّخصيَّة من العالم الطّوباويّ الذي تسيطر فيه عليه اليوتوبيا وهمس المحبِّين، واختيارات كلمات الحبّ ومعجمِه المجنّح في الخيالِ وعالم الواقعِ المعيش بأحداثهِ  المتجسّدة في لغة النَّاسِ التّلقائيّة الكاشفة عن انتمائهم إلى ثقافةٍ واحدةٍ، ينتمي إليها العقل الجمعيّ وإنْ سما السّامون وحلَّق المحلِّقون؛ فحينما غادر الأطفال وأُمّهم كان التّعبيرُ الأقرب للأديبِ الكاتبِ " كأنّهم فصّ ملح وذاب" (ص11).

نقدُ لُغةِ القصِّ:

حملَ الجزءُ الأوَّلُ عُنوانَ" أصوات"، ومن المفترضِ أن تأتيَ القصصُ الثَّلَاثُ المكوّنةُ له أقَلَّ في مكوّناتها لتجتمعَ فيه في النِّهايةِ؛ فالقصَّة الأولى التي حملت عنوان "أصوات صاخبة" كان يكفيها عنوانٌ مختصرٌ في كلمةٍ واحدةٍ؛ هُو: "صَوتان"؛ للتَّكثيفِ، والتّعبير عن المفارقةِ، والبُعدِ عن التّقريريّةِ التي حملَها الوَصْفُ" صَاخِبَة"، ولاسيَّما أنَّ الصِّراعَ في القصَّةِ بين صَوتين يصطرعانِ في نفسِ الكاتبِ، وإن نجحَ في حشْدِ كلِّ الحقولِ الدَّلاليَّةِ منَ الصَّخبِ إلى الهدوء في قصّته "المرتفعِ، نِدَاءَات، صَخَب، صَوتُك، صَرْخة، صَرخَات، المتدَاخِلَة، أَصْدَاء، صَرير، صَوتي، زَقزقَتْ، صَمْت، نَبرة، هَامِس، صَمْتي...إلخ".

ووقعَ الكاتبُ في أخطاءَ شائعةٍ، ماكان لمثله أن يقعَ فيها؛ إذْ كرَّر استخدامَ أداةِ الشَّرطِ "كُلَّما" "كُلَّما ابتعدنا كُلَّما زقزقت العصَافيرُ"(ص9)، والخلطُ بين همزة القطعِ وألف الوصلِ في" أنتزع قطعتي القطن .." (ص10)، وإن كان الخطآن الأخيران مصحَّحينِ في النُّسخة الإلكترونيَّةِ التي أرسلَها إليّ؛ فإنَّ النَّقدَ منوطٌ بالمطبوعِ؛ لأنّنا لم نكنْ لنآخذَهُ على الإلكترونيّةِ لو جاءَ المطبوعُ صَحيحًا...!

ومن المآخذِ، أيضًا، عدم التّفريق استخدام " أبدًا" الاستقباليَّة، مكانَ"قطّ" الماضويَّة" لم أكن أبَدًا لأستجيب لها"(ص10)، والكأكأةُ التي تُفسِدُ تدفُّق السَّردِ؛ أعني تكرارَ فعل الكينونةِ دُونَ داعٍ، ولاسيّما تكرارُها مع القدقدةِ؛ أعني استخدام "قد" دون داعٍ أيضًا "كانت أصداء قصيدة قديمة تتواتر على عقلي، كنتُ قد كتبتهُا لها"(ص10)، والبعدُ عن الحشو أَقْرَبُ لخصائص الأقصوصةِ؛ ممَّا يقتضينا أن نكتبَ الجُملةَ هكذا:"تواترتْ أصداءُ قصيدةٍ قديمة ٍعلى عقلي، كتبتُها لها" وفي الحقيقةِ نحن في حاجةٍ للنّظرِ في مُعظم أفعالِ الكينونة الواردةِ في المجموعةِ...!

وَنجدُ أَنْفُسَنا في القصَّة الثَّانية "إعصار"  أمامَ كابوسٍ، يمثّل حالةَ الخوفِ المسيطر على إنسانِ العصر الحديثِ؛ فيفرّ مستعينًا بعجائبيَّةِ الأحلامِ، إلى عالمٍ منَ الفانتازيا، ولكنّهُ يفجؤهُ بالأضغاثِ والمخاوفِ والمحاذيرِ؛ ليحدثَ الالتباسَ بين الآمالِ والمخاوفِ، والتَّداخلَ بينها في غُمُوضٍ وفَوضَى...!

ولعلّ القاصَّ هنا يدخلنا إلى عالمٍ يشبهُ عالمنا من حيثُ الفوضَى وعدم الاتِّسَاقِ، والاختناقِ الكابوسيّ، وإن كان يُنهِي قصَّتَهُ بالمفارقةِ أيضًا " نبتتْ أشجارٌ جديدةٌ أكبرُ وأكثرُ عُلوًّا ... استحالَ الفضاءُ إلى سوادٍ .. كدتُ أتلاشى من شدَّة الاختناقِ ... لولا أنَّ أطفالي عادت لتحملني محلِّقة بي بَعِيدًا  بَعِيدًا" (ص15)،ولعلّنا نلاحظُ وجودَ أطفالهِ  خيطًا  يربطُ مجموعتهُ ويسلكها في نظامٍ، وحينَ نصل إلى نهايةِ الجزء الأوّل  في قصته الثّالثة نَجِدُها تترابطُ نصيًّا، وتتماسكُ من خلال البدايات الواحدة" صوت..."؛ هكذا"صوتُها المرتفِعُ..."(ص9)، صوتُ الرَّعد يفقدُها.."(ص12)،صوتُها يجئُ..."(ص16)، وفي القِصَّة الختاميَّة تتصاعدُ الواقعيَّة السِّحريَّةُ؛ فنجدُ شَجرةَالكازورينا مسكونةً بالجنِّ أو الثَّعابين، والأشباحِ؛ وهُو ما يفتحُ آفاقَ الدَّلالةِ لتحملَ الشَّجرةُ مفارقةً بينَ التماسِ الأمنِ ومصدرهِ...!

ولا أعرفَ سببًا لإضافةِ الكاتبِ كلمةَ" شَجَرة" في عُنوانِ قِصَّتِه الأخيرةِ" شَدْو شجرة الكازورينا"، والأوفقُ التَّوافقُ بين عُنوانِ المجموعةِ وعُنوان القصَّة، والاحتفاظ بالمفارقةِ بين المضافِ والمضافِ إليهِ" شَدْو الكازورينا".

وعلى  نسقٍ مختلفٍ عن المتوالية الأولى يسير الديداموني في المتوالية الثّانية:"مُتوالية للبحرِ"، وفي المتوالية الثّالثة" ترنيمة البوح والألم" ليرتفع بالتّجريب القصصي رويدًا رويدًا مع جرأةٍ في التكوين ...!

نعم، ثمّة جرأة في تكوين المتوالية من ثلاثِ متوالياتٍ، وداخل كلّ متواليةٍ طرائقُ منَ التَّجريبِ على مستوى الرُّؤيَةِ، والتَّشكيلِ؛ فينتقلُ من عالم الأحلامِ والرُّؤَى إلى العَجائبيِّ، ويكوِّن قصَّتَهُ القَصيرةَ "هُو..هِيَ" في  المتواليةِ الأخيرةِ من أربعِ قصصٍ قصيرةٍ جدًّا؛ فكأنَّنا أمامَ ديوانٍ قصصيّ؛ تُذكّرُنا بما فعلَهُ عبدالحكيم قاسم في مجموعَاتِهِ الدّواوين على مستوى الرّؤيَةِ" الهجرة إلى المألوفِ: ديوان قَصصٍ"، و"دِيوان الملحَقَات"، و"الدّيوان الأخير"، ولكنَّ شِعريَّةَ الدّيدامونيّ القصَصيَّةَ تُشْعِرنا حقيقةً أنّنا أمامَ ديوانٍ قصصيٍّ في الرّؤيةِ والتّشكيلِ؛ فهنيئًا  لفنّ السّرْدِ القصصِيّ بهذا الكاتبِ الموهوبِ الذي يتطوَّرُ تطوُّرًا لافتًا في فنّهِ السَّرديّ...!
--------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)

* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.