من القواعد المسلم بها أنه عندما يمتدح العدو خصمه ، فأن ذلك الخصم لا بد أن يراجع مواقفه ، لأن ذلك المديح قد يعني أن العدو يحقق مصالحه علي حساب هذا الخصم .
وإذا كان ذلك صحيحاً بشكل عام ، فأن مديح رجل مخابرات العدو لبعض أفراد من خصومه قد يعني أحد أمرين : إما أنه يريد أن يسقطهم في نظر شعوبهم بشكل متعمد ، وإما أنه يعبر بصدق عن تقديره لخدمات قام بها هؤلاء الأفراد ، وحينذاك يصبح المديح عاراً عليهم ، وتصبح الإشادة من رجل المخابرات تأكيداً لدور العمالة الذي قام به هؤلاء الأفراد .
وبالطبع لا يمكن إعتبار القاعدة السابقة قاعدة مطلقة ، فمن الممكن أن تنتاب البشر أحياناً لحظات صدق وأمانة وتجرد ، تجعلهم أقرب إلي الملائكة ، يعانقون أعداءهم ويقبلون لحاهم ، ويديرون ليس فقط الخد الأيسر والأيمن ، وإنما أيضاً القفا .. وهذا الإستثناء وارد وممكن بل ويحدث بالفعل خاصة مع الأمم التي تفقد ذاكرتها وثقتها بالنفس وطموحها إلي المستقبل.
وعلي ضوء ما سبق يمكن قراءة الكتاب الذي صدر قبل فترة تحت عنوان : " رجل في الظلال" أو (Man in the shadows) الذي كتبه رئيس الموساد الإسرائيلي السابق إفرايم هالفي .
قد لا أضيف كثيراً إذا ذكرت أننا في العالم العربي ننظر بقدر كبير من الشك في كل ما يصدر عن المسؤولين الإسرائيليين ، وأن التجربة قد علمتنا ألا نثق كثيراً في أدبياتهم التي يغلب عليها الذكاء الحاد في إستخدام الخداع وبث الفرقة والدعاية ، وفي حالة رجل المخابرات فأن هذا الشك يتزايد ، حيث أن تلك هي أدواته ومفردات مهنته ، فهو خبير في التلاعب بالأخبار ، وبث المعلومات والإشاعات ، وربما يكون أميناً فقط في آداء مهمته ، ولكنه لن يكون أميناً فيما وراء ذلك ، فهو كاذب منافق شرير عنيف شرس .. إلخ ..
وربما ليس من الإنصاف أن ننظر إلي هذه الصفات من جانبها السلبي فقط ، فمن المؤكد أن عميل الموساد يري في هذه الأدوات ضرورة لخدمة مصالح بلاده العليا ، ولا ينظر إلي وظيفته من هذا المنظور الأخلاقي ، فهو علي كل حال لا يعمل في بعثة تبشيرية ، أو يسعي لنشر الأخلاق السامية والمبادئ العليا ، وإذا صدقت مقولة أنه لا أخلاق في السياسة ، فمن العبث محاولة البحث عنها في أعمال رجال المخابرات .
هذا الكتاب يتحدث عن بعض أنشطة الموساد في الشرق الأوسط ، وعن علاقات حميمة أقامها الكاتب ( رئيس الموساد السابق ) خلال خدمته الطويلة في جهاز المخابرات الإسرائيلي مع العديد من الشخصيات العربية القيادية ، وعلي رأسها المرحوم الملك حسين بن طلال ، وشقيقه الأمير الحسن ، ويتضح من سطور الكتاب أنه عمل لفترة طويلة كمسؤول عن الأردن ، وتمتلئ هذه السطور بمقابلات سرية في عمان والعقبة وإيلات وغيرها ، منذ الخمسينيات من القرن الماضي وحتي توقيع إتفاق وداي عربة عام 1994 بين الأردن وإسرائيل .
يتحدث الكاتب بإجلال وإكبار كذلك عن الملك الحسن الثاني ملك المغرب ، وعن دوره البارز في التقريب بين إسرائيل والعالم العربي ، وعن المواقف المختلفة ومنها المحرجة مثلما حدث عندما تم الإتفاق علي زيارة سرية لشيمون بيريز إلي المغرب ، وفوجئ الملك أن الزيارة لم يعلن عنها فحسب ، وإنما وصل الزائر في طائرة عسكرية إسرائيلية ، ومعه فريق كبير من رجال الإعلام الإسرائيلي ، بما وضع الملك في موقف محرج خاصة وأنه رئيس لجنة القدس ، وأدي ذلك إلي تقصير فترة إقامة بيريز عما تم الإتفاق عليه ..
أن بعض سطور الكتاب كاشفة عن سلسلة من الخدع والأوهام التي عاشتها أجيال متعاقبة في الشرق الأوسط ، ففي الوقت الذي كانت تتصاعد فيها أناشيد العودة والصراع المقدس وإسرائيل المزعومة ، كانت القنوات السرية تتفتح كالشروخ في عواصم عربية مختلفة ، وأفراد مثل " إفرايم " يتحركون بحرية ويطلعون علي الأسرار والخفايا ، ويدبرون المؤمرات ويحبكون الخدع ويسقطون الآمال ..
يلقي الكتاب بعض الضوء كذلك علي التنافس بين الأجهزة المختلفة داخل الكيان الإسرائيلي، ومحاولات بعضها الإصطياد في الماء العكر لبعضها الآخر ، ولكنه يشير بوضوح إلي سيادة المفهوم الأمني في إسرائيل علي المفهوم السياسي ، وبعض الأمثلة التي ضربها علي التنافس بين وزارة الخارجية والموساد تؤكد ذلك ، فالكلمة النهائية كانت للموساد في صناعة القرار السياسي الإسرائيلي .
ورغم ما تعمد الكاتب نثره بشكل دعائي متسلل حول مدي إنفتاحية الدولة الإسرائيلية ، ورسوخ التقاليد الديمقراطية فيها ، فأن ما ورد من أحداث يتناقض مع ذلك بشكل حاد ، ومن ذلك مثلاً ما أورده حول فرض حظر النشر فيما يخص محاولة إغتيال خالد مشعل في أحد شوارع عمان ، وهي المحاولة الفاشلة التي تم فيها القبض علي إثنين من عملاء الموساد ، بينما لجأ أربعة أخرون إلي سفارة إسرائيل في الأردن .
يوضح الكتاب كذلك العلاقة العضوية التي تربط ما بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بشكل لا يبدو فيه من التابع ومن المتبوع ، فهي علاقة ندية ، فسرها الكاتب بالمصالح الإستراتيجية المتطابقة بين البلدين ، دون أن يشرح كيف يمكن لدولة صغيرة أن تتماس مصالحها الإستراتيجية مع دولة كونية مثل الولايات المتحدة الأمريكية .
بطبيعة الحال لا يمكن لأمثال إفرايم أن يكونوا شهوداً علي التاريخ ، وشهاداتهم مطعونة من حيث المبدأ ، ومن المشكوك فيه أن الدفء الذي لاقاه في قصور عمان والرباط قد أثر في عقيدته الصهيونية ، لقد قال له الملك حسين في غير مرة أنه صديق موثوق فيه ، لدرجة أنه أعطاه تصريحاً بإطلاق سراح الأربعة الذين شاركوا في محاولة إغتيال مشعل بمجرد أن قام بزيارة سريعة لعمان في محاولة لإحتواء الضرر ، وقد حرص الكاتب أن يسرد المقابلة والحوار الذي دار فيها ، فقد قال للملك ( في حضور الأمير الحسن ومدير مخابراته سميح البطيخي) : أن لي طلب شخصي يا جلالة الملك .. فسأله الملك عن هذا الطلب ، فأجابه بأنه لا يمكنه في حضرة الملك أن يقول لملك ما الذي ينبغي أن يقوم به .. فقال له الملك علي الفور : إذهب وخذ رجالك الأربعة فوراً إلي إسرائيل !! ..
ربما تلك هي الأريحية العربية التي لم يفهمها " إفرايم " وأمثاله ، أو ربما هي ذات الأريحية التي فهمها وأستغلها أفضل إستغلال أو أسوأ إستغلال .. وفي النهاية فأن الحكم للتاريخ ، ولم يكن الهدف من هذا المقال إصدار أحكام قيمية لصالح أو ضد أحد .. وإنما تسليط الضوء علي بعض صفحات كتبها رجل من الموساد .
-----------------------------
بقلم: السفير / معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق