رغم اغتيال رمز الحزب وقائده السياسي والديني " السيد"مع معظم قيادات الجيلين الأول والثاني.. إلا أن ذلك لا يعني القضاء على ميليشياته وقدراته العسكرية..
عملية اغتيال القادة التي تنفذها إسرائيل بتعاون استخباراتي دولي وحققت إنجازات كبيرة فيها لن تنهي المقاومة.. فهي لم تصل حتى الآن إلى القادة الميدانيين ولا عناصر الجهاز الأمني للحزب الذين يستخدمون أسلوب المقاومة في غزة في التواصل، ونالوا تدريبات جيدة في إيران وتشبعوا ايديولوجياً في معسكرات الحرس الثوري، ويجيدون الحديث بالفارسية.
هؤلاء القادة من العناصر الشابة ويمثلون تيار الصقور المتشدد الذي وجه انتقادات كثيرة لقيادة الحزب السياسية والإدارية في الأيام التي شهدت اغتيال القيادات بسبب الخطوط الحمر التي تضعها لحجم الرد ونوعية الصواريخ المستخدمة.
لا يعني اغتيال قادة وحدات الصواريخ والمسيرات والاستخبارات.. بالإضافة إلى أعلى السلم السياسي ممثلا في السيد.. أن الحزب قد انهار. على العكس ستكون إسرائيل أمام جيل غير معلوم لا تدركه شبكات التجسس الممتدة ولا المخابرات الدولية المنتشرة في بيروت وفي الضاحية الجنوبية خصوصا.
جيل القادة والمؤسسين كان مخترقا منذ تدخله في الحرب الأهلية السورية.. ومن خلال أجهزة الإتصال التي يستخدمونها، وحتى شبكة التليفونات الأرضية التي تسلم فريق التحقيق الدولي في مقتل رفيق الحريري رئيس الوزراء الأسبق الداتا الخاصة بها.. وقد وقعت في يد الاستخبارات الإسرائيلية والدولية، ولا شك أنها تضم خطوط قيادات الحزب التي كشفت عن منازلهم ومقراتهم.
الأكثر أن مقر قيادة الحزب الذي جرى نسفه بـ80 قنبلة فراغية مخترقة للتحصينات، كان معلوماً لإسرائيل.. واستغرق رصده وفق المعلومات التي بثها الإعلام الإسرائيلي وقتاً طويلاً.. وكان من السهل اغتيال السيد فيه. تحركاته معروفة من خلال الحراس الذين يظهرون وراءه خلال خطبه. من السذاجة ظهورهم بوجوه مكشوفة جعلت التعرف عليهم سهلاً في الضاحية ومعرفة تحركاتهم التي لابد أنها ترافق تحركات السيد.
ومنذ يوم الأربعاء الماضي، قبل مغادرة نتنياهو إلى نيويورك.. توصلوا إلى وجوده بالتحديد داخل المقر المحصن تحت إحدى البنايات التي تم تدميرها.. لكنهم كانوا يريدون صيدا أثمن، اغتيالاً جماعيا لكل القادة الذين وصلت معلومة بأنهم سيجتمعون بالسيد.. وبالتالي أبلغ نتنياهو في نيويورك بأن اللحظة مهيأة لتنفيذ الهجوم، فأعطى الأمر.. وتحقق الاصطياد الجماعي الذي شمل أيضا "زينب" ابنة السيد التي كانت حاضرة.
نعم الضربة موجعة لكنها ليست قاصمة.. ولا تعني طي صفحة الحزب.
التهلهل الأمني الذي يؤدي إلى اغتيال فيادات الصف الأول.. لا ينطبق على القادة الميدانيين ولا على مواقع الصواريخ التي يتضح أن إسرائيل لم تتوصل إليها.. يترجم ذلك أنها بدأت تدميراً جماعيا للبيوت والقصور اعنقاداً بأنها تضم مخازن الأسلحة.
اليوم أرسل الحزب صاروخا تجاوز مداه 150 كم ووصل شرق القدس.. وهذه المسافة تعني أن القادة الميدانيين بدأوا يتحللون من الخطوط الحمر التي وضعتها القيادة التي تم إبادتها.. وهو ما حذرت واشنطن تل أبيب منه. إذ إن غياب القيادات الكبرى قد يحول ترسانة الصواريخ الضخمة التي تتجاوز 200 ألف صاروخ إلى جماعات قتالية عديدة تتصرف بقرارات مستقلة على طريقة أمراء الحرب في الصومال إبان حربها الأهلية، وعلى طريقة الجماعات الافغانية أيضا، وهذه لم تستطع الولايات المتحدة مواجهتها وانسحبت أمامها.
سياسة الاغتيالات ستجعل المنطقة على حافة الهاوية ولن تنجح أي جهود دبلوماسية في وقفها.
تقول CNN إن إسرائيل تخاطر بتحويل أسبوعين من الضربات الوحشية إلى خسارة أخرى طويلة المدى لهيبتها.
تتابع: أمام نتنياهو خيار حاسم يتعين عليه أن يتخذه. فهل ينقذ الأسبوعان الماضيان سمعته المحلية فيما يتعلق بالأمن ويتركانه في وضع أفضل لمواجهة القضايا المرفوعة ضده؟ أم أنه يرى مرة أخرى أن الحرب المستمرة دون توجيه استراتيجي واضح هي أفضل وسيلة للمضي قدمًا؟..
في نهاية المطاف، يجب أن ينتصر مجال الرؤية الأوسع. يحتاج الوضع إلى تسوية سياسية ووقف لإطلاق النار الآن، بغض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة لمصير النخبة السياسية الحالية في إسرائيل.
أوقع اغتيال (السيد) الرئيس جو بايدن في مأزق: بينما لم يذرف أحد في البيت الأبيض أي دموع عليه، فإن الضربة التي أطاحت به أدت إلى تفاقم المخاوف من تصاعد الصراع وتوسعه.
جنون العظمة الذي يجتاح نتنياهو ونخبته حاليا سيجره إلى صراع مع عناصر لا يعلم عنها شيئا، ولا تحيط أجهزته التجسسية ومراكز التنصت والمسيرات باتصالاتها وقراراتها.. ولو قرر الدخول البري فهو يجهل حجم المقاومة على الأرض التي ستقابله.
يثير قلق واشنطن المعلومات التي وصلتها بأن قيادات الظل في المقاومة رفضت اقتراحا من طهران بارسال مستشارين لإعادة هيكلة القيادة الجديدة.. كأنها ستتخلى عن خطوط طهران الحمر بعد تخليها عنهم.
تقول شبكة CNN: السؤال الأكبر والقلق بالنسبة لإدارة بايدن هو ما هي التداعيات التي ستترتب على وفاة السيد في الأيام والأسابيع المقبلة في المنطقة.
لذلك قال بايدن اليوم "لقد حان الوقت لوقف النار في ظل المخاوف من التصعيد".
ستدرك إسرائيل أنها كانت تواجه دولة ممثلة في "الحزب" ذات قيادات معروفة يمكن التحاور معها، وأن (السيد)كان بمثابة رئيس جمهورية يمكن أن يجلس على طاولة مفاوضات.. الآن بات عليها أن تقاتل كائنات مجهولة وصواريخ فشلت في شل قدراتها أو تعطيلها.
لا يهم من السيد الجديد.. هاشم صفي الدين أم نعيم قاسم.. الأهم من هؤلاء الذين يقودون الميدان.. قد تغتال إسرائيل أي سيد جديد.. لكن كيف ستصل إلى القوة الحقيقية التي يمكن معادلتها بسنوار غزة؟!
***
يجري الآن تعظيم إعلامي للاستخبارات الإسرائيلية في اعقاب اغتيال معظم قيادات الحزب، ويهدف ذلك لإعادة هيبة فقدتها في 7 أكتوبر وفشلها في الوصول إلى الرهائن في غزة رغم أنها تسيطر عليها وتستخدم إمكانيات السي آي ايه والمخابرات البريطانية.
الاغتيالات التي تمت للقيادات والوصول إلى مقراتهم بدقة تمثل حالة خلل أمني كارثية سواء للجهاز الأمني للحزب ولاستخبارات الحرس الثوري الإيراني أيضا المخترق في قلب طهران والتي أغتيل إسماعيل هنية بين ظهرانيها وفي أحد مقراتها السرية.
هذا الضعف لا يعني قوة الاستخبارات الإسرائيلية وتفوقها مع الاعتراف بتفوقها السيبراني والتقني والتكنولوجي وفي مجال الدرونز المعلوماتية.
لكنها تجد دعماً كبيرا من الاستخبارات الأمريكية والبريطانية بما تملكه من تكنولوجيا متقدمة وأقمار صناعية تجسسية تغطي فضاء الشرق الأوسط وتتنصت على شبكات الاتصالات.. إضافة إلى استخبارات بعض الدول العربية التي تتعاون معها أمنيا ومعلوماتيا.
لكن ما أوقع زعيم الحزب ومعظم قادته هم العملاء على الأرض. بيروت بيئة خصبة للجواسيس كقبرص واليونان. ليس أسهل هناك من تجنيد الجواسيس في البيئة الحاضنة للقيادات المستهدفة مثل الضاحية في ظل غباء أمني واضح.
نتذكر عندما أجبرت مقاتلات إسرائيلية طائرة مدنية عراقية على الهبوط في مطار بن جوريون عام 1973 بهدف اعتقال الدكتور جورج حبش الذي كانت لدى الموساد معلومات مؤكدة أن حبش بين ركابها.. ثم سمح لها بالإقلاع عندما تبين خطأ تلك المعلومات.
الأمر لم يكن كذلك. كانت المعلومات دقيقة جداً وكان المفترض أن يكون حبش مسافراً على متنها.. لكن أمراً شخصيا جعله يؤجل سفره في اللحظة الأخيرة.
وهنا كان السؤال: من هو العميل في بيروت الذي أخبر الموساد حيث يوجد مكتب ياسر عرفات قبل إخراجه منها.
لم يكن يعلم بسفر جورج حبش إلا هو طبعا وأبو عمار.
وظهرت المفاجأة أن العميل هي مديرة مكتب عرفات في بيروت.
حتى بعد انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس كان العامل البشري ممثلاً في الجواسيس وسيلة الموساد لرصد المنظمة وقياداتها ومباحثاتها.
كان العميل مفاجأة.. إنه عدنان ياسين نائب السفير الفلسطيني في تونس حتى عام 1993.
كان ياسين مكلفا بأهم الواجبات التي تجعل أبا عمار وأبا إياد وأبا جهاد في قبضة الموساد. كان ياسين مسؤولا عن ترتيب سفر وتنقلات المسؤولين الفلسطينيين من والى تونس وتأثيث مكاتبهم ومنازلهم.
لم يكتشفه أحد إلا الاستخبارات الفرنسية بطريق الصدفة عندما ألتقطت بواسطة أقمارها الصناعية ذبذبات أجهزة التنصت في السيارة المرسيدس التي كانت تنقل القادة الفلسطينيين وأبلغت السلطات التونسية وقتها..
كانت ابنته عايدة تعيش مع زوجها في قطاع غزة.
نجح السنوار خلال وجوده في سجون الاحتلال في دراسة تلك الخطط وتجنيد الجواسيس التي يعتمد عليها الموساد وجهاز أمان.. وتوصل إلى نقاط ضعفها وهي كثيرة. وعندما آل إليه الأمر في غزة وضع هدفه الأول كشف العملاء وقتلهم وهذا ما حدث.. ثم اعتمد على الاتصال الشفهي مبعداً أي تقنيات حديثة. الرسائل مع السنوار وردوده عليها تستغرق من أربعة أيام إلى أسبوع كأنه يعيش في عصر الحمام الزاجل. أساليب قديمة جعلت الاستخبارات الإسرائيل بكل الدعم الذي تلقاه من المخابرات الأمريكية والبريطانية والأقمار الصناعية عاجزة عن حل لغز مكان اخفاء الرهائن أو الوصول إلى السنوار.
العكس تماما بالنسبة للحزب وحليفه إيران. زعيمه لم يكن يستخدم إطلاقا الهواتف المحمولة أو الاتصال الأرضي أو يشاهد التليفزيون.. لكنه أهمل العنصر البشري. لم يستفد من تجارب سابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية أو حتى أسامة بن لادن الذي كان تتبع أحد الأشخاص الذين يتولون خدمته وسيلة الوصول إلى مكان اختبائه.
حراس السيد الراحل معروفون في الضاحية وتتبعهم أو اختراقهم سهل.. بل قد يكون أحدهم هو العميل نفسه. جميع القادة الذين تم اغتيالهم شاركوا في الحرب بين النظام السوري والمعارضة وكانوا يستخدمون الهواتف المحمولة في إتصالاتهم.. ومن ثم نجحت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والدولية في التعرف عليهم ورصد مقراتهم ومنازلهم وحتى شققهم داخل أبراج بيروت.
إضافة إلى ذلك فقد حصلت تلك الاستخبارات على المعلومات التي قدمت لفريق التحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري وتتضمن منظومة الإتصالات والتحويلات البنكية والبنك الخاص بالحزب.
نأتي إلى نقطة أخيرة.. هل استخبارات الحزب على درجة من الضعف أنها لم تعرف مصير السيد بعد الغارة العنيفة إلا بعد يوم كامل رغم أن إسرائيل دمرت منافذ دخول وخروج المباني الأربعة أو الستة والشارع الذي بينهم والذي كان تحته المقر السري المحصن للقيادة المركزية؟..
ليس دقيقاً.. الحزب عرف مقتله بعد دقائق وأبلغ بها بعض الصحفيين الذين يثق فيهم.. بغرض منحهم الوقت اللازم ليكتبوا عن الرجل ويجمعوا المعلومات الخاصة بسيرته، لكنهم طلبوا منهم عدم الإعلان عم ذلك إلا بعد بيان الحزب.
عُثر على جثة السيد دون أي جروح.. فقد مات من أثر التفريغ التي أحدثته القنابل المفرغة بعد اختراقها الحصون حيث تسحب الأوكسجين تماما من المكان المستهدف.
لقد مات مختنقاً.
---------------------------------------
بقلم: فراج إسماعيل
* مدير تحرير قناة العربية سابقا
(المقال نقلا عن الصفحة الشخصية للكاتب على موقع فيس بوك)