صيف عام 1982 كنت منغمسا في متابعة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت ، وبحمية شاب لم يصل بعد لعامه العشرين توجهت إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة طالبا التطوع كمقاتل في صفوفها.
في ذلك الصيف دبر المحتل الإسرائيلي مع منظمة كان يشك في عمالتها له (المجلس الثوري لحركة فتح بزعامة ابو نضال) محاولة لاغتيال سفير إسرائيل في بريطانيا، شلومو أرجوف في 3 يونيو 1982) لتكون ذريعة لاجتياح لبنان، كان الهدف واضحا وهو اقتلاع وجود منظمة التحرير "وقتما كانت منظمة مقاومة" من لبنان وتدميرها وضمان أمن المستوطنات الصهيونية شمال فلسطين المحتلة.
كعادتها قدمت الإدارة الأمريكية برئاسة رونالد ريغان الغطاء للعدوان ويقول دافيد كيمحي أنه لم يكن هناك مقاومة قوية لخطط شارون في واشنطن لكن وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيغ نصح شارون بالحاجة إلى "استفزاز واضح يعترف به العالم" لشنّ الهجوم. وهو ماتحقق في عملية أبو نضال.
لم تمر ثلاثة أيام حتى بدأت دولة الاحتلال قصفا جويا ومدفعيا كثيفا على صيدا وقرى النبطية والدامور وتبنين وعرنون وقلعة الشقيف الإسترتيجية، ثم اجتاح جيش الاحتلال بقيادة اريئيل شارون وزير الحرب الأراضي اللبنانية وفرض حصارا على بيروت ثم بدأ قصف همجي لها.
كانت الدماء تغلي في عروقي وراديو ترانستور لايفارق أذني، فقادتني قدماي إلى شارع الألفي حيث كان يقع المكتب الإعلامي لمنظمة التحرير، وهناك قابلت الأستاذ أسامة علي شراب المسؤول الأول عنه، اخبرته برغبتي ، وأخذ يسأل عن دوافعي، وبعد نقاش استمر أكثر من ساعة أقنعني أن المنظمة ليست بحاجة إلى مقاتلين ولا سلاح ولا أموال وإنما بحاجة إلى داعمين يؤمنون بعدالة القضية، وبإمكاني أن أسهم في النضال الفلسطيني بالقلم بعد تخرجي من كلية الإعلام، من يومها أصبح أسامة شراب صديقا وأخا كبيرا أتردد عليه في منزله ومكتبه، وبعد عملي بالصحافة سهل لي لقاء ومصادقة عدد كبير من قادة المنظمة بمن فيهم الشهيد ياسر عرفات.
تذكرت ذلك ، وأنا أتواصل مع صديق قبل أيام معلنا رغبتي التطوع في فريق إعلامي بأخطر المناطق اللبنانية للإسهام في كشف جرائم الإبادة التي يرتكبها النازيون الجدد ضد شعبنا في لبنان، لئلا أمضع صمتي وأكون مع القاعدين.
وتأملت كيف لم يتغير شيء على مدي 42 عاما أو يزيد. القضية ذاتها حية والعدو بنفس غطرسته وغشمه وجرائمه وطبيعته السرطانية، والعالم العربي نائم أو شبه ميت يحتاج نفخة إسرافيل في الصور كي يستيقظ ، تبدلت الأسماء مناحيم بيجن واريئيل شارون ببنيامين نتنياهو ويؤاف جالانت ورونالد ريجان وهنري كيسنجر بجو بايدن وأنتوني بلينكن، والشهيد ياسر عرفات ورفاقه بالشهيد حسن نصرالله ورفاقه ، سلاح الجو الصهيوني بشن أعنف قصف جوي ومدفعي وبحري على بيروت استمرت لعشر ساعات متواصلة في 12 أغسطس 1982 وينتهي الحصار بمسح كامل لثلث بيروت من الخارطة، ويفعل الشيء نفسه في 27 سبتمبر 2024 في الضاحية الجنوبية والجنوب المقاتل، يجبر نحو 15 ألفا من مقاتلي منظمة التحرير على مغادرة لبنان وأخشى أن يجبر مقاتلو حزب الله على تسليم سلاحهم في ضوء التواطؤ الإقليمي والدولي وتسليم الحركات المقاومة "تسليم أهالي" لعدونا يفترسها واحدة تلو الأخرى.
يا إلهي .. لم يتغير شيء ، ظلت بندقية المقاتل تبحث عن حق ضائع وتحاول تحرير وطن مسلوب، وأعداؤنا كما هم لا يشبعون من دمائنا، في 1982 يستشهد أكثر من 30,000 مدني لبناني ويصاب أكثر من 40,000 شخص، وأكثر من نصف مليون شخص ينزحون عن بيروت ، وفي 2024 يتجاوز عدد الشهداء 45 ألفا في غزة ولبنان ويصاب أكثر من مائة ألف وينزح الملايين عن مدنهم وقراهم في غزة ولبنان.
هذه أمه لا تتعلم من ماضيها، ولا تستطيع صياغة مستقبلها، ولا إفراز قيادات تصون حرماتها.
--------------------------------
بقلم: مجدي شندي