09 - 05 - 2025

المساهمة الجنائية بالصمت !

المساهمة الجنائية بالصمت !

بينما كنت أتابع الوحشية الصهيونية في بيروت ليلة أمس 27 سبتمبر 2024 ، وجدتني أستعيد مقولة للكاتب المسرحي الألماني "بيرتولت بريخت" ، التي قال فيها :" إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة ، لأنه يعني الصمت عن جرائم أشد ".

عبرت هذه العبارة المختصرة العبقرية دائماً في وجداني عما أحمله من مسئولية تجاه الظلم ، تجبرني علي ألا أشغل نفسي وقلمي بأي شئ آخر ، غير التصدي لهذا القبح البشري.

فلا أجد مثلا رغبة في الكتابة في الفن أو المنافسات الرياضية أو أي شئ آخر ، وتتوقف تقريبا غدة الإبداع ، وأفتقد إلي الإلهام الذي كم صورت به شعرا ونثرا وقصصاً ، بل أفقد شهية الطعام أو حتي التمتع ببعض الممارسات البريئة مثل الإنصات إلي الموسيقي .

أن رمزية " الحديث عن الأشجار " تستدعي حالة الجدل حول موضوعات لا تبدو في ذاتها قبيحة ، مثل الطبيعة والفن والجمال والحب .

ومع ذلك فأن " بريخت " في هذه المقولة يريد أن يقول أنه في أوقات الأزمات ، وفي مواجهة القهر والظلم ، يستحق إختيار التركيز علي  الموضوعات " الأقل أهمية " أن يكون محل تساؤل .

وكلما زاد حجم الجريمة ، مثلما الحال في جرائم الفساد والعنف وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، فأن تحويل الأنظار إلي موضوعات أقل أهمية مثل منافسات كرة القدم ، أو أسرار طلاق فنانة أو حتي سقوط وزير ، يكون بمثابة تآمر بالصمت علي تلك الجرائم .

وذلك ليس إتهاماً للإعجاب بالطبيعة أو الإهتمام بما يبدو من توافه الأمور ، وإنما هو تحذير بأن الإغراق في مثل هذه الأحاديث وفي نفس الوقت  إغفال الأهمية القصوي للتصدي للظلم ، يعني المشاركة في إهمال غير أخلاقي ، يقارب السلوك الإجرامي نفسه .

كلمات بريخت يجب أن تدفعنا لإختبار عما إذا كان اللجوء إلي تلك المناورات ،هو محاولة للفت النظر بعيدا عن المواجهة الواجبة للحقائق .

الصمت في مواجهة جرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الصهيوني ، يحمل في طياته تبعات أخلاقية تشارف حد الإلتزامات القانونية .

ولقد عاش بريخت أثناء بروز الفاشية في ألمانيا ، وأدرك مدي فداحة الأثمان التي يدفعها المجتمع حين يغمض عينيه ويصم آذانه ، فلا يري أو يسمع متعمدا عن تلك الفظائع التي ترتكب.

عندما نسكت علي الظلم فأننا نسمح له أن ينتشر ويتعمق .

والتاريخ يقدم أمثلة متعددة علي صدق ما أراد بريخت التحذير منه ، فقد كانت إتفاقية " ميونيخ" التي أبرمها الغرب مع هتلر ، والتي صمتت علي التهام النازي للنمسا وتشيكوسلوفاكيا مقدمة لمظالم وحشية أدت إلي الحرب العالمية الثانية ، ونفس السلوك التآمري بالصمت نجده في معاناة السود في أمريكا لأحقاب طويلة ، وصمت أغلب المجتمع علي ذلك ، وكذلك جرائم الفصل العنصري ( الأبارتيد) في جنوب إفريقيا ، وجريمة الإبادة الجماعية في رواندا والبوسنة .. ولدينا أكبر مؤامرة للصمت علي جرائم الحركة الصهيونية في فلسطين والتي قاربت على قرن كامل من الزمان .

أن مواجهة الظلم لا تعني فقط مجرد تفادي الصمت في مواجهته ، وإنما تعني أن تصبح تلك المواجهة إلتزاماً أخلاقياً ، وهو ما يتطلب شجاعة وجرأة خاصة عندما يكون صوت الحق متهماً ، يعرض صاحبه لمخاطر سياسية وإجتماعية وربما لفقدان الحياة ذاتها ، ولكن يظل الثمن الذي قد ندفعه مقابل إبتلاع ألسنتنا أشد فداحة ، وقد يصل ذلك الثمن إلي تهديد وجودي .

لقد دفع الشجعان الذين اخترقوا الصمت أثماناً ، باهظة ، ولكن ظل التاريخ يحمل لهم فضل ما قاموا به ، والذي أدي إلي متغيرات هامة .

عندما نهض القس مارتن لوثر كينج مبشرا بحلمه "I have a dream " ، كان يكسر جدار الصمت علي فساد نظام الفصل العنصري غير الإنساني في أمريكا ، ولم يكتف بمجرد كسر الصمت ، وإنما تحدث بشجاعة ضد الظلم ، وسلط الضوء علي فساد النظام بما أسهم فيما بعد في زيادة وعي المجتمع ، وتخليصه تدريجيا من ذلك الظلم الإجتماعي . ورغم أن لوثر كينج قد تم اغتياله نتيجة لذلك  ، إلا أن صوته المجلجل وهو يهتف "أنا لدي حلم " ظل يتردد في فضاء أمريكا وضمير العالم حتي الآن .

أن مواجهة جرائم الصهيونية لن تحرم العالم من التمتع بالأشجار أو الموسيقي أو الرقص ، طالما أن هذا الرقص لا يدوس الضمائر والأخلاق ، أو جثث الضحايا المتناثرة في فلسطين ولبنان ، وكل مكان تصل إليه عصابة الصهيونية المشوهة .

دعونا لا نتغافل أو نتغابي عن حقيقة أن "نتنياهو" هو التجسيد المعاصر لأدولف هتلر ، ولا ينبغي الوقوف صامتين وهو يوسع مساحات مذابحه في الإقليم ، ويدفع العالم دفعا إلي جحيم حرب كبري .
--------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب