للحُب والجَمال؛ للرّومانسيّة وقطرات النَّدى؛ للأنوثة والدّلال تَهيأتُ، للنّوارس والبجع؛ للؤلؤة البحر؛ لسِتّ الدّنيا؛ لزخّات مطرٍ تفترش الغابات والأنهار والوديان؛ حزمتُ حقائبي، وأسكنتُ خيالي مِيناء العشق، وتركتُ رُوحي تسبح صَوب مغارة أحلى الملكات؛ لتهامسَ رِقّة الحوريات، إلى "بيروت" قررتُ السّفر؛ إلى عاشقة الحياة والسّهر؛ إلى بلد كل ما فيه يشي بالاشتهاء؛ إلى الوردة الجورية التي تُصر على الحياة ببهاء مهما ناوشها الفناء.
وسط لوحة طبيعية بديعة حطَّت بي الطّائرة؛ البحر عن يميني، والجبل السّامِق عن شمالي يحتضنُ ضيعاته، وفردوس أخضر تحتي يشتهي وَطء أقدامي؛ وشعاع شمس المَغيب يشاكسُ عيني بلا خجل؛ أتحسسُ وحهي فيعجبني وهجي.
يتلقاني "عليّ" بلهجته اللبنانية المُحببة: "سِت حورية ناطِرتك هون من شي ساعة"؛ أبتسم غير عابئة بالرّد؛ مشغولة أنا بوسامته الأوروبية اللافتة؛ أسأله فيجيبني بأنّ أمّه من "أوكرانيا".
يتيقظ حسي الصّحفي ويطل برأسه داخلي فأسأله ثانيةً: وماذا عن اللبنانية ؟! يجيبني: "بدَّها مصاري كتير، والحالة الاقتصادية هون وأعة".
اتنبه وأُنهي الحوار على عَجل؛ أُذكِّر نفسي بأنّي قد جئتُ أقضي بضعة أيام بعيدًا عن الهموم والأحزان.
أعاود الغَوص في حلمي الجميل لأُكللَ أول ليلة لي ببهاء "بيروت"، أتلفتُ حولي في شوارع المدينة العتيقة فيلفتني أناقة نسائها، ونظافة شوارعها، ويأبىٰ عقلي إلا أن يعاود فِعلته فأناديه: "عليّ.. أين النّاس والزّحام ؟! أين أكوام القمامة التي فَجّرت الأحداث ببلدكم الجميل مؤخّرًا ؟! أين ذهبتْ أضواء "شارع الحمراء" حتى صار مُظلمًا باهتًا هكذا ؟! "يبتسم السّائق ساخرًا: "سترينها حالًا".
نصف ساعة تمُرُّ حتى رأيتَ كَومة صغيرة؛ صرخ السّائق مُشيرًا بيده: "هوووون"، وجَّهتُ وجهي للنافذة؛ أُخفي ابتسامةً ساخرةً ندّت عنّي؛ وأنا أتذكرُ قمامة "القاهرة" الهائلة؛ يكْمِل عليّ: "أما عن الزًحام والنّاس وأضواء الحمراء؛ فالحالة الاقتصادية مُتردّية؛ يكفي أن تَعلمي أنّ الدّولار الواحد يعادل ألف وخمسمائة ليرة لبنانية.. (!!) العُمْلة وأعة وأعة".
يُصرُّ "عليّ" علىٰ أن يضع وجهي مباشرةً أمام جدار الحزن العربيّ فيكملُ: "لبنان ضحية العملاء والخونة والمأجورين والرّشاوي والعمولات وتجارة المخدّرات؛ كل من حَكمَه يساهم بجدارة في إشعال فتيل الفتنة الطّائفية، طوال عمرنا وعمر آبائنا وأجدادنا لم نسمع كلمة سُنّي وشيعي ودرزي ويهودي؛ كلنا جيران وأصحاب، أنا مثلًا شيعي وزوجتي سُنية، وأمّي شيعية وأبي سُنّي، كل حاكم لبناني بدُّه يهدم لبنان؛ فليرحلوا عنّا ولن نبكيهم أبدًا؛ وسيعيش "لبنان" بكافّة طوائفه كما عاش من قبل".
أشاكِسه بسؤالي: ومن هو الزّعيم الذي أخْلصَ لبلدكم ؟ يُجيبني من فوره: "جمال عبد النّاصر؛ وما تزال صوَرِه مُعلقة على جدران الأباء والأجداد" (!!)
أقضي أول ليلة بلبنان لأكتشف أنّ شعبه يعشق الحياة؛ يروضُ أحزانه؛ الشّراسة سَمته؛ يحارب ويقاتل نهارًا بشراسة ويمرح ويحب ويرقص ويسهر ليله ويمارس عشقه لذاته أيضًا بشراسة.
اللبنانيّ "يدّايّن مِن شان يزّايّن" مثل شعبيّ؛ يعني أنّه قد يقترض مالًا من أجل أن يمارس بهجة حياته ليلًا؛ ويقيني أنّه لولا عشقهم للحياة ما بقيت بلدهم رغم الحروب والفواجع التي ألمّت بهم، وهنا أتذَكر "نزار" وهو يرثي "بيروت" في إحدىٰ مصابها الجلل: "الأن عرفِنا معنىٰ أن تقتل عصفورًا في الفجر.. هل كُنًا نغار من جَمال بيروت ؟".
خمسةُ أيام مُدة رحلتي لبيروت الجميلة؛ صعدتُ غابات أََرزها حيث درجة الحرارة "صفر"؛ ومازلنا في بداية موسم الشّتاء، ومارست متعة ركوب "التّليفريك" إلى"سيدة لبنان"، ويُقصد بها "السّيدة مريم العذراء" وتمثالها الشّهير بمنطقة "حَريصا"؛ والتي ترتفع عن سطح البحر بنحو 2400 مترًا، وإلى صخرة العشاق أو "صخرة الرّوشة" كانت الرّحلة البحرية الماتِعة؛ وما كدتُ أُنهي يومي مبتهجة حتى تفاجأت بأعداد كبيرة من الشّحاذين يعج بهم كورنيش بيروت: لبنانيين وعراقيين وفلسطينيين وسوريين لن يفلتوك أبدًا ؟ا قبل أن تجيب مَطلبهم؛ بعدها تمضي وأنت تنوءُ بجبال من الألم والغُصَص والهمّ العربيّ.
إلى" الفَرِيّا "حيث أشهر مناطق التّزلج على الجليد بلبنان لا أجد أحدًا؛ تتسابق نحوي السّيارات المخصصة لصعود الجبال؛ نصف السّاعة ب70 دولارًا؛ فجأة يقترب منّي أحدهم: "أوافق على عشرة دولارات فقط"؛ أتذكر "عليَّا" وتأكيده علىٰ تردي الأوضاع الاقتصادية واختفاء السّائحين وترقب فواجع تأتي نتيجة الأوضاع المتأزّمة في "سوريا"، رغم أن ديسمبر ويناير هما الموسم السّياحي السّنوي المنتظر للاحتفال بأعياد الميلاد والتّزلج على الجليد.
أُكمل رحلتي لمغارة "جِعيتا "ثم "القلعة" و"متحف المشاهير"؛ أمُرُّ بالمطاعم؛ بالفنادق؛ بالمُولات؛ فلا أجد إلا الرّكود والصّمت والأحزان والليل البارد يجتاح "لبنان"؛ تتسلل إلى رُوحي أغاني "فيروز" من كل ناحية؛ يتناهىٰ إلىٰ سمعي: "سألوني شو صاير في بلد العيد، مزروعة ع الدّاير نار وبواريد، قلت لهن بلادنا عم يخلق جديد، لبنان الحضارة والشّعب العنيد".
ألمحُ صورة زعيم إحدى الطّوائف المعروف بدفاعه المستميت عن الفقراء؛ أسأل "سائق التّاكسي" فيجيبني مستهزءًا بأنّه فعلًا زعيم الفقراء، فزوجته تملك 182 عمارة سكنية !! وابنه وصل رصيده في البنك إلى 4 مليار دولار فقط !!
لبنان بلد المتناقضات؛ بلد الجوع القاتل والشَّبع الفاجِر.. بلد الأناقة والشّحاذة.. بلد المرح والرّقص والبهجة وبلد الحزن والألم والفواجع.. الرّحلة من أبوظبي -حيث رَكبتُ طائرتي- إلي "بيروت" مِقدارها ثلاث ساعات؛ قطعتْها الطّائرة في أربع ساعات ونصف بزيادة قدرها تسعون دقيقة؛ والسّبب أنّ المجال الجويّ للعراق والأردن وسوريا وفلسطين مُغلق؛ فكان ولابد أن تمر الطّائرة بالسّعودية ثم مصر متجهة إلى لبنان؛ تسعون دقيقة بالطّائرة اختصرت آلام ومآسي الهلال الخصيب؛ اختصرتْ أحزان تقسيم العراق وبلاد الشّام على موائد اللئام؛ فكَم "تسعون" يارب نحتاجها لنستعيد وطننا المَسلوب ؟ تسعين يومًا.. أم تسعين شهرًا.. أم تسعين سنة ؟!
--------------------------------
بقلم: حورية عبيدة