09 - 05 - 2025

قلم أسود.. ليس سوداويا

قلم أسود.. ليس سوداويا

لا بأس من أن تحمل بعض الأقلام مدادا يقطر نقدا وسخرية مريرة أو غير مريرة، فذلك صحي أحيانا، بل وأحيانا كثيرة، ولا غضاضة في أن يمعن المرء في تأمل النصف الفارغ من الكأس، خاصة إذا كان يأمل في مزيد من الإمتلاء..

ولكن البأس كل البأس، والغضاضة كل الغضاضة أن ينسكب المداد الأسود على كل الصفحات البيضاء، فلا يعكس سوى الكآبة واليأس، ولا يقدم للقارئ سوى جرعة من السم والمرارة التي هو بالفعل متشبع بها ليس ظمآن للمزيد منها..

النقد مطلوب وبشدة، ولكنه لا يعني فقط مجرد استعراض للعاهات، وتحويل المقال إلى مستودع للعجز والآهات والندم، وإنما يعني التناول الموضوعي للمسألة التي يتعرض لها من كل جوانبها، ولا شك أن لكل سحابة سوداء خيطاً فضياً لامعاً كما أن لكل زنزانة باباً للخروج ووظيفة القلم تستدعى الاجتهاد في البحث عن هذا الباب، وليس مجرد وصف معاناة السجين وأبعاد الزنزانة.

بعض أهل السياسة يزعمون أنهم (جاءوا إلى الدنيا كي يعترضوا أو يرفضوا) وهذه حكمة الله في خلقه، تماما كما هي حكمته في خلق البعض الآخر الذين (جاءوا إلى الدنيا ليوافقوا) ولكن من المؤكد أن صنفا ثالثا بينهما (جاء إلى الدنيا ليكون أكثر تعقلا وموضوعية )، حيث أن طرفي السياسة الأولين تعتريهم شبهة النفاق والذاتية فالاعتراض أو الرفض المطلق متعة الكسول المتراخي، والموافقة المطلقة هي نعمة الجهل التي يرفل فيها أصحابها.

لذلك كان على القلم أن يتوازن ولا نقول يتجرد لأن التجرد شئ لايمكن أن يتحلى به إنسان، فالمتجرد ليس إنسانا مثلنا من دم ولحم وخبرات متنوعة، بينما المتوازن هو إنسان لا يخفي شخصيته وآراءه، فهو مهما اشتط يبحث عن حجج عقلانية، ولديه دائما مساحة للشك تعذبه وتقصقص أجنحة الطيران إلى المطلق، لذلك نقرأ ونعجب بما يكتبه حتى مع اختلافنا معه، لأنه بشري مثلنا لا يدعي تبوء مقاعد الأنبياء.

السخرية تقدم أحيانا قالبا ضروريا لعرض موضوع مؤلم، تماما مثلما تضيف شركات الدواء بعض العناصر لتحلية دواء مرير، فالسخرية - في هذا الإطار - ليست مطلوبة لذاتها، وإنما كأقراص مساعدة على الهضم، أو كمخدر موضعي على الجرح كي يسهل تنظيفه ورتقه، ونحن نفعل ذلك في حياتنا اليومية دون تعمد وبالسليقة، فحين يسخر إنسان من الدنيا ومهازلها وهو يقدم واجب العزاء لإنسان أخر، وحين يتذكر آخر حماته وهو يشاهد إمرأة عجوزاً ضربتها سيارة مسرعة ، وحين تتم المقارنة ما بين تصريحات سياسي قبل انتخابه، وتصرفاته بعد انتخابه، كل ذلك وغيره كثير يؤكد ضرورة السخرية للإنسان كي يتمكن من مواصلة العيش بأكبر قدر من السلام مع نفسه، فهي عامل التوازن في أحيان كثيرة، إلا أن الكثير منها يحول الإنسان وحياته إلى نكتة سخيفة.

وقد قيل - بحق - أنه (بدلا من أن نلعن الظلام، فلنضيء شمعة )، إلا أن البعض قد يقول - وبحق أيضا - أنه في بعض الحالات قد لا يجد المرء شمعة يضيئها،، وهنا أبادر بالقول بأن تلك الشمعة يفترض وجودها في عمق كل إنسان، لو فتش عنها لوجدها، فهي ليست عنصرا خارجيا عنه، بل هي فيه وفي إرادته، ويستطيع أن يطارد بها الظلام وأن يضيء بها الدنيا، والمشكلة في أولئك السوداويين أنهم يهيمون بالعذاب ويرتحلون في الألم، لذلك يجدون لذتهم في وصف الظلام والتغزل فيه (حتى إذا كان غزلا غير عفيف)، فالعالم كله متواطئ والمسئولون غير أكفاء، والأسعار سعار، والدنيا خريف، والطعام ملوث، الخ!..

باختصار لا يرى هؤلاء حياتهم إلا من خرم الأوزون. وهذا النمط يعيش في حالة رعب مزمنة، ولا يستريح إلا إذا نقل رعبه إلى الآخرين، يقسم لك أن هذا يوم لم تطلع له شمس بينما قرص الشمس فوق رأسه تماما، لو فكر لحظة أن يرفع عينيه لغشيته بضوئها القوي.. أنه يحترف تشويه كل شئ حتى نفسه، وهو في الغالب أول ضحايا مرضه، ويزعم للآخرين أن لديه شجاعة الرفض والنقد، والمصيبة أنه أحيانا يجد من يصدقه.

وعلى العكس نجد النموذج المسترخي، السعيد دائما، الذي لا يرى إلا من نظارة السلطة أيا كانت هذه السلطة بداية من زوجته وانتهاء بالقطب الدولي الأوحد، فكل شئ تمام التمام، وأحلى إجاباته على أي مشكلة أنه (ليس هناك مشكلة)، ويزعم للآخرين أن لديه نبل الموافقة وفضيلة الطاعة التي تفضل العلم والأدب معا، فالانسان في نظره - مسير لا يملك خيارا، وعناده ليس إلا كفرا يورث كفرا، ولن يغير أحد ما كتب عليه، فكله مكتوب على الجبين ولازم تشوفه العين، هو إنسان مسل ظريف ويبدو غير ضار، ولكنه أيضا غير نافع، بل وأجازف بالقول أنه أكثر النماذج ضررا وضرارا.

وأشد ما أخشاه هو أن تنتقل العدوى إلى الشباب - مستودع آمالنا في المستقبل - فلا يرى بعضهم الحياة إلا من تلك النظارة السوداء، ويتحول إلى كاره لمجتمعه ولنفسه، يستسلم لهذا الإحساس اللذيذ بأن كل ما حوله طين وقطران وهو وحده المتفرد بامتلاك الحقيقة، فإن فشل في دراسته فالسبب هو تقصير المعلم أو قصور المنهج أو عدم جدوى العلم ذاته، معزياً نفسه بأن النصب والاحتيال أسهل كثيرا من فناء العمر في التعلم والدراسة، وبأنه ضحية لمجتمع بلا قلب، و.. و.. الخ.

أقول لهؤلاء الشباب لا تقرأوا عبثنا الذي نسميه أحيانا أدبا وأحيانا أخرى سياسة، تبا لأغاني العجز، لديكم ما لم يعد هؤلاء يملكونه، فالعمر الذي أمامكم صار خلفهم، وخصوبة عقولكم سوف تصل إلى مالا تدركه عقولهم التي تفككت صواميلها، وسواعدكم العفية سوف تزيل الجبال التي تعترض الطريق، لذلك أرجو أن تزيحوا كل تلك الغمامات السوداء عن عيونكم، فالحياة أجمل مما صورناه لكم، وأكثر رحابة من صدورنا التي ضاقت بسعال الشيخوخة، وعقولنا التي تآكلت بفعل الزمن، نعم، أمامكم تحديات صعبة، واختبارات أصعب، ولكن ما أروع هذه التحديات التي تكسب العمر خبرة ومعاني، والاختبارات التي نتعلم من أخطائنا فيها أضعاف ما نتعلمه من صوابنا، أن المستحيل - صدقوني - لا يوجد إلا في عقولنا، فلا تدعوا مدادنا الأسود يمتزج بدمائكم الشابة الطازجة، وتذكروا أن شبابا مثلكم شيدوا الأهرامات بسواعدهم، وغيرهم قهروا المستحيل وعبروا قناة السويس في ملحمة تعجز الأقلام عن رواياتها، وأنتم بدوركم تستطيعون أن تجتازوا بوطننا الغالي كل المصاعب والمحن، مهما كانت المعاناة والإحباطات.

أما أولئك الذين يقرأون للصنف الموافق دائما وأبدا، أقول لهم أن السلبية ليست قناعة، وأن التواكل ليس توكلا، وأن التسلق والتملق مهانة لا ترضاها النفوس الكريمة مهما كانت المكانة التي يتبوأها المنافق، فما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك؟، وليس لأحد أن يحسد وصوليا على ما حققه، فهو باع نفسه بأرخص الأثمان، ويستحق الشفقة والرثاء، فربما تمكن المنافق الوصولي من أن يصل إلى كل ما تشتهيه الأنفس، لكن ما هو معنى حياته ؟ لقد عاش في الحضيض بلا مبدأ أو قيمة أو أخلاق، يكفيه ذلك عارا وإنحدارا.

لا تقرأوا لهم فهم ديدان يقتاتون من دماء المجتمع، ويلوثون بأقلامهم ينبوعنا الصافي، ولا تأخذوا بنصائحهم التي تحضكم على الخنوع والمداهنة، تمردوا على ذلك الواقع السيئ واصنعوا واقعا جديدا، لأن أولئك المترهلين لم يحققوا شيئا مهما كانت مكانتهم وحظوتهم. إن التحدي الماثل أمامكم أيها الشباب، أهم وأجدى من شقة قد لا تجدونها اليوم، أو حبيبة قد يصعب الزواج منها، أو وظيفة تبدو كالسراب، أو مركز ومال، فكل ذلك هين وممكن، التحدي الماثل أمامكم هو أن تعيدوا صياغة الواقع من أجل حياة أفضل في المستقبل، وذلك لن يتأتى إلا بالتماس العلم أينما كان، وبذل الجهد المخلص بلا كلل أو ملل، والتحلي بالجدية والشجاعة، فليكن رأيك الحر سيفك ودرعك، مهما أثخنت جراحا وهزائم، فالشباب معارك متتالية فيها هزائم وانتصارات، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
--------------------------
بقلم: السفير / معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب