01 - 05 - 2025

بليغ حمدي ... ذكرى لن تموت

بليغ حمدي ... ذكرى لن تموت

الموسيقار بليغ حمدي قامة موسيقية كبرى تستحق التمحيد والذكرى، بما قدمه من أعمال كانت تستمد خصائصها من معين الخلود، أبدع وطور وأثرى الوجدان العربي بمئات الألحان الخالدة التي زادت على الألف.. كانت الموسيقى بالنسبة لبليغ حمدي لا تمثل عمل أو مهنة... بل كانت حالة حب وعلاقة عشق متواصلة.. عشق فيه الحب والغضب.

لقد كان وجود بليغ حمدي حائط صد ضد الفساد الذي ران على حياتنا الفنية في مجال الموسيقى والغناء، وقد كان يقدم الأصيل حتى رحيله، فلم يستسلم كغيره وينزلق إلى الهاوية، وبالنظر إلى أواخر أعماله "أنا بأعشقك"، "أنا من البلد دي"، أغانى مسلسل "بوابة الحلواني" التي جعلت الناس تهتف في صوت واحد "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني"، يتضح أن هذا الفنان كم كان مبدعاً ومجدداً حتى رحل عن دنيانا.    

ويحتل بليغ حمدي مكانة كبرى في تاريخ الموسيقى العربية التي شغلته وسخر كل طاقاته لخدمتها، ونسي نفسه وترهب في محرابها، وأصبحت تعيش معه ليله ونهاره، وتسكن في كل جوارحه، ويعمل في سبيل رفعتها... تعلم وظل يتعلم كل يوم بالرغم مما حققه من نجاح إلا أن الغرور لم يتسلل إلى نفسه يوماً ما.. يستقبل كل ذي تجربة، ويأخذ بيده إذا كان صاحب موهبة حقيقية.. فيفتح له مغاليق الطريق الأول حتى يتعلم العوم، ثم يسبح إلى شاطئ المجد، هذا الرجل الذي ظهر نبوغ موهبته مبكراً وهو لم يبلغ السادسة بعد. 

 نشأ في أسرة كل أفرادها يعشقون الفن الراقي، فالأب هو عبدالحميد حمدي مرسي - الذي وصل لأعلى المراتب في مجال التعليم- كان فناناً بطبعه، وقد حاول في بداية حياته أن يمارس الغناء لولا أن والده خشي عليه من الفشل في التجربة، ومن الفشل أيضاً فى التعليم، فبعثه إلى لندن ليكمل تعليمه العالي، يعود بعدها ليعين في مدارس وزارة المعارف أستاذاً للعلوم، وكان يقيم صالونا يجتمع فيه أرباب الفن من أصدقائه من أمثال: محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ودرويش الحريري، وكان الطفل بليغ ينصت إلى حواراتهم ونوادرهم وأحاديثهم.. فتكونت له حصيلة حببت له هذا الفن وكذلك تعلم فن الموشحات والأدوار على الشيخ درويش الحريري.

وقد ارتبطت ببليغ حمدي بحالة عشق منذ الصغر، وكانت تشدني ألحانه لكبار المطربين من أمثال: أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ومحمد رشدي، ومحرم فؤاد، ووردة ونجاة وصباح وفايزة أحمد، وميادة الحناوي، وسميرة سعيد، وقد عجبت لمن يتحدث عن بليغ في مقالاته بأن يمدح بليغ في مقابل هجاء محمد عبدالوهاب والموسيقيين الآخرين، وهذا لعمري ختل كبير لا يتفق والمنهج العلمي السليم الذي يقيم الأمور بحيادية ونزاهة.. الإعجاب شيء جميل لا يكون مصحوباً بافتراء ونيل من القمم... لقد أعجب بليغ نفسه بعبدالوهاب، وأعجب عبدالوهاب بفنه وتجديده.. أما الذين اختلقوا خلافات لأنهم يعيشون ويقتاتون من وجود مثل الخلافات، فقد افتضح أمرهم أخيراً، بعد أن صنعوا الآلهة في صحفهم التي يكتبون بها، وبمجرد أن يرحل الإله المزعوم يصبون عليه جام غضبهم، ويبحثون عن الجديد الذى يؤلهونه.. جدد الموسيقار بليغ حمدي في الموسيقى مستفيداً من جهود من سبقوه في هذا الفن، وخصوصاً الشيخ سيد درويش الذى أعجب به بليغ وحذا حذوه في بعث الفولكلور..

وقد ترجمت هذا الحب إلى إعداد كتاب عنه صدر عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم تزامنا مع مرور ربع قرن على وفاته وقد استقيت منه هذا المقال احتفالاً بالذكرى الحادية والثلاثين لوفاته..

حياته: 

     ولد بليغ حمدي بالقاهرة بشارع التوفيقية بروض الفرج، فى السابع من أكتوبر 1932م، لأسرة عريقة من الطبقة الوسطى التي نمت بعد ثورة 1919، وتنحدر عائلته من محافظة سوهاج بصعيد مصر، والده هو الأستاذ عبدالحميد حمدي مرسي الذي تخرج في مدرسة المعلمين العليا، وقد زامل فيها الدكتور علي مصطفى مشرفة الذي ألف معه كتاباً عن العالم الكبير "ابن الهيثم"، ثم ألف بمفرده كتاباً بمفرده عن ابن الهيثم وشرح بالتفصيل تجاربه على الضوء والمعدات التى استخدمها. وقد عمل عبد الحميد حمدي بعد عودته من بعثته بجامعة إكستر ببريطانيا بمدارس وزارة المعارف مدرساً للعلوم وترقى حتى صار مفتشاً بالوزارة حتى رحيله سنة 1946عن عمر ناهز 47 عاماً. 

     وقد كان عبد الحميد حمدي يكتب بالمجلات الأدبية العريقة في هذا التوقيت مثل: "الرسالة" التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات و"الرواية" ، و"الثقافة" التي كان يصدرها أحمد أمين، وغيرها.. ومن الأبحاث التي كتبها فهي في مجال تخصصه، مثل: الحسن بن الهيثم، و"بحوث فيزيقية في رسائل اخوان الصفا"، وهناك مقالات أدبية مثل: "د. هـ لورانس"، و"في الأدب الانجليزي الحديث"، وجاء في باب البريد الأدبي، بمجلة الرسالة العدد 298 - بتاريخ: 20 - 03 – 1939 أنه فاز بجائزة عن بحثه في الطبيعة: (الحسن بن الهيثم وجهوده في علم القوة) للأستاذ عبد الحميد حمدي مرسى المدرس بالأميرة فوزية وقيمة الجائزة خمسون جنيهًا.


    كما ترجم بعض القصص والمسرحيات وهي عن الانجليزية التي كان يتقنها في مجلة "الرواية" مثل: "غرام إدوارد الثالث – مسرحية"، و"لماذا أبغض زوجتي"، و"أكان يجب أن أخبرها" عن الانجليزية، و"تعب القلب"، و"لم يرغب احدا في وجودي"، و"في غمرة الموت"، و"الرجل الذي احبته أمي"، و"اختبار زوجة"، و"وهبتها حياة ثانية"، و"مال بلا عمل"، و"لأنها حملتني على الانتظار"، و"حبيبي القديس الآثم"، و"لقد كنت أبا مستبداً"، و"ثورة العاجز"، و"تزوجت جاسوساً"، وترجم أيضاً عدداً من الكتب العلمية مثل كتاب "الكون الغامض" تأليف جيمس جينز (1877- 1946)، راجعه صديقه الدكتور علي مصطفى مشرفة، وتولت طباعته وزارة المعارف، 1942   (المطبعة الأميرية)، وترجم ايضاً كتاب "آفاق العلم" للأستاذ ج.م سلفان وصدر عن المطبعة الأميرية سنة 1946.

    وكان والده مغرماً بالفن وأهله، ومن أشد المعجبين بالموسيقى، ويعزف على البيانو، ويمتلك صوتا ًجميلاً .. وهمّ في بداية حياته أن يحترف الغناء، فسارع أبوه بإرساله إلى جامعة أكستر بلندن في بعثة علمية ليكمل دراسته فى الطبيعيات (يعنى قطع عليه الطريق إلى امتهان الغناء)، وكان مشاهير الملحنين في عصره من أصدقائه ويزورونه في بيته من أمثال: زكريا أحمد، ومحمد القصبجي ، وكان يعقد في منزله صالوناً يدعو فيه أعلام الفن مثل: الشيخ درويش الحريري، وزكريا أحمد، والسنباطي، وصالح عبدالحى وغيرهم، وكان الطفل بليغ ينصت لهم باهتمام ودهشة، ويلتهم ما يسمعه من موشحات وأدوار وقصائد، كان كل مْن في المنزل يعشق الفنون والموسيقى بما فيهم الأب والأم، وكان بالمنزل "فونوغراف" كبير وبجواره مكتبة موسيقية من الأسطوانات شرقية وغربية، بالإضافة إلى وجود "البيانو".

وفى السادسة من عمره جلس بليغ بانتباه إلى الراديو وعلقت أذنيه بالموسيقى، وكان أن استقدم والده مدرساً للموسيقى لتعليم شقيقتيه "صفية"، و"أسماء" فكان هو الذي تعلم العزف على البيانو، فعندئذ شعر والده حبه للموسيقى، فشجعه للاستماع للموسيقى الكلاسيكية الذي كان يكرهها في البداية، فكان يحس بأنها لا تتوافق مع مزاجه في تلك السن الصغيرة، ولكن والده كان يفرض عليه أن يجلس بجواره مرة في الأسبوع لكي يصغى إلى (السيمفونيات) العالمية بهدف دفعه إلى الاعتياد على الاستماع إلى هذا النوع من الموسيقى المركبة المكتوبة بفكر، بالإضافة إنه كان يشجعه على الاستماع للموسيقى الشرقية التي كان يعشقها.

 كانت هذه الأنشطة لا تعطله عن التحصيل فظل متفوقاً حتى حصل على التوجيهية.

 أما أمه "عائشة" التى كان يحلو أن يناديها "ماما عيشة"؛ كانت سيدة حنونا، تعلق بها وأحبها حبا جماً، وخصوصاً بعد رحيل والده المبكر وهو فى الثانية عشر من عمره عام 1946، كانت على درجة عالية من الثقافة، وفدية الهوية، كتبت شعراً فى مدح سعد زغلول، وكانت عضواً عاملاً بجمعية السيدات الوفديات، ويذكر أخوه الكبير الدكتور مرسى سعد الدين؛ الرئيس الأسبق لهيئة الاستعلامات، وأستاذ الأدب الإنجليزي: "مرضت والدتي وكنت أعمل بالخارج ملحقاً ثقافيا بألمانيا، فأحضرتها للعلاج بألمانيا، وجلس بجوارها بليغ قرابة الشهر بعد أن ألغى كل ارتباطاته، وعندما عادت حجز لها في فندق (مينا هاوس) لتقضى فترة النقاهة، وحجز لنفسه غرفة بجوارها، وعندما استقل بنفسه كان يزورها كل يوم جمعة، يتناول الغداء معها، ويحرص أيضا على زيارتها أيضاً في المواسم كليلة النصف من شعبان وغيرها، وأوصى أن يدفن بجوارها".                 

 حصل بليغ على الشهادة الابتدائية من مدرسة "هدى باشا" الأولية بشبرا، وتخرج فيها عام1946، وفي الدراسة الثانوية تنقل بين ثلاث مدارس هي : النيل، والأمير فاروق، وشبرا، وفي هذه المدرسة تعرف إلى زملائه الذين أصبح لهم شأن في الحياة الفنية بعد ذلك، وهم: لطفي عبدالحميد، ويوسف عوف، ومحمد عوض، وصلاح عرام، وسمير خفاجي، وعبدالنور خليل، وعبدالمحسن طه بدر، وأبو الفتوح عمارة، ومن هذه الشلة تكونت فرقة "ساعة لقلبك" التي وضع لها بليغ الموسيقى والألحان.

وكان بليغ يعشق عبدالوهاب في هذا العصر بصوته الذهبي الذي كان لا يزال ذهبياً ... لم يفقد أي شيء من مقاماته كما حدث له - فيما بعد -... هذا الصوت الذهبي جعل العديد من مطربى مصر الذين ظهروا في هذا الوقت يسيرون على منواله، من أمثال: جلال حرب، ومحمد أمين، وعبدالغنى السيد، وابن أخيه سعد عبدالوهاب، وكان العندليب الأسمر يحلم أن يصل لمكانة عبدالوهاب، لأن عبدالوهاب سيطر على مجال الأغنية والموسيقى فترة طويلة بذكائه وتجديده وإطلاعه الواسع على الموسيقى العالمية، وقد أغرم بليغ بعبدالوهاب في هذه الفترة يغني لزملائه أغانيه كلما اجتمعا في فترة الفسحة في "جنينة طوسون" التي تحتل المدرسة قصره.

وفي أثناء وجوده بمدرسة شبرا قرأ بمجلة "الاثنين"، وكانت من أشهر المجلات في هذا الوقت أن شركة "راديو فاى" تجرى مسابقة لاختيار أجمل الأصوات الشابة، وستمنح الفائز الأول جهاز راديو ومبلغاً من المال قدره 25 جنيهاً، وكان بليغ متحمساً جداً للمشاركة فى المسابقة، وذهب بليغ وتقدم لاختبارات المسابقة، ومرت أسابيع، وكاد بليغ أن ينسى موضوع المسابقة حتى فوجيء بحصوله على المركز الأول.

وبعد حصوله على شهادة التوجيهية أراد أن يلتحق بمعهد الموسيقى العربية، ولكن والدته رفضت بشدة وأصرت على دخوله كلية الحقوق، وهي كلية القمة التي  تخرج منها معظم الزعماء السياسيين، فالتحق بها حتى لا يغضبها، واستمر بليغ بكلية الحقوق إلى أن توفاه الله. مات وهو طالب في الليسانس، وكان يحرص كل عام أن يقدم شهادة طبية لتأجيل امتحانه، وكانت إدارة الجامعة تقبلها تقديراً منها لبليغ حمدي الفنان، ومات ولم يحصل على ليسانس الحقوق.

وفي الوقت نفسه التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية لدراسة الموسيقى، وكانت الدراسة به ليلية، وفي هذا المعهد درس "الصولفيج" مع مدرس البيانو "جوليو"، وبات يقرأ ويكتب النوتة الموسيقية، ثم درس علم الأصوات مع أستاذ آخر، ودرس "الهارموني" مع كمال إسماعيل أستاذ الهارموني المصري، ووصل من خلال دراسته للموسيقى إلى مرحلة "الكونتربوينت" أي "اللحن العكسي للحن الأساسي"، وهي مرحلة متقدمة في علم "الهارموني"، وتعلم مباشرة من الشيخ درويش الحريري فن المقامات والموشحات، وكذلك كانت مكتبة والده زاخرة بمئات الأسطوانات من الموسيقى الغربية الذى سمعها أيضاً، وقرأ فيها أمهات الكتب مثل: كتاب "سفينة شهاب" وهو كتاب يزخر بمئات الموشحات والأدوار، وكتاب "الموسيقى الشرقي" لكامل الخلعي، وعن سير القدماء من موسيقى العرب القدماء، كذلك قرأ المسرحيات الغنائية. 

 وفي تلك الأثناء هام على وجهه في شارع علوي مقر الإذاعة في ذلك الوقت، باحثاً عن صوت يؤدي الألحان المزدحمة في رأسه، فلم يجد أحداً، ولم يجد موئلاً له غير فرقة "ساعة لقلبك" الشهيرة في الخمسينات – كما أسلفنا- وكانت تقدم عروضها على مسرح الأزبكية وعمل مطرباً بها وكان يغنى بين الفقرات، وسجل تتر البرنامج بصوته "ساعة لقلبك بتقول فرفش وأضحك على طول"، واشتهر بأغنية كانت مشهورة آنذاك اسمها "البيوه"، وهى في الأصل لحن أجنبي، ووضعوا عليه كلام عربي، كانت فقرة بليغ مشكلة دائمة بالنسبة ليوسف عوف وسمير خفاجي، لأن بليغ كان خجولاً جداً ويخاف من مواجهة الجمهور، فقبل الفقرة كان يهرب ويظلون يبحثون عنه في كل مكان في المسرح، ويحملونه إلى الخشبة، ولعل الخجل هو السبب الرئيس الذي دفعه للهرب من الغناء إلى التلحين. 

وقد غنى بليغ من تلحين غيره في "ركن الهواة"، يستضيف كل حلقة واحداً من الملحنين أو المطربين ومعه ضيف أو أكثر، وكان يقدمه الفنان الملحن محمد عمر الذى لحن لبليغ عدة أغان مثل: "زى اليومين دول"، "طاوعني"، كما غنى أغنية "ليل العاشقين" من تلحين الموسيقار عبدالعظيم محمد، كما غنى لرؤوف ذهني أغنية "لو قلبى خالي"، من كلمات المحامى والشاعر الغنائى أحمد حلمى، زميل الدراسة الجامعية في كلية الحقوق مع بليغ حمدي عند بدايته كمطرب، وفى الثمانينات لحن له بليغ كلمات أغنيته "مش عوايدك" التى غنتها المطربة ميادة الحناوي.

 وتعرف خلال هذه الفترة على الفنانة فايدة كامل، وكانت زميلته في كلية الحقوق، وفي فرقة "ساعة لقلبك" أيضاً، وقد سمعته ذات يوم يغني أغنية من تلحينه "ليه فايتنى ليه"، فأعجبتها وطلبت منه أن تغنيها بصوتها ورحب بالعرض، وإذا بالأغنية تحقق نجاحاً كبيراً بعد تسجيلها بالإذاعة، ولحن لها أغنيتين أخريين هما: "ليه لا"، و"ليه قابلني"، فإذا بهما تحققان نفس النجاح، مما أغرى الفنانة هدى سلطان أن تتصل به ليلحن لها، وقدم لها واحدة من أجمل أغانيها "عزالك علموك ع الهجر وعودوك"، وبعد هذا مباشرة غنت له المجموعة نشيد "يللا يا خويا .. يللا يا عمي"، ولحن لكمال حسنى أغنية "قول لي أحبك ليه"، وأدت هذه الألحان مجتمعة إلى موجة تساؤلات عن شخصية هذا الملحن الجديد، وقيل إنها وصلت إلى الموسيقار عبدالوهاب الذي سأل عنه من يعرفه، وقال "أنه نمط جديد فى التلحين"، وبدأت ألحانه تشتهر وهو مازال طالباً في الجامعة.   

 وبعد مكوثه في فرقة "ساعة لقلبك" قرابة أربعة سنوات كان خلالها يتابع دراسته للفكر الموسيقى، ويعمق معرفته بفنون التلحين، فهو لم يقتنع بنفسه مطرباً، بالرغم من إصرار زملائه بالفرقة على الغناء، فقرر أن يتخطى هذه المرحلة، وطرق أبواب الإذاعة لاعتماده ملحناً، فأعجب الأستاذ محمد حسن الشجاعي بصوته، ووافقت اللجنة التي استمعت إليه بأن يترك التلحين إلى الغناء، فلم يقتنع بهذا الرأي، وصمم على اقتحام هذا المجال بنفسه، فاعتمد على صديقه المطرب والموسيقار محمد فوزي، والذي ساعده على طبع أغانيه فى شركته (مصر فون) والتي لحنها للمطربات الناشئات وقتئذ من أمثال: شادية، ونجاة، وفايزة أحمد.

  وبعد سنوات اتصل به الشجاعي ليقول أنه أعجب بألحانه وأضاف قائلاً: "شوف يا ابني أنا كنت حاسس بالموهبة الموسيقية التي تملكها، ولكني لم أكن أريد أن أدفعك إلى الاحتراف إلا بعد أن أتأكد من أنك درست الموسيقى دراسة حقيقية.. أنا مش ناقص جهل.. المراحل المقبلة مراحل علم..  الموهبة مهمة جداً.. لكنها من غير علم تظل ناقصة. المستقبل هو للملحن الموهوب الذي يعرف أن يقرأ النوتة على الأقل، ويعرف إيه هي الموسيقى.. وأنا عندما تأكدت من أنك أصبحت تملك هذه المعرفة، بعثت في طلبك، والآن تفضل عوّض اللي فاتك ولحن على كيفك".     

   منذ هذا الموقف الذي يدل على نبل وإخلاص رجال من عينة الشجاعي صاحب الفضل الكبير على الموسيقى العربية وهو الذى تولى تقديم المواهب الحقيقية، ولم ينظر إلى الأدعياء، ولم يسل لعابه على الراقصات ليقدمهم بملابس الفراش كما يحدث الآن، وإنما رعى المواهب، وظل يتابع نجاحها وتقدمها.

     بدأت علاقة بليغ تتوطد بالإذاعة، وكان الشجاعي يوليه اهتماماً عظيماً، وأرسله إلى الأستاذ "ميناتو" ليعلمه النظريات الموسيقية، والأستاذة "جوليا" للتعمق في دراسة البيانو، كذلك توطدت علاقته بأعلام الفن والأدب وقتها من أمثال: زكريا أحمد، ومحمد فوزي، ومحمد القصبجي، وأنور منسي، وعبدالغني السيد، ومأمون الشناوي، وكامل الشناوي، فقد تعلم من هؤلاء دروساً عديدة فى الموسيقى والشعر.. فقد تعلم من كامل الشناوي تاريخ الأدب العربي، ومن عبدالرحمن الخميسي فن القصة القصيرة، وكانت جلسات ممتعة للغاية، كل واحد فيها يدلي بدلوه من غير صراع أو ضغينة.

    كان عام 1957 هو عام الحسم بالنسبة لبليغ، ففي هذا العام غنى له المطرب عبدالحليم حافظ أغنية "تخونوه" فأحدثت نجاحاً كبيراً، وتبعها بأغنية " خسارة.. خسارة.. فراقك يا جارة"، التى قال عنها زكريا أحمد " أنه مثال للحن العربى العصري الصميم"، وكان عام 1958 هو عام التألق في حياته فلحّن لنجاة "مش هاين أودعك"، ولحّن لفايزة أحمد "متحبنيش بالشكل ده"، وفي تلك الأثناء بدأ اسم بليغ يتردد على كل لسان، وينضم لقائمة نجوم التلحين ...وكتب عنه النقاد حينها يصفونه بأنه ملحن الجمل المفيدة الجديدة المختصرة... والبعض قال: "لو كانت للبروفات لغة في الموسيقى لكانت ألحان بليغ حمدي هي تلك اللغة"، ثم تأتى محطته مع أم كلثوم ثم مرحلة الفولكلور.

كان عام 1960 عاماً محورياً في حياة بليغ حمدي عندما غنت له كوكب الشرق أم كلثوم أغنية "حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه" من كلمات الشاعر عبد الوهاب محمد، هذا الثنائي الذي كان أول تجاربه مع كوكب الشرق، وقد نجحت هذه التجربة وتكررت في أغنيات أخرى لبليغ، وقد كانت أم كلثوم من الذكاء بمكان.. كانت تحسب كل خطوة وتدرسها وتقف عندها طويلاً، ثم تقرر في النهاية، وقد أرادت أن تستفيد من ألحان شبان الملحنين وكانت قد تعاونت من قبل مع محمد الموجي وكمال الطويل في أعمال عديدة.. ثم تكررت التجربة مع بليغ فأصبحت تغني له كل عام أغنية حتى رحلت في فبراير سنة 1975، وكانت أخر أغنية لكوكب الشرق "حكم علينا الهوي"، وبين محطة "حب إيه" وآخر أغنية لحنها بليغ لأم كلثوم كانت أغنيات"أنساك"، وبعيد عنك"، و"كل ليلة وكل يوم"، و"سيرة الحب"، و"فات الميعاد"، وألف ليلة وليلة"...

ثم كانت محطته مع العندليب الأسمر لعبدالحليم حافظ ، التي بدأت مع لحن مازال يحتفظ ببريقه وهو "تخونوه، ثم لحن له أغان "خايف مرة أحب"، و"خسارة خسارة"، مروراً بالأغاني الطويلة مثل "موعود"، و"زي الهوا"، وأي دمعة حزن لا"، "حاول تفتكرني"، وكانت الخاتمة أغنية "حبيبتي من تكون"..

ثم كانت محطته مع وردة الجزائرية التي عشق صوتها قبل أن يراها حيث أحضر له عازف الكمان أنور منسي أسطوانة لها تغني فيها أغنية "يا ظالمني" لأم كلثوم، وبدأت رحلته مع وردة بأغنيات فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"،حيث لحن لها أغنية "يا نخلتين في العلالي"، وفجأة اختفت وسافرت إلى بلادها الجزائر وتزوجت أحد السياسيين وأنجنبت، والتقاها بليغ مرة أخرى بعد عشر سنوات في مسقط رأسها الجزائر، وكانت المناسبة العيد القومي العاشر لتحرير الجزائر عام 1972، ثم تجدد الود وأقنعها بالمجيء إلى مصر، ووافقت وضحت في سبيل هذا بكل شيء، وقدمت أغنية "والله زمان يا مصر" مروراً بالأغاني العاطفية والوطنية والاجتماعية وأغاني الأطفال ..

والحقيقة أن بليغ حمدي لم يترك مطرباً في مصر والعالم العربي إلا ولحن له أعظم الألحان.. كان مملكته مقصد كل مطرب يريد أن يأخذ صكاً بالصعود إلى المجد في عالم الموسيقى والغناء. فقد لحن لكل من: شادية، ونجاة، وفايزة أحمد، وصباح، ومحمد رشدي، ومحرم فؤاد، ووديع الصافي، وغيرهم ...كما دعم الوجوه الغنائية الشابة بالألحان التي أخذت بأيديهم وصنعت لهم مكانة في خارطة الغناء، فأشتهروا وذاعت أعمالهم، وحققوا شهرة ذائعة من أمثال: عفاف راضي، وعلى الحجار، وسميرة سعيد، وهاني شاكر، وميادة الحناوي، وعزيزة جلال، وذكرى، ونادية مصطفى، ولطيفة...

كما كوّن بليغ ثنائيات شهيرة مع عدد من الشعراء وكتّاب الأغنية، ومن أشهرها كان مع: محمد حمزة، وعبدالرحمن الأبنودي، وعبدالوهاب محمد، وحسين السيد، ومرسي جميل عزيز، وعبدالرحيم منصور، وسيد مرسي، ومحسن الخياط، وإبراهيم موسى، وإسماعيل الحبروك، ومجدي نجيب ومانع سعيد العتيبة وأحمد حلمي وغيرهم...

وطنيات بليغ حمدي:

كان بليغ فارس الأغنية الوطنية، وقد أدرك العديد من المناسبات والأحداث الوطنية، وفرح مع أفراح مصر وحزن عندما حدثت نكسة 1967، ولم يستسلم وأعلن حالة الطوارىء، وكون مع عدد من المطربين والملحنين كتيبة أدت أعظم الكلمات والألحان منها أغاني: موال النهار، وفدائي، وفي حرب أكتوبر كان أول من يدخل الأذاعة وقدم ألحانا رائعة منها: بسم الله، وعلى الربابة باغني، وخطوة واحدة، عاش اللي قال، ويا قمر خدني لحبيبي.. وغيرها من الألحان الذي لم تغادر وجدان الشعب... 

بليغ والفولكلور:

 مما يحمد لبليغ أنه بعث الفولكلور المصري والعربي، وقدمه في أطار عصري مبهر، وساعده في هذا وجود مطربين نجحوا إلى أقصى حد في تقديم هذا الفن منهم : عبدالحليم حافظ، وشادية، ومحمد رشدي، ومحمد العزبي .

بليغ والأوبريت والمسرح الغنائي:

كان بليغ حمدي يحلم ببعث المسرح الغنائي الذي ازدهر في مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.. وقد حاول بليغ أن يبعث المسرح الغنائي بأي طريقة وحاول مراراً، وأعجب كثيراً بفنان الشعب سيد درويش الذي زود الفرق الغنائية بألحانه التعبيرية المتنوعة والتي تفيض قوة وطرباً وصدقاً وذلك قرابة ست سنوات من عمره القصير الحافل بأعظم الأعمال، وكانت لبليغ تجارب في هذا المجال منها: أوبريت "جميلة" لكامل الشناوي، وثاني هذه الأعمال أوبريت "مهر العروسة" الذي قدمه عام 1963، وهو من تأليف الكاتب الكبير عبدالرحمن الخميسي، عن تأميم قناة السويس، ثم لحن أوبريت "تمر حنة" الذي كتبه وصاغ أغانيه عبدالرحيم منصور، وأسند بطولته للمطربة "وردة" زوجته، كما قدم الموسيقى والألحان لأوبريت "ياسين ولدى" من بطولة الفنانة الكبيرة "عفاف راضى"، أما أخر عمل مسرحي قام بتلحينه فهو أغانى مسرحية "ريا وسكينة" التي قامت ببطولتها شادية، وسهير البابلى.

المحنة والغربة:

في منتصف الثمانيات تعرض بليغ لمحنة قاسية، هي مقتل المطربة المغربية سميرة مليان واتهام بليغ بمقتلها، وخرجت الصحافة وقتها وشنت عليه حملة شديدة، وقدم للمحاكمة ، ثم استطاع أن يهرب خارج مصر، ويتخذ باريس منفى اختيارياً، وهذه المحنة هي نقطة النهاية في حياة بليع والتي قضت عليه وسببت له الآلام والمرض الذي تمكن من جسده، وبعد خمس سنوات قضاها في الغربة عاد بليغ إلى أرض الوطن، وأعيدت محاكمته وحصل على صك البراءة، ثم يعيش بعدها بضع سنوات يصارع المرض اللعين حتى انتصر عليه في النهاية وهو بعيد عن مصر في إحدى مستشفيات باريس وذلك يوم 12 سبتمبر 1993، وقد عاد على لحن جنائزي.
------------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال 
* كاتب مؤرخ مصري