يقتربُ "النّبي" من بيته رُويدًا رُويدًا، يَهِمُّ بإشعال القنديل، فيَحُثه قلبه أن يَتَرَيث قليلًا.. يمشي على مهلٍ.. على أطراف أصابعه الشّريفة؛ مَخافَة أنْ يُوقظ إِحدى أزواجه !!
يتجه إلى صحن الدّار، يمد يده الشّريفة تتحسَّسُ كِسْرَة خُبزٍ وبعضَ تمرٍ، أو قليلًا من اللحم ونزرًا يسيرًا من المَرق؛ تَنِّدُ عنه تمتمات الرّضا، تكفيه لقيمات يُقمن صُلْبه الشّريف، يأوي لفراشه؛ جِوار حِبِه "عائش"؛ بهدوء يتمدد.. يتدثر بغطائها، يغفو نصف الليل إلا قليلًا.
تَصْدح أصوات سماوية؛ تعلن موعد لقائه بِقُرَّة عينه الصّلاة، بمزيدٍ من الهدوء؛ يحاول النّهوض كي لا يوقظ زوجَه العاشق.
كلما ابتعد وجدها تلتصق به، يتعجب.. يبتسم.. كان يخالها نائمة؛ فإذاها تَوّدُ قُرْبَه، لتنعم بأن يمس جلدها جلده الشّريف كما باحت له بحياء، فيرق لها قلبه، لكنّه يستعطفها ليذهب ليروي عطشه من العشق الإلهيّ؛ ويناجي ربه؛ خاشعًا مُتذللًا حتى تُدْمَى قدماه الطّاهرتان من طول وقوفه بين يدي خالقه.. تجيبه المُحِبة لِطَلَبِه؛ وكيف لا وهي تُكابدً عِشقين.. عشق لخالقها وآخر لحبيبها المصطفىٰ -صلىٰ الله عليه وسلّم- الذي تزوجها بأمرٍ سماويّ عظيم.
تلُوح شمس الأُفق، يغمر الضّياء بيت النّبوة، تترامىٰ لمسامع "النّبي" بُهتانَ بعض المنافقين، يخوضون في عِرض زوجه "عائش" (حديث الإفك)، يُوغِرون صدره بخبث الكلام، فلا تهتز ثقته بأهل بيته، يتحلىٰ الخَلُوقُ بالصّبر، لا يتطرقُ لقلبهِ الشّكُ، يُخْفي عنها ما تلوكه الألسن، يرأف لمرضها مدة شهر كامل، يسأل عنها بقوله الحاني: "كيف تيكم"، حتى يثلج صَدْرُه بثماني عشرة آيات متتاليات تُبرِّئُها، وتتوعد المنافقين بعذاب شديد.
تعود الحياة الأُسرية لطبيعتها في بيت النّبوة، هذه المرّة تغضب "الجميلة"؛ فيلاطفها بلين الكلام، تزيد في دلالها لمعرفتها بمكانتها في قلبه، فتهْجُر اسمه فقط؛ دون فُحشٍ في القول أو المعاملة -هكذا أدّبها دينها- فتثيرُ عاصفةً من الرّأفة في قلب "الزّوج" المحب، فيدنو واضعًا يده الشّريفة برفقٍ على منكبها، يدعو "ربه" بحنان بالغ: "اللهم اغفر لها ذنبها، وأذهب غيظ قلبها، وأَعِذْها من الفتن".
الله الله.. لم يضربها، لم يُعنّفها، لم يهجرها، ظل يتودّد ويتودّد، ويُسْمِعُها ما تشتهي من طيب الكلم -فالمرأة تعشق بأذنيها- حتى طابت رُوحها.
تتوسط الشّمس صفحة السّماء، فيَنْحَرُ شاةً؛ ويرسلها هدية لصديقات زوجه الأولىٰ "خديجة" -رحمها الله- إحياءً لطيب ذكرىٰ هاتيك الوفية، فتغار "حُميراء الوجه" وتتمتم: "ما كانت إلا امرأة عجوز؛ أبدلك الله خيرًا منها".. فيغضب في تأدبٍ، ويأبىٰ الوَفيُّ قائلًا: "والله ما أبدلني خيرًا منها، فقد آمنت بي حين كذبني النّاس، وأعطتني من مالها حين حرمني النّاس، ورُزقت منها الولد وحُرِمْتَ مِنْ غيرها".. ما أروع خُلُق الوفاء الذي تَحَلَيت به يا نبي الرّحمة.
حملتَ يا حبيبي أكرم السّجايا، وأشرف الشّمائل، وأطيب الفضائل، وأوصيت بالنّساء خيرًا، وكنت قدوة في رعاية أهل بيتك، تُعلمنا أن الدّين ليس أحكامًا وعباداتٍ وعقائد فقط، بل حُب وود ومرحمة، أفمن يقترن بكل هذا الجَمال أفلا تَغار عليه زوجه ؟! أو لا تتمنىٰ أن يمسَ جلدك الشّريف جلدها ؟! أو لا تتوضأ هي من بقايا ماء طهورك الشّريف ؟! أو لا تضع القارورة أسفل وسادتك في القيظ؛ فينثال طيب عَرَقِك فيها؛ فتتعطر به أزواجك، فتضوع رائحته وتنْداح مُتباهية على أجود أصناف العطور العربيّة والهنديّة والفارسيّة ؟!
يأتي وقت الطّعام؛ فتحنو على زوجك -الحائض- وتُقْسِم عليها أن تأكل منه، فإذ بك تَتَحَرَّى مَوضعَ فمها؛ لتضع فمك الشّريف على موضعها، مُجاملة ومُؤانسة ومَحبة ومَودة خالصة منكَ، وكأنك تُلقي الدًرس علىٰ أصحاب معتقدات وديانات يهو..ديّة ووضعية ينبذون المرأة حائضًا؛ فلا يأكلون من يديها، وينفر منها أبناؤها، وكأنّها رجس من عمل الشّيطان !! وأنت أنت تبحث عن موضع فمها الزاكي؛ بل وتتكئ وتضع رأسك في حِجْرِها تتلو قرآنك !!
أَدَّبَك ربك يا حبيبي؛ فكان خُلُقُك القرآن، فلم تضرب زوجاتك يومًا، ولم تلطم خدّهنّ قط، ولم تكن سبابًا ولا فظًّا ولا غليظًا فاحِش القول، زُيّنتَ بالتّواضع: فَرَقّعْتَ ثوبك، وخصفتَ نعلك، وحَلَبْتَ شاتك، ورفعتَ الدّلو، ولم تتململ وأنت في صنعةِ أهل بيتك؛ تمد لهم يدَ المُعاونة، حتى إذا ما حضرتِ الصّلاةُ؛ خرجت تَؤم المسلمين، ليعبدوا الله كأنهم يرونه.
تعود ثانيةً لبيتكَ؛ تطلب طعامًا، فتقدم لك إحداهنّ ما اَعَدَّته لك، وبِخُلُفِك الحَسَنِ الذي جعلك خِيار الرّجال لنسائه؛ تُقْبِلُ على الطّعام إن اشتهته نفسك، أو تتركه إن عافَتْه، دون أن تنبس ببنت شفة لمن صنعته، حتى تظل على ثقتها في نفسها ومهارتها في إعداد الطّعام !!
لله درّك.. ما أروعك، يا مِنَّة البشريّة؛ يا رحمةً بالإنسانيّة؛ يا نعمةً للأمة الإسلاميّة؛ أيها الحبيب الرّقيق؛ يا مَنْ تتحرىٰ العدل بين زوجاتك؛ لكن قلبك العاشق يأبىٰ فيميل لـ "عائش"؛ البِكْر الصّغير؛ ابنة صاحبك وحبيبك وصفيك "أبو بكر"، فتخشىٰ أن تظلمَ زوجاتك الباقيات الصّالحات، فينفطر قلبك الشّريف، فتشكو همّك لربّك، مُوقنًا أنّ القلب بين اصبعي الرّحمن يُقلبه كيفما يشاء، فيلهمك ربّك اطمئنانًا خفيًّا، بأنّ أمر القلوب بيده، وأنّك لن تُحاسَب إلا على أفعالك... آه يا رسولي وشفيعي من هاتيك المثاليّة التي تتوخاها.
قُدْتَ أمةً كاملةً؛ فكنتَ قائدًا ومُعلّمًا وحكيمًا، فكيف حين يحدث خلاف بينك وبين "زوجك" تُخَيرُها كي ترتضي حكما بينكما ؟! فتختارُ هي أباها، وتنبهكَ أمامه ألا تقول إلا الحق !! وهل تكلمتَ يومًا قبل أو بعد النًبوة بغيره ؟! فكيف تطلب منك أن تتكلم بالحق ؟!
يشتعل قلب "أبيها" غيظًا؛ فيلطمها على أنفها؛ فتهرب المسكينة تحتمي بظهرك الشّريف، فتبادلها الثقة؛ فتُقسم أنت على "أبيها" أن يترككما، قد تأذيت لأنه لطم "حبيبتك" !! ثم تنفردُ بها باسِمَ المُحَيّا؛ وتقول في حنو: "أُدْنُ مِنّي".. فترفض بدلالٍ أنثويٍّ جميل، فتزداد ابتسامتك قائلًا: لقد كنت من قبل شديدة اللزوق (اللصوق) بظهري".. إيماءةً لطيفةً منك لاحتمائها بحُبكَ.
حين نتعجبُ من حُسن خُلقك؛ تُطمئننا لبشريتك: "إنما أنا بشرٌ يُوحَىٰ إليّ".. فتأتيك زوجك صفية بنت حُيّي؛ تشكو "عائشة" لأنها عايرتها بكونها ابنة يهو..ديّ، فيفتر ثغرك الباسم، وتعلمها أن تأخذ بثأرها أخذا جميلًا: "قولي لها زوجي مُحمد، وأبي هارون وعمي موسىٰ".. كلماتٌ ليست كالكلمات !!
يا شديد الحِلم؛ وكريم الطّبع؛ حين ترسل لك احدى أزواجك لحمًا وثريدًا مما تشتهيه نفسُكَ، وما إن يصل الخادم بصحفة الطّعام؛ وقبل أن تمد يدك الشّريفة؛ تمتد يد الغيرة لإحدى زوجاتك فتلقي بالصّحفة على الأرض فتنفلق، فإذاك تبتسم وتنحني في تواضع جَم؛ تلملم الطّعام وتقول :"غارتْ أمكم".
يسألونك على الملأ؛ أمام وُجَهاء القوم وعامَّتِهم: "مَنْ أحَبّ النّاس إليك".. فتقولُ: "عائشة"..
فمن علَّم أتباعك أنًّ ذِكْر اسم المرأة عورة؛ وعليها أن تُكنَّى باسم ابنها؛ فتصبح أم فلان ؟! من أوحىٰ لرجالنا بأن البوح بالحُب من المحرّمات ؟! لم يروك إذن وأن تَسَّابق معها؛ فتسبقك في الأولىٰ؛ وتسبقها أنتَ في الثّانية؛ لا غالب ولا مغلوب.. فكل منكما يغلبكما الحُب والود.. لم يعرفوا أنَّك شبهتنا بالقوارير !؟ حتى إذا ما دعاك ربك للقائه؛ خطبت خطبة الوداع -والدولة بها ما بها من جسام الأمور- فإذاك تُوصِي الأُمّة الإسلامية: "استوصوا بالنّساءِ خيرًا".. قولًا وفعلًا وختامًا، معزوفة حُبٍّ ووفاء وإحسان ومرحمة..
يا جميل المعاشرة؛ يا لطيف التّعامل، يا مَنْ أوسعتَ أزواجَك نفقةً؛ دون تقتيرٍ ولا تبذير؛ وخَيّرْتَ من لم تَرْضَ بأن تسرحها السًراح الجميل، ضاحكتهنّ وسامرتهنّ، وأغدقت عليهنّ بمشاعرك الجياشة؛ فأبين أن يُفارقنَّكَ مهما شظفت الحياة أحيان ؟ا لأنك علمتهنّ أن الحياة حُبٌ، وأن قوافلَ المُحبين وأقدامَ العاشقين تَسّابقُ إليه، وأن قلبَ الأنثىٰ أرقُ مِنَ الزّهرة.
كنتَ مُعَلمًا لرجالات قومِك؛ كيف يعطفون على قلوب ورداتٍ قَبِعْنَ في رحلهم كي لا يُدْرِكهنَّ الذّبول.. وعلمتنا أن ديننا أنصفنا؛ وجعل كلًّا منّا ملكةً متوجةً على عرش من خُلِقَتِ مِنْ ضِلعِه، ليشتاقنا ونشتاقه.
فهل نرتضي أن يكون لنا يومًا عالميًّا للاحتفاء بالمرأة؛ وديننا يحتفي بنا طوال العمر؛ أُمًّ وزوجًا وابنةً وأختًا ؟! بوعدٍ حقٍ من حبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه، وبقولٍ وفعلٍ ووصيةٍ؛ وبقرآنٍ يُتلىٰ آناء الليل وأطْراف النّهار على مر الأزمان... لكن البعض فقط يحتاج لأن يَفقَهَه كي يُطَبِّقُه.
-------------------------
بقلم: حورية عبيدة