ـ لم أتوقف عن كتابة الشعر حتى اليوم وتمنيت ألا تنشر كل قصائد ديواني الأول
ـ ليس مطلوبا التلازم الوثيق بين الأدب والسياسة .. ولكن
ـ "البيان الشيوعي" أول كتاب في الماركسية أطالعه وعثرت عليه في حقيبة حديد لأبي بعد وفاته
ـ حدثني "أسعد داغر" عن القضية الفلسطينية عند زياراته الصيفية لبلدتنا قادما من القاهرة
ـ قرأت "جبران" منذ عامي التاسع واجتذبني تمرده على رجال الكنيسة والواقع الطبقي
ـ المشهد الأكثر هولا في حياتي إطلاق النار على رؤوس المحتجين تضامنا مع المقاومة 1969
ـ اعتبارا من 69 بدأت اهتم بكتابات "تروتسكي" ونقاد الستالينية والبيروقراطية السوفيتية
ـ هذا هو دوري في استمرار إضراب طلاب الجامعة اللبنانية عن الطعام بعد قصف مطار بيروت
ـ كنا على خلاف دائم مع قيادة "منظمة العمل الشيوعي"، وهذه قصة فصلي منها.
ـ لم انخرط في أعمال قتالية باستثناء إسهام محدود عند الاجتياح الإسرائيلي 1982
يتجنب "كميل قيصر داغر" ( مواليد 1945) أن يطلق عليه "المفكر"، ويتمسك بـ "الكاتب والمحامي". وهذا على الرغم من كونه أبرز منظري اليسار الجديد "اللاستاليني" في عالمنا العربي، ولديه من الكتابات والإسهامات الفكرية النظرية ما يفوق عددا وأهمية وثراء وإثارة للنقاش العديد ممن يتفاخرون بأنهم "مفكرون عرب".
ولا يعتبر في هذا الحوار النادر، لأنه قليل التصريح للصحافة والتعامل مع الصحفيين، كونه مترجما محترفا. وهذا على وفرة ما قدمه من كتب مترجمة على مدى مايزيد على الثلاثين عاما، وبين 1974 و 2005. وكذا لأهمية الأعمال الفكرية السياسية والأدبية وفي النقد الفني وسير الفنانين العالميين التي ترجمها للمكتبة العربية، و منذ كتاب "الماركسية والعالم الإسلامي" لمكسيم رودنسون وحتى كتاب ""مرايا الهوية: الأدب المسكون بالفلسفة" لجان فرانسوا ماركيه.
وهل بالإمكان نسيان ترجمته المبدعة لثلاثية أو سفر "إسحق دويتشر" عن "تروتسكي"، والمنشورة بين 1981 و 1983؟، أو مقدماته التحليلية المثيرة للنقاش لترجمات كتب ستظل بمثابة علامات عند التأريخ للإطلالات باللغة العربية على جديد الفكر اليساري والثوري، وعالم النقد الأدبي والفني الحديث.
كما لا يقدم نفسه للآخرين شاعرا، مع أنه لم يتوقف عن قرض الشعر، وخوض غمار تجارب إبداعية لتطوير القصيدة العربية، منذ ديوانه الأول " الرحيل وألحان جنائزية" الصادر في بيروت 1965، وحتى بعد آخر دواوينه المنشورة "كان بستان يسمى الشمس" العام 1994.
هذا الرجل، الذي شارف على عامه الثمانين، بدا عندما التقيته مرات في بيروت بين ديسمبر/ كانون الأول 2023 و فبراير/ شباط 2024 ثم حاورته لساعات بداية الشهر التالي مارس/آذار بمنزله قرب مدينة "جبيل"، و كأنه اعتاد التواضع وإنكار الذات. قليل الكلام حتى في لحظات الصفاء والدفء الإنساني. وهكذا كان عندما اصطحبني إلى جولة على ساحل "جبيل"، وفي شوارع المدينة. وحينها بدا في صمته وتأمله عميقا بلا صخب. وكحال البحر الذي استقبلنا هادئا يهز مراكب الصيد فوق مياهه في رفق، وإن ينبئ بمفاجآت في الأفق.
وجاء هذا الحوار بعدما قطعت حرب الإبادة على غزة ومقاومتها أشواطا تكفي لأن تنبئ بتغيرات إقليمية وعالمية آتية لا ريب فيها، وإن مازال من الصعب تحديد: كيف ستكون؟.
في أحاديثنا خارج هذا الحوار الصحفي تتبدى مرارة جراء ما انتهت إليه انتفاضة الشباب اللبناني تشرين أول / أكتوبر 2021. لكن إنسانا مثقفا بهذه الصلابة وبعد النظر لا يعتنق اليأس. ولا يتمكن منه على الرغم من تدهور أحوال لبنان على مستويات عديدة.
.. وإلى نص الحوار الذي ننشره على ثلاثة أجزاء:
(إشعاع "تنورين"والأب و"أسعد داغر")
* برجاء إعطاء فكرة، ولو بشكل موجز، عن مصادر ومؤثرات تكوينك الثقافي الفكري والأحداث والشخصيات التي أسهمت في هذا التكوين في سنوات الطفولة والصبا والشباب؟
ـ أمضيت الفترة الأولى من حياتي بالريف اللبناني في بلدة "تنورين"، و"دوما" المجاورة لها. وهذا حتى نهاية العام 1958. والدي كان متأثرا بالقضية العربية وبقربه من نسيبه وصديقه "أسعد داغر"، الذي أخذ الجنسية المصرية منذ بداية العشرينيات، وكان على علاقة وثيقة بالحركة العروبية المعادية للاحتلال العثماني، ثم فيما بعد للاحتلالين الفرنسي والبريطاني، وعمل مسؤولا للشئون الدولية بصحيفة "الأهرام" في الثلاثينيات والأربعينيات على ما أعتقد. وفي عام 1953 أنشأ جريدته الخاصة " القاهرة"، التي ظلت تصدر حتى وفاته بمصر العام 1958(*).
* هل رأيت "أسعد داغر" وتفاعلت معه؟.
ـ كنت طفلا وقتها، وأتذكر أنه كل ثلاث أو أربع سنوات كان يأتي إلى "تنورين" ويقضى شهرين في الصيف. وكان والدي يصطحبني إليه. كما أتذكر أنه طلب مني ومن أخي الراحل "منذر"، الأكبر مني بثلاث سنوات، زيارته من وقت لآخر، فيتكلم معنا على القضية الفلسطينية، وبشكل خاص اعتباراً من العام 1955، يعني مع بداية سنوات المراهقة.
أما والدي فإلى جانب عروبيته، كان على علاقة ما بالحركة الشيوعية. وهو ما أدركته بعد وفاته (العام 1963)، من خلال الجمع بين أكثر من معطىً لم أكن اهتم به من قبل، ومن ذلك الصداقة القوية التي جمعته بطبيب من بلدة "كفرحلدا" اسمه "رشيد معتوق". وكان واحداً من أنصع من مارسوا مهنة شفاء الناس، وأكثرهم بذلاً وتضحية، كما كان مناضلاً في حركة السلام العالمي. فضلاً عن لقائه أكثر من مرة بالقيادي الشيوعي اللبناني "فرج الله الحلو".
وبعد أيام من رحيل أبي عثرت بين كتبه على "البيان الشيوعي" مترجماً للغة العربية. وجدته في حقيبة حديدية كبيرة بالمنزل كان يضع فيها أشياءه الثمينة، وكتبه الأكثر ندرة، وكتاباته الخاصة به. وهذا الاكتشاف أظن أني تأثرت به جداً. كان "البيان الشيوعي" أول كتابٍ مؤسِّسٍ في الماركسية أطَّلع عليه.
(من هزيمة 67 واغتيال "جيفارا" إلى المقاومة الفلسطينية)
* لو تتحدث عن المدارس التي تعلمت بها؟
ـ تعلمت في مدارس متنوعة، من بينها "الإخوة المريميون" "بجبيل" بين العامين 60 و1961. قضيت هناك عامين، وكانت المدرسة تابعة لإرسالية فرنسية. وقبل ذلك في "معهد الرسل"، في "جونية". لكن في أغلب سنوات الدراسة ما قبل الجامعية، تعلمت في مدارس رسمية، ثم التحقت بالجامعة اللبنانية بين العامين 64 و1969، حيث تعلمت الحقوق والأدب العربي، واخذت إجازتين فيهما في السنوات ذاتها، لأعود واحصل بعد ذلك دبلومين في الحق العام والحق الخاص، في الجامعة عينها.
* خلال سنوات الجامعة، ماهي أبرز المؤثرات في تكوينك الثقافي والسياسي؟
ـ كان تأثير حرب 1967 كبيرا. هي لعبت دورا مهما في توجهي الفكري والسياسي. قبلها لم يكن لدي موقف أو توجه محدد، وإن كنت تأثرت كثيراً بقراءة "البيان الشيوعي"، كما سبق وأشرت.
في ذلك العام ، حدثت أمور أظنها طبعت حياتي على نحو أكبر: الهزيمة المنكرة للأنظمة العربية أمام إسرائيل، ثم مصرع "جيفارا"، في خريف ذلك العام. وهو ماجعلني أقرأ كتاباته، والكثير مما كُتب عنه.
ثم بدأت المقاومة الفلسطينية في الظهور بلبنان. ومنذ العام 1968، بدأت الاهتمام بالمنظمات الفلسطينية التي كانت هنا، مع التشديد على خيار المقاومة الشعبية. وتعمقت علاقاتي بهذه المقاومة، وسافرت إلى الأردن، مراراً، للتعرف إليها، عن كثب، وإنْ في أسفار قصيرة. وكان هذا قبل مذبحة "أيلول"/ سبتمبر 1970. وكنا، في الجامعة، كما خارجها، نساهم في معظم المظاهرات، دفاعا عن الوجود المسلح للمقاومة الفلسطينية في لبنان.
(إضراب طلابي والمشهد الأكثرهولا)
ومن المهم أن أورد أنه خلال تلك المرحلة من التكوين السياسي والفكري، حدث تحرك بالغ الأهمية في الجامعة اللبنانية، وتحديدا بين نهاية العام 68 وبداية العام 1969، عندما قامت إسرائيل بقصف مطار بيروت الدولي ودمرت الأسطول الجوي المدني اللبناني (28 ديسمبر/ كانون الاول 1968). وقتها عملنا إضراب جوع ضد بقاء حكومة "رشيد كرامي"، مقره كلية التربية بالجامعة اللبنانية. وشارك في هذا الإضراب حوالي الـ 200 من طلابها، ودام ثلاثة أو أربعة أيام، لتنعقد بعد ذلك جمعية عامة قررت وقف إضراب الجوع. ولكني رفضت ذلك القرار آنذاك بشكل منفرد، وأوضحت الأسباب الموجبة، داعياً من يتضامن مع موقفي هذا للحاق بي إلى إحدى غرف الكلية العلوية، حيث بقيت مضرباً مع ستة طلاب آخرين، وذلك لمدة ستة أو سبعة أيام أخرى.
وفي اليوم الأخير، جرى نقلي إلى المستشفى، فتوقف الإضراب على الفور. علماً بأن تلك الايام القليلة شهدت مجيء عدد لا بأس به من الرموز السياسية الهامة في تلك الفترة، لمحاورتنا، ومن بينهم بوجه خاص القيادي الاشتراكي الراحل، "كمال جنبلاط". وأذكر أني قلت له آنذاك إن الشكل الوحيد المناسب للتضامن مع تحركنا، وللارتقاء الى مستوى المهام التي يتطلبها الرد على العدوان الصهيوني، يتمثل في إعلان الاستقالة من المجلس النيابي. وهو الأمر الذي اعتبره قصوياً (متطرفا) وعديم الفائدة.
لكن هذا الحراك أسهم، مع غيره من النشاطات الاعتراضية والتعبوية، في إطلاق تحركات شتى على الصعيد الطلابي أدت إلى مظاهرات لاحقة. وكان أهمها تلك التي لعب دوراً أساسياً في انطلاقها الصدام العسكري مع المقاومة الفلسطينية، وتمت في 23 نيسان (أبريل) 1969، "بمحلة البربير" في بيروت، تلك الساحة التي بقيت سنواتٍ طوالاً تعرف "بساحة 23 نيسان" (أبريل).
ولن أنسى يوماً مشهد مسلحي السلطة يطلقون النار مباشرة على الرؤوس، آنذاك، ودماغ أحد الشهيدين الشماليين، "صفوان دندشي" (من بلدة مشتى حمود في عكار) و"أحمد ولي الدين" (طرابلس)، اللذين قضيا آنذاك برصاص قوى القمع، يسقط بكامله على الأرض على بعد سنتيمترات قليلة مني. كان ذلك أحد اكثر المشاهد هولاً في حياتي!
وأسفرت تلك التظاهرة عن استقالة حكومة "رشيد كرامي"، وبقاء لبنان بدون حكومة رسمية عدة أشهر، وإلى حين توقيع "اتفاقية القاهرة" في خريف ذلك العام، التي أتاحت للمقاومة الفلسطينية العمل ضد الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية. كما أدت أيضاً إلى تجذير الحركة الطلابية اجتماعياً، وعلى مستوى القضية الوطنية.
(قراءات سنوات الجامعة)
* لو تتذكر أهم الكتب التي قرأت وأثرت في تكوينك خلال سنوات الجامعة؟.
ـ في هذه السنوات وبعدها مباشرة، قرأت كتابات شتى، بخصوص حركات التحرر الوطني، والثورات الاجتماعية، والنظرية الماركسية. وتوقفتُ باهتمام بوجه خاص، في معرض الإطلاع عليها، عند ذلك الجزء منها الذي يتعلق بجناح هام في الماركسية كانت تعتبره الأوساط المرتبطة بموسكو والبيروقراطية السوفييتية خارجاً على الأيديولوجية التي تتبناها. هكذا بدأت اهتم بكتابات "تروتسكي"، وغيره ممن أسهموا في تأسيس "الأممية الرابعة"، أو التحقوا بها بعد تأسيسها. وهذا الإطلاع بدأ من العام 1969 واستمر بعدها.
قرأت حينها وبالأساس "الثورة الدائمة" و"الثورة المغدورة" لتروتسكي. وفيما بعد قرأت "لإسحق دويتشر" و"إرنست ماندل"، وما أوضحاه، بوجه خاص، بشأن أفكار "تروتسكي" و دوره الحاسم في انتصار ثورة اكتوبر. وتحديدا "تروتسكي، الذي كتب "ستالين"عنه بالذات، في جريدة البلاشفة المركزية "البرافدا"، في السابع من شهر نوفمبر 1918، أن "جميع أعمال التنظيم العملي للانتفاضة تمت تحت القيادة المباشرة لرئيس سوفييت بتروغراد، الرفيق تروتسكي .. ويمكن للمرء أن يقول على وجه اليقين إن الحزب يدين أساسا وقبل كل شيء للرفيق تروتسكي في الانتقال السريع للحامية (حامية بتروغراد العسكرية) إلى جانب السوفييت ، والتنفيذ البارع لعمل اللجنة العسكرية الثورية".
وانطلاقاً من السبعينيات، اخذت أقرأ في كل الفكر الماركسي غير المتأثر بالانحرافات الانتهازية التي شهدها بعد تحول الأممية الثانية، ومن بعدها الأممية الثالثة، إلى مواقع الثورة المضادة. ولا سيما لكل من"جرامشي" و "روزا لوكسمبورج"، و"جورج لوكاش"، وآخرين، بالفرنسية والعربية.
(الابتعاد عن الماوية كالستالينية والخلاف مع "العمل الشيوعي")
* وهل قرأت "لماو" وفي "الماوية"؟
ـ أكيد قرأت "لماو"، لكن في تلك السنوات سرعان ماعلمنا بمجازر "الثورة الثقافية" ( 1966). وعلى ضوء هذا، وصلت إلى انطباع بأن "ماو" كان بدوره ستالينياً، ولا يختلف عن البيروقراطية السوفييتية اختلافاً جذريا. ولذا ابتعدت عن "الماوية" تماماً، مثل ابتعادي عن الستالينية، واتبعت الخط الذي اعتبرته ثورياً، وانتسبت - بعد تجربة قصيرة نسبياً في تنظيم وسطي هو "منظمة العمل الشيوعي"، إلى "الأممية الرابعة"، وتنظيمها في لبنان.
وفي أوائل السبعينيات، كنت التحقت، مع آخرين،بـ"منظمة العمل الشيوعي". ولكن كنا على خلاف دائم مع خط قيادتها، فقدمنا مراراً، في الخلية التي انتميت إليها، نصوصاً مناهضة للخط السياسي للمنظمة. وكان آخر نص كتبته في هذا السياق بين العامين 73 و1974، عندما طرحت "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" مسألة السلطة الوطنية والقبول، عملياً، بقرار التقسيم (الصادر من الأمم المتحدة العام 1947)، والتحقت قيادة منظمة العمل بذلك الموقف.
وقتها، كتبت للنشرة الداخلية للمنظمة نصاً - وافقت عليه خليتي بالإجماع - ضد تبني القيادة طرح "الجبهة الديمقراطية" هذا، الذي يعتنق إقامة سلطة وصفت "بالوطنية"، على أي قطعة من أرض فلسطين "يتم تحريرها"، بحسب القرار الذي قضى بذلك. لكن هذا النص وغيره من نصوص تنتقد خط قيادة "منظمة العمل الشيوعي" لم تجد طريقها للنشر في منشورات "المنظمة" الداخلية.
وفي الواقع، ومن جانبنا، كنا نرى أن الحل الوحيد الذي ينسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية، كان يقضي، كما دائماً، بتحرير فلسطين، أولاً، وضمن برنامج يتضمن إنشاء دولة تضم اليهود وكل من يريد من الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وخارجها في الشتات، دولةٍ ديمقراطية ثورية على كامل أرض فلسطين، دولة علمانية لاعلاقة لها بأي دين.
وماحدث أن قيادة المنظمة أرسلت إلى خليتنا للنقاش عضوين بالمكتب السياسي، من أجل إقناعنا بالتخلي عن هذا النص. وانتهى الحال إلى أنهما لم يستطيعا إقناعنا، وصوتت الخلية في حضورهما على تبني هذا النص، ورفض وجهة نظر القيادة المشار إليها. وحينها، وعلى الفور، قام أحد العضوين الموفدين إلينا، وبعد نقاش دام من السابعة مساء، حتى ساعة متأخرة من الليل، بإخراج ورقة صغيرة من جيبه، وقرأ مضمونها، وكان ينص على قرار فصلي من المنظمة.
(إصابة مع بداية الحرب الأهلية)
وفي أواخر العام1977 ، وبعد سنوات على فشل تجربتي في المنظمة هذه، انتسبت "للتجمع الشيوعي الثوري"، كفرع للأممية الرابعة في لبنان.
وأود أن أذكر أنني في الوقت عينه الذي اهتممت فيه بالقراءات النظرية والسياسية، وبالنشاط التنظيمي، كنت، منذ أوائل الستينيات، قد بدأت الاهتمام بكتابة الشعر وقراءة الأدب. ومنذ أواسط السبعينيات، رحت أترجم كتبا سياسية ونظرية، وأخرى أدبية.
وبصفة عامة، أسهم تميز لبنان أواخر الستينيات، ومن ثم السبعينيات، بالدفاع عن المقاومة الفلسطينية،مع الصعود المتنامي للاحتجاجات الاجتماعية وبدء الحرب الأهلية، في تعاظم وعيي الفكري واهتماماتي الثقافية، والسياسية ايضاً. وبخاصة أنني أصبت في مطلع تلك الحرب، وبالتحديد في 26 ايار 1975، إصابة بليغة كادت تودي بي. ومع أنني لم أكن في أي من الأوقات منخرطاً في الأعمال القتالية.
والحالة الوحيدة التي شهدت إسهاماً، من جانبي، ولو محدودا، في تلك الأعمال، اقتصر على مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في صيف العام 1982. فخلال تلك الفترة، كنا، كمجموعة ماركسية ثورية متواضعة، من حيث العدد، موجودين في بيروت، بالذات وبصورة محدودة جداً، في منطقة (الشحار الغربي-عاليه)، وذلك في وضع المقاومة القتالية للاجتياح، ومن بعده الاحتلال. وبالطبع، فكل هذه الأمور كانت جزءاً لا يتجزأ من تجربتي، وانعكست على كتاباتي وترجماتي، أيضاً.
(من تأثير "جبران" إلى دواوين الشعر)
* وبالنسبة لبدايات قراءاتك في الأدب؟.
ـ قرأت كتبا لأدباء سوفييتيين وروس. وهذا النوع من القراءات بدأ منذ المرحلة المتوسطة (الإعدادية) فالثانوية. قرأت أعمالاً مثل "الأم" لجوركي، وأكثر من رواية "لدوستويفسكي" و"تولستوي". كما قرأت لأدباء فرنسيين في الوقت نفسه، مثل "هوجو" و"لامارتين" وغيرهما.
وهذه القراءات كان لها بالتأكيد تأثيرها الكبير. ولاأنسى أن قراءة "جبران خليل جبران" كان لها تأثيرٌ جديٌّ عندي منذ التاسعة والعاشرة من عمري. وكانت كل كتبه في مكتبة والدي. وما شدني إلى "جبران" هو تمرده ، وبخاصة على رجال الدين والكنيسة.
والآن أستطيع القول بأن الكتابات الأدبية من روايات وقصائد التي قرأتها في سنوات المراهقة لعبت دورا كبيرا وأساسيا في توجيهي سياسيا فيما بعد. وعلى سبيل المثال، أذكر هنا كتابات "جبران" المتمردة على الواقع الاجتماعي والطبقي، بلبنان، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فضلاً عن كتابات "فكتور هوجو"، و"مكسيم جوركي"، و"تولستوي".
* أعتقد أن بدايات علاقتك بالكتابة والنشر في كتب كانت مع الشعر. وكان الديوان الأول المنشور لك، في العام 1965 – ومعظم قصائده مكتوبة في سن المراهقة - بعنوان "الرحيل وألحان جنائزية"، وصدر من "دار مكتبة الحياة " في بيروت. ثم توالت الدواوين خلال عقد السبعينيات مثل: "لحظات في الجهة غير المرئية من الحبيبة"، من "مطبعة الرأي الجديد"، في بيروت أيضاً ( 1972)، و"احمرار على حجر أسود" من "دار العودة" ( 1977). ثم نهاية بديوان "كان بستان يسمى الشمس"، العام 1994، من "دار الآداب" البيروتية. .. أظن هذا جانب شبه مجهول عن مفكر وكاتب ومترجم يساري، وإن كانت معروفة عنه ترجماته لشعراء عالميين كـ" بودلير" و"جارسيا لوركا" و"أدرجار ألان بو" و" طاغور" وآخرين، وللكتابات النقدية الأوروبية عن شعرهم. .. فما الذي تراه من صلة بين الشعر والإبداع الأدبي بالفكر والثقافة، وعلى نحو أخص الثقافة السياسية؟.
ـ أود ان أذكر هنا كتابي عن "أندريه بروتون" ودوره في إنتاج النظرية عن السوريالية، مع قسم في الكتاب جرى تخصيصه للسوريالة العربية. ويتضمن الكتاب ايضاً ترجمات لمقاطع من أعماله وأشعاره، ولا سيما كتاباته بعد لقائه "بتروتسكي" في المكسيك في العام1938 . (والكتاب بعنوان: أندريه بروتون شاعر الحرية والحب والحلم، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، في العام 1979). وفي هذا الكتاب أيضا ترجمت نصاً كتبه "تروتسكي" عن الحرية في الأدب، وجرى نشره باسم الشاعر الفرنسي "بروتون" والفنان التشكيلي المكسيكي "دييجو ريفيرا". وهو نص ضد مفاهيم "الواقعية الاشتراكية"، بمقاييسها الستالينية، ويدعو لحرية الأدباء والكتاب.
وفي الواقع، فمع أنه ليس من المطلوب ان يكون الشعر، بخاصة، والأدب بوجه عام، متلازماً بشكل وثيق مع السياسة، فهذا لا ينفي على الإطلاق الدور الهام الذي قد يضطلع به أحياناً، على هذا الصعيد. وهو ما يمكن رؤيته، في حالة مجموعتي الشعرية بعنوان "احمرار على حجر أسود".
(مغادرة العزلة الاجتماعية والوجودية)
* ماهي تجربتك في نشر الشعر بالصحف اللبنانية، خصوصا أن بعض أشعارك وقصائدك لاتخلو من جرأة في تناول "تابوهات" شرقية بالنسبة للمرأة وغيرها؟.
ـ لم أواجه مشكلات في نشر الشعر، والكتابات الادبية الأخرى. فهنا كانت ولا تزال لدينا حرية تعبير ونشر. وإن كان هامش الحريات، تقلص ولو نسبياً، خلال هيمنة النظام السوري على لبنان، إبان الحرب الأهلية، ومن ثم حتى زوالها في العام 2005، ولا سيما بخصوص الكتابات السياسية.
* هل توقفت عن كتابة الشعر؟
ـ لم أتوقف عن كتابة الشعر حتى اليوم. لكنني توقفت عن نشره في الصحافة والمجلات والكتب. وبين حين وآخر، أنشر بعض القصائد على صفحتي بمواقع التواصل الاجتماعي.
* ربما يعكس ديوانك الأول " الرحيل وألحان جنائزية" أو يوحي بنوع من العزلة الاجتماعية والوجودية، ولاينبئ بما أصبحت معروفاً به، كفاعل في مجال الثقافة الاجتماعية السياسية.. مارأيك؟
ـ كان هذا الديوان الأول تحت تأثير رحيل والدي، في العام 1963. وعنوان الديوان يعبر عن هذا. والديوان يتضمن قصائد كتبتها من سن الخامسة عشرة إلى سن العشرين. وهذه مرحلة من المراهقة تحمل تأثيرات عميقة للمشاعر الرومانسية.
* هل تحب أشعارك القديمة؟
ـ كنت أتمنى ألا تنشر كل قصائد ديواني الأول. لكنني راضٍ عن أغلب قصائد هذا الديوان، وماتلاه. والشيء الذي تقوله عن انعكاس العزلة الاجتماعية في هذه القصائد صحيح إلى حد ما. ولكن منذ بدأت ممارسة النضال المباشر بعد 1967، بتأثير من هزيمة الأنظمة العربية ومصرع "جيفارا"، واكتشاف أفكاره حول الكفاح المسلح، وعدائه للبيروقراطية السوفييتية، وابتعاده عن خيارات رفيقه "كاسترو" بانشاء علاقة خاصة مع موسكو، خرجت من حالة العزلة الاجتماعية والوجودية هذه، إلى الاهتمام الفعلي بما يحدث ليس فقط في لبنان، بل ايضاً على المستويين العربي والعالمي.
* وهل عاد هذا لينعكس في أشعارك؟
ـ نعم.. ولاسيما في ديوان "احمرار على حجر أسود"، كما أسلفت. وهو يحمل إشارات تجاه الثورة في المنطقة العربية، والعالم.
ـــــــــــــــــــــــ---------------
حاوره في لبنان: كارم يحيى
(ينشر بترتيب خاص مع "الحوار المتمدن" وبإذن من الأستاذ كارم يحيى)
(*) هو أسعد مفلح داغر، مولد "بتنورين" لبنان العام 1893 ومتوفي بالقاهرة 1958. صدر كتابه "مذكراتي على هامش القضية العربية" من القاهرة العام 1959، و له طبعة حديث صدرت من بيروت في العام 2022، وبتحقيق ومقدمة المؤرخ الدكتور "خالد زيادة".
(**) هذا الحوار جاء خلال إعداد الصحفي المصري المحاور لكتاب يضم مجموعة مقابلات متنوعة مع علامات في الثقافة بلبنان وتونس معا بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مستلهما خبرة إقامته وتردده على البلدين.