تراجيديا السّيرة الذّاتيَّة لقاسم:
لعلَّ حياة الكُتّاب والمفكّرين والأعلام عامة تؤدّي دورًا واضحًا في مسيرتهم الإبداعيَّة والعمليَّةِ؛ لذا لا يمكن أن ننظر باستهانةٍ إلى تأثير مرض أمل دنقل وعبدالحليم حافظ، وغراميات كامل الشناوي ورشدي أباظة، وصدامات إحسان عبدالقدوس، ومعارك يوسف إدريس والعقّاد، وما أثير عن جنون مي زيادة والظُّلم الذي تعرّض له زكي مبارك، وفقر عبدالحميد الديب، واعتقال أحمد فؤاد نجم ومصطفى أمين، ونفي محمود السّعدني...إلخ
إنَّ هذه الوقائع التّراجيديَّة تجعل من المبدع نفسه شخصيَّة تراجيديَّة آسرة، أو غفلًا بلا ذِكرٍ إلَّا فيما أحسنت أو أساءت من الكتابة، بل لا يمكننا عزل السِّياقات السياسيَّة والاجتماعيَّة والدّينيَّة عن نصوصهم؛ فلا يمكننا عزل كعكة أمل عن سياقها السياسي، كما لا يمكننا عزل أنا حرة عن سياقها الاجتماعيّ، وكذا أولاد حارتنا عن سياقها الدّينيّ...إلخ.
هذه المقدمة جدّ مهمَّةٍ في تقديمنا لهذا الأديب المغبون حقيقةً عبدالحكيم قاسم، ابن قرية البندرة مركز السّنطة غربية الذي ولد في الأول من يناير عام 1935م، وكان يظنّ ظنًّا أَنّه ولد في 26/11/1935م، وهو الشّهر الذي توفّي فيه عن خمس وخمسين سنةً قضى معظمها بين السّجن والاعتقال والهجرة خارج الوطن...!
قاسم الحارس في ألمانيا ونهايته المأساويَّة:
ولكنّ الأمر في شأن قاسم يأتي مختلفًا؛ فقد كتب قاسم مجموعة من الرّوايات الاستثنائيَّة، والمجموعات القصصية الطّليعيَّة، في لغة شعريّة جعلته يعنون بعضها بكلمة ديوان بظلالها الشّعريّة؛ مما جعله ينعت بقلب جيل السّتينيّات، وشيخهم، وأمير كتّابهم، وعبقريّهم...وغيرها من النّعوت التي جاءت من مجايليه الذين عرفوه عن قربٍ، ولكنّ غربته أبعدته عن دائرة الضّوء والوفاء بحقّه نقدِيًّا، وإنسانيًّا، وقد زاحمت روايته الأولى:" أيام الإنسان السّبعة" كلّ القوائم المختارة لأجمل الروايات في جيله، وقبل جيله وبعده، وظلمته، أيضًا، ظُلمًا بيّنًا؛ لأنّها الرّواية الوحيدة التي كتبها وهو في مصر مع رواية أخرى هي :"محاولة للخروج"، في حين نشر ما يستكمل هذا المشروع السّرديّ خارج مصر، وهو يعاني غربته في ألمانيا حارس عقارٍ طوال أحد عشر عامًا، وكان قد سافر إليها بدعوة من النّاقد المصري ناجي نجيب ليحضر مؤتمرًا عن تأثير جيل الستينيَّات في الأدب العربيّ؛ بوصفهِ من أبرزهم، ولكنّ دعوة الأسبوع الواحد استمرّت لأكثر من عقدٍ من الزّمان فكّر في أثنائها أن يكتب رسالة علميَّة للجامعة الألمانيّة عن جيله، ولكنّه عاد إلى مصر قبل أن يناقشها، ليواجه بعد عودته الإهمال، والاكتئاب، والإقصاء من أن يكون عضوًا في مجلس الشّعب، والمرض الذي انتهى به إلى الشَّلل؛ فظلّ يملي ما يريده على زوجته في السّنوات الثلاث الأخيرة عقب إصابته بنزيف حادّ في المخ؛ ليستقبل الموتَ راضيًا وقد كان الثّيمة المحوريَّة المسيطرة عليه في كلّ سرده...!
المشروع الرّوائيّ والتّذويت السّرديّ:
لفتت روايته الأولى أنظار النُّقّاد والقرّاء والباحثين، ولكنّهم لم يلحظوا أنّها نواة تبعث بذرّاتها التي تدور حولها لتؤثّر فيها وتتأثّر بها؛ فكتب روايتيه:" المهديّ" و" قدر الغرف المقبضة" ليستكمل في ثلاثيّته قصّة البطل الطّفل عبدالعزيز ابن طنطا الذي استغرق وصفه لاستقبال مولد أحمد البدويّ، وما أحدثه وما تلاه من أحداثٍ في سبعة أيّام في تضادٍ مع ما حُكي في بعض الكتب المقدَّسة عن أيّام الخلقِ، وما يحيط بالعدد سبعة من معتقداتٍ لا تحصى ولا تعدّ...إلخ.
وفي دراسة ماتعة للباحث علي عفيفي عن الرّاوي والمروي عليه في هه الثّلاثيّة يلحظ تماهي شخصّية الرّاوي الحقيقيّ والرّاوي الضّمنيّ، من خلال التباس الضّمائر وسرد الأحداث؛ مما يشي بتسلُّل سيرة قاسم إلى الثُّلاثيّة؛ بوصفه قرويًّا يمثّل جموع المصريّين، وقريته تمثّل مصر، بل الدّنيا كلِّها.
وشيوخ التّصوف الذين وجدناهم في الجزء الأول من مشروعه يستمرّون معنا فيما أعقبه من سرودٍ متّصلةٍ، كما تستمرّ حركة نشأة الجماعات الدّينيّة والسياقات التي أوجدتها وتأثيرها في حركة المجتمع والفكر والسياسة...!
اقتحام المناطق الشَّائكة:
اقتحم قاسم المناطق الشّائكة بجرأة غير مسبوقة، ليس على مستوى الثّيمات التي اتّخذ منها موضوعاتٍ لمشروعه الرّوائيّ بل على مستوى الشّكل الفنّي غير المسبوق في "رجوع الشّيخ"، والأخت لأبٍ"، و"قدر الغرف المقبضة"، و" الأشواق والأسى"، والظّنون والرّؤى"، و الهجرة إلى غير المألوف" و" طرف من خبر الآخرة" وغيرها ، واللافت أنّها بعضها ملبسٌ في تصنيفهِ أجناسيًّا؛ إذ نشر بعضه على أنّه قصة قصيرة تارةً وعلى كونه روايةً تارةً أخرى، فضلًا على ما عنونه بأنّه ديوان .....!
ومن الرّوايات التي تعدّ بحقّ من أهمّ الرّوايات التي ترصد علاقتنا بالآخر الأوربي روايته " محاولة للخروج" التي لا تقل أهمِّيَّةً عن "قنديل أم هاشم" ليحيى حقّي، و"عصفور من الشّرق" لتوفيق الحكيم، و" موسم الهجرة إلى الشّمال" للطّيّب صالح، بل لا يسع الباحث إغفالها حين يدرس هذه الثّيمة فيمن يدرسونها...!
ينطلق قاسم في رواياته من المعيش والواقعي والمألوف إلى الكونيّ والميثولوجيّ والميتافيزيقيّ؛ مما يجعل من أدبه إنسانيًّا وعالميًّا، ولعلَّ في احتفاظهِ بالكلمة التي ألقاها يحيى حقّي في ألمانيا سنة 1979م في حفل تكريمه تأثيرًا عظيمًا في مشروعهِ السّرديِّ، وقدِ احتفظ بها قاسم، ولم تنشر إلا من خلاله بعدها بثلاثين سنةً؛ فقد سرد حقّي فيها عن قرية مصرية يراها أهلها الدُّنيا وما فيها، ولعلّ هذه الرّؤية كانت موجودَةً في وعي قاسم ورسّختها كلمة حقّي فاستمرّت قريته دنياهُ، وأهلها هم النّماذج البشريَّة القابلة لطرحِ كلّ القضايا الكبرى الكونيّة والدّينيّة والسّياسيّة والميتافيزيقيَّة من خلالهم...!
ومن ثمَّ؛ فقد انتبه أخيرًا الدّارسون لعقد الدّراسات المقارنة بين قاسم والأدباء الإنسانيّين كالدّراسة الجادة التي كتبت في المقارنة بين سرده في روايته" خبر من طرف الآخرة" ورواية للياباني كاواباتاياسوتاري.
لغة مختلفة وسرد مغاير:
استطاع قاسم بإحساسه الشّعريّ أن يوجدَ لنفسِهِ لغةً مختلفةً عن لغة محفوظ التي أسرت جيله، بل عن تقنيات السّرد المحفوظيّ كلّها، وقد وضح فيها سيطرته الفذّة على مفردات الرّيف المصريّ بحمولاتها الأنثربولوجيَّة والسُّوسيوثقافيَّة؛ فيستخدم الفصحى الشّعريَّة تارة ليتماهى مع ما يستدعيه من أشعار صوفيَّة:" أبيات الوسيلة تعدد الأولياء وكراماتهم وصوت جوقة الدراويش ملئ بالرجاء والمذلة وهو يتوسل إلى الله بالأولياء.. وعبدالعزيز يترقَّب في البيتِ الذي يجئ فيه اسم شيخهم الحالي:
بمحمَّدٍ بْنِ الفَضْلِ مَعرُوفِ السَّنَا يَاربّ نورَ قَلبِهِ وطريقِهِ | ليتَ الأفاضلَ والأماجدَ والنَّدا وَاجْعَلْهُ في يَومِ المَعَادِ لَنَا يَدَا |
يخفق قلب عبدالعزيز؛ إذْ يتذكَّرُ الشَّيخ، ويتذكَّرُ وسامته، وصفاء ملامحهِ ووقارِه وسكونه..."(أيام الإنسان السبعة:24-25)
ويهبط في لغة الحوار بين أهل القرية إلى العامية المبتذلةِ المشحونة بطعم الرِّيف وطينهِ وأرضهِ ونفسيَّة أهله"
يا عم الحاج ...العايق عيشته حرام.
ياعلي ...بيعوص ايده جاز وينور لنا لمبة في فرحنا وميتمنا..
-عيشته حرام..
ربنا سايعة في ملكه...وفي طريقه... ما اقدرش اطره"..."(أيام الإنسان السَّبعة:16)
ويتوسَّط بينهما في لغة السَّرد؛ فيقف بالجمل على الأعرافِ؛ فيمكنك نطقُها فُصْحى وعامية في وقتٍ واحدٍ:
"الولد عبدالعزيز، يحب العايق ونكاته وسخرياته بالشَّركس، وفرهود الناس يقولون عليه كلامًا كثيرًا؛ فامرأته لصة وهو يأكل ويشرب من حرام..."(أيام الإنسان السبعة:16).
ولكنَّه دائم التّجريب في اللغة والشَّكل القصصيّ؛ فنراه في مجموعتهِ" الهجرة إلى غير المألوف" التي أسماها "ديوان قصص" يشفّ ويصعد باللغة إلى شعريَّة واضحة:" أجري... لا أدري ما الذي أهرب منه.. ولا الذي أبحثُ عنهُ.. لكنني أجري بكلِّ ما في القلبِ من عزمٍ وما في الجسم من مروةٍ.
حينما خرجت من بيتي هذا الصباح الخامسة رأيتها
السيدة وعربة طفلها
كل يوم في هذه السَّاعة وفي هذا المكان أراها
فيمتلئ قلبي أمانًا
إنَّها تميمتي
وربَّما أخشى أن تفوتني مقابلتها ذات صَباحٍ
أخشَى من أنْ أَتَأَخَّرَ على عملي""ص 7"
وفي مجموعته" التي أسماها "ديوان الملحقات يبدأ قصة "انتصار" هكذا" أخيرًا جاء الماء ورويت الأرض التي حصد عنها قمحها.. وتلك التي بقي بها زرعها المستحصد...ص15"
وكما يتماهى السّارد الضمنيُّ مع السَّرد الحقيقيّ في رواياته يتماهى في سروده القصيرة؛ فيكتب بعض قصصه على طريقة اليوميات بضمير المتكلّم: "هكذا ... سافرتُ من سجن الواحات الخارجة إلى سجن أسيوط.. أزيز العربات وصخبها يضيع في صمت الصَّحراءِ الأبدِيّ.. أتأمَّل..حتَّى لكأنَّنِي أسمع ركز الصُّخُور يربطني بها شمس بها شمس مسلطة، حارة وخانقة..""ديوان الملحقات 47"
ولعلّ هذا التّذويت السَّرديّ الذي التزمه قاسم يجعلنا نختم بما نشره الأديب الصَّحفيّ محمد شعير من كتابات نوبة الحراسة وهي الرسائل المتبادلة بينه وبين أصدقائه ومجايليه من الكُتَّاب والنقَّاد؛ كناجي نجيب، ومحمود الورداني، وإدوراد الخراط، وسامي خشبة، ومحود عبدالوهاب وغيرهم، وهي وحدها جديرة بأن تدرس؛ بوصفها فنًّا أدبيًّا جديرًا بالدّرسِ والبحثِ فضلًا عن إنتاجه العظيم المغبون في الدّراسات النقدية التي كان يبغضها ويذمّها أو الدراسات التّذوقيَّة التي لم تخل أيضًا من انطباعيَّة وسطحيَّة.
قاسم وروشتة للثَّقافة في مصر:
كان قاسم ينعي الحياة الثّقافيّة في مصر فيما نشره في جريدة الشّعب يوم 10/6/1986م ويرجع أسباب الرّكود في حركة التّلقّي الإبداعيّ إلى الأدباء والنّقّاد لا إلى القرّاء والواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ؛ فالأدباء أغرقوا في الغموض تارةً وفي التّهاون اللغويّ تارة أخرى، ويستدعي لرأيه سندًا قويًّا وحجَّة دامغةً وهو القانونيّ خريج كليّة الحقوق جامعة الإسكندريَّة؛ فيرى النّاس تتحلَّق في حلقات النصّ القرآنيّ تذوقًا وإحساسًا وتطريبًا، وكذا في الكنائس والأديرة، وغيرها ممن يجدون في لغتهم رقيًّا ونفعًا ومعرفةً، وعلى صعيدٍ آخر يرجع أسباب الانتكاسة الثّقافيَّة للنُّقّاد الأكاديميّين الذين يلوكون المصطلحاتِ الغربيَّة، ويكرّرون نظريّاتهم ونظراتهم على الأدباء المختلفين تهاونًا وكسلًا وضعفًا وطلبًا للكسبِ السَّريعِ..!
ومع أنّه يُعفي القرّاء من المسؤوليَّة فإنّه لا يعفي دور النَّشر وأصحابها من المستغلين من المسؤوليَّة؛ فيردّدُ أنّ كلّ ما تقاضاه من الأدب لا يساوي جوز جزمة...!
-----------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)*
* أستاذ الأدب والنّقد بكليَّة الآداب- جامعة العريش