10 - 05 - 2025

سِحْرُ القَصِّ وسِرُّ الموتِ: نادر عبدالخالق يسرد لحظة انتظار خروج الرّوح

سِحْرُ القَصِّ وسِرُّ الموتِ: نادر عبدالخالق يسرد لحظة انتظار خروج الرّوح

كيفَ يمكنُ أنْ يحضرَ الموتُ فاعلًا مُبهجًا، وتغيبُ الحياةُ مفعولًا مُثقلًا؟!

هل تختلفُ نظرتُنا للتَّجريدِ وشَطحاتهِ باختلافِ العَصرِ؟

ثمةَ تواشج بين الفنون تجعلُها تتدفَّق في نهرٍ واحدٍ كاللّحنِ المتعدِّدِ النَّغَماتِ؛ نَفهمهُ ونَتذوَّقُهُ كاملًا، ولا يَعنِينَا تكويناتهُ، وأسرارُ سِحرهِ...فمن يأتي السِّحرُ؟!

د.نادر عبدالخالق  ناقد متخصصٌ يكتبُ عنِ النّقدِ ونظريّاتهِ والمبدعين على اختلافِ الأنواعِ الأدبيَّةِ؛ فكتب كتابًا مهمًّا عن  الفنون الأدبية في مصر في  الفترة من 1952-1993م،  وكتبَ عنِ السَّردِ خاصَّةً كتابًا لافتًا بعنوان"إيقاع الصُّورة السّرديَّة" أحدثَ صدًى مَسموعًا في البيئاتِ الأدبيَّةِ والثَّافيَّةِ خارجَ مصر وداخلَها، ولكنَّهُ خَصَّ القصَّةَ القصِيرةَ باهتِمامٍ ملحُوظٍ؛ فَنشَرَ كتابًا عنها في الهيئةِ المصْريَّةِ العامَّةِ للكتابِ؛ بعُنوَانِ: "القصَّة القَصيرة: قَضَايا واتِّجاهَات" 2017م، استطاع من خلالهِ أنْ يعدّدَ اتّجاهاتِ السَّردِفي القصة القصيرة منذ أميرها المتوّج يوسف إدريس حتّى معاصرينا، وكتب عن القصّاصِ والقاصّاتِ، مصريينَ وعربًا، ولَكنّهُ لم يَكتفِ بالنَّقدِ القَصَصيّ فَكتبَ القصّةَ القصيرةَ إبداعًا؛  ليعالجَ من خلالِها  جُموحَ النَّفْسِ، وأَشوَاقَ الرّوحِ، ويُعبّر، أَيضًا، عن رؤيّتهُ لهذا الفنّ المغبونِ في السَّنواتِ الأخيرةِ، ولكنّهُ يُطلُّ برأْسهِ من جَديدٍ ليُزاحمَ السَّردَ الرّوائيّ، ويعودَ إلى صَدارةِ المشهَدِ التي شغلَها حينًا منَ الدَّهرِ؛ فأصدرَ أَربعَ مجموعاتٍ قَصَصِيَّةٍ؛ أهمُّها الرّجلُ الرّابعُ، والنَّبي روبين ( من دفاتر الأرض المحتلّة)...!

وفي مجموعتهِ القصصيَّةِ الأخيرة" شَيء من الخُروجِ" التي نَشرها في الهيئةِ المصْريَّةِ العامَّةِ للكتابِ 2022م، أيضًا، يسرفُ نادر في التّجريب القصصيّ ليجذبنا من أنفسنا بقانونِ الوجدِ الصّوفيّ، والوجدِ الرّوحيّ الذي يحشدهُ حشدًا من عوالمِ التّصوفِ الإِسلامِيّ خاصَّةً،في لغةٍ تناسبُ هذا التّحليقَ الرّوحيّ؛ فيشفّ حتّى يتجاوزَ لغةَ الشّعرِ إلى لغة الرّمزِ الصّوفيّ الآسرِ، ويوزّع الكلماتِ في قصّتهِ التي حملت عنوانَها مجموعتهُ، توزيعًا متقنًا، وإن جاء الإتقانُ عفويًّا غير مقصودِ؛ فقد استسلمَ السّاردُ نفسُهُ للحظَةِ الوجدِ التي تحلّق بالرّوحِ فوقَ الجسديّ والمادّي والزّائلِ حتّى تَستمدَّ من جلالِ الموتِ وحُضورهِ فاعِلًا قوِيًّا يواجهُ مصائبَ الحياةِ، ويبدّدها...!

في موتيفات متتالية؛ كالأضواء التي تسلّط تدريجيًّا على جوانب المسرح في توزيعٍ محكمٍ يرسم السّاردُ صورةً لرجلٍ يذهبُ بشكلٍ اعتياديٍّ ليزورَ قبرهُ على طريقةِ يزيد المصريّ في رائعة نجيب محفوظ" حديث الصّباح والمساء"، يستمدّ منه قوّةً من الصّباح إلى العصر بشكلٍ  مطّردٍ يردّهُ للحياةِ قويًّا قادرًا على مواجهةِ المحنِ بسلاحينِ أمدَّه بهما الموتى الذين سبقوهُ؛ وهما: الحبُّ والرّجاء...!

كانت المشكلة الأولى التي تواجههُ هي هزيمة ولده أمام سطوة المقرّراتِ الدّراسيّة وعيونِ النَّاس، وتغيُّر استقباله لمعاناة النُّضجِ؛ فلم يجد له علاجًا سوى أن ذهبَ به إلى مقامِ أحد الصَّالحينَ؛ فصلَّى وحَوقلَ ودعَا حتَّى أتاه اليقينُ بعد غفوةٍ قام من أثرها هاشًّا باشًّا قريرَ العين لعودةِ نجاح الولدِ وتفوُّقه؛ فاستبشر لذلك ونصحَهُ أن يتمسَّك بأمرين: الصّبر والرويَّة.

وإن كنتُ لا أتّفق معهُ في عطف شبهِ التّرادفِ؛ فالكلمةُ الواحدة في القصة القصيرة قد تقوّض بناءَها إذا لم ينتبه القاص لخطورة انتقائها لما تحملهُ من تكثيف وشُحناتٍ تدفعُ السَّرد إلى مجراهُ أو تعرقلهُ، أو تغيّر مساره الطّبعيّ؛ فكنتُ أتوقَّع أن يكون الأمرانِ هما: الصَّبر والأمل؛ فلستُ مع من يعتقدُ أن السَّاردَ يقصدُ ظاهرَ المقام، وطواف الصّوفيّة، ولكنه يقصد الخروج من ربقة الجسد إلى انطلاق الرّوح، وإلى الأمل في غدٍ قد يبتعد ولكنه آتٍ، والغلام هو الوطن الذي أنهك جسده المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وأنَّ الانغماس في المشكلةِ قد يغرقنا فيها، ويعظّمها مادمنا في فلك الجسَدِ،  الذي لابدَّ له أن ينعتق إلى فضاء الرّوح، ولكنّها الرّوح المتسامحة، التي تأخذ من الدّين صفاء الرّوح، ومن الموتِ عظةَ السّابقينَ الذين يعودون إلينا حينًا بعد حينٍ محملين بالحكمةِ والرُّؤى والرُّؤيا التي يمكننا أن نتواصل معها إذا شفّتِ الرّوح؛ لذا  تيقّن بطل قصّتهِ الذي هو أنا وأنت أنَّ هذا الحلّ مجرّبٌ ومضمونٌ؛ فاصطحب زوجته إلى هذا المكان/ المقام في الجمعة التّاليةِ، وصلّى وطاف وحوقل وغفا وجاءته البشرى؛ ليصبح الحلّ جاهزًا وصالحًا للتّجربة اللانهائيّة..!

لعلّ من التّجريب الذي خاضهُ د.نادر أنْ جمعَ بينَ الشِّعرِ والسَّردِ في تجليَّاتٍ لغويَّةٍ وسرديَّة وشعريَّةٍ هي أقربُ إلى لغةِ الإشراق الصّوفيّ لينقلنا من لحظاتِ العتمةِ المدلهّمةِ إلى أنوارٍ إلهيَّة تُبدّد كلَّ آلام الجسدِ إلى نشوة الرّوح؛ لنعرفَ آنئذٍ من أين يأْتينا سِحرُ القَصّ.

تحيَّة عطرة لهذا المبدع الموهوب، والنّاقد الرّاهب د.نادر عبدالخالق...!
--------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنّقد بكليَّة الآداب - جامعة العريش

مقالات اخرى للكاتب

السِّيرةُ الشّعريَّةُ لمجدي شِندي في