هو أحد أفراد شِلة، عُرفتْ في قريتنا بالظرف، وامتازتْ بخفة الظل، دأبت علي الحضور، وبصورة يومية إلي مجلسٍ أعده بجوار طاحونة، أنشأها هو وإخوته بساقية أبو صالح غرب قرية إمياي لطحن الذرة وصناعة علف المواشي .
كان مجلسُ الشيخ عبد العظيم أبو صالح أشبه بمنتدي ثقافي، يُناقش قضايا الساعة، أو مائدة حوار تضم أطيافا فكرية شتى، منها الحاصلون علي أعلى الشهادات، وأنصافُ المتعلمين، ومن بينهم أيضا من لا يفك الخط، وتوقيعه عبارة عن بصمةِ إبهامه .
ذكَّرني هذا المجلس بمجالس عبد العزيز البشري شيخ الساخرين، وغيره من ظرفاء العصر، إذ لا يخلو من النكاتِ الظريفة، والقفشات المُضحكة، التي يتبارى الحضورُ في سردها لإضحاك الآخرين، وصرفِ أذهانهم ولو بعضَ حينٍ عن هموم الحياة ومُكدراتها، التي اتسع معها الخرق علي الراقع، وشاب لها الوليد .
يقوم بدور النادل، فيطوف علي الحضور بأقداح الشاي الساخن، وتعمير الشيشة المدعو (عَبُورة)، والذي فاق في ( الفَشْر ) أبو لمعة، واتفق مع الشيخ عبد العظيم علي تولي مهمة خدمة الضيوف، مقابل (ورقة بخمسة)، يتقاضاها كل ليلة، وإذا دخلت جيبه لا تخرج ولو بالطبل البلدي، فضلا عن المشاريب وبعض أنفاس الدخان، التي يشتفها بعد جرعة الضيوف .
الشيخ عبد العظيم أبو صالح أزهريٌ من جِيلِ الوسط، ذو جسم نحيل، يسبح في جلبابه (البلدي) واسعِ الأكمام، ورغما عن ضآلة جسمه، إلا أنه جمعَ من الحكمة، وسعة الصدر، وحُسن الحديث، وكلها صفاتٌ ورثها عن والده الحاج عبد الفتاح أبو صالح - طيَّب الله ثراه - ما أهَّلَه للتحكيم في المجالس العُرفية، وإعطاء الحق لأصحابه، والصُلح بين المُتخاصمين .
إلي جانب هذه الصفات، أوتي الرجلُ أيضا ظُرفا مُنقطعَ النظير، وذاكرةً قوية، ساعدته في أن يجتر مواقف مُضحِكة حدثتْ مع أصحابه، يذكُرُها بين الحين والآخر فتتعالي بسببها الضحكات، التي تتحدي الصعاب والهموم .
من تلك المواقف، حكى أن ثلاثةً من أصحابه أفْضَوا إلى فيض الكريم، خرجوا للاختبار في مسابقة أقامتها الإذاعة لاختيار عدد من المطربين، وأمام لجنة الاختبار، سُئل الأول : ماذا ستُغنّي؟
فأجاب بثقة سأُغني : ( يا وابور قُولي رايح علي فين )، استمعتْ له اللجنة علي مضض، وعلي أحرِّ من الجمر انتظرت انتهاءه من (الكوبليه) النشاز، وجاء الدورُ علي الثاني، الذي أخبر لجنة الاختبار بأنه سيُغني : ( يا وابور يا مولع حُط الفحم )، وانطلق يُسمعهم بصوته الأشد نشازا من سابقه، فوضعَ الممتحنون بسببه أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، ولم يتنفسوا الصعداء إلا بعد انتهاء مطرب ( الشوم ) من أغنيته، وبعده كانت الطامةُ الكبرى، إذ أكد الثالثُ أنه سيغني هو الآخر للوابور، وشرع يُسمعهم : ( يا وابور الساعة ١٢).
ضجت قاعةُ التحكيم بالضحك، وأعلنت إلغاء المسابقة بسبب ذلك الوابور اللعين .
عبد العظيم أبو صالح هو صورةٌ لابن البلدِ الأصيل، المنمق في هندامه، خاصة عندما يغطي رأسه بـ(طاقيته) الشبيكة البيضاء، ولاسته النايلون، وينتعل مداسه الأبيض، امتاز بخفة الظل، والتفاني في خدمة الناس إلي أقصى درجة؛ مما جعله ذا كلمة مسموعة؛ لأنه (ابن نُكتة)، وصاحبُ صاحبه .
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام
عبد العظيم أبو صالح .. وأغاني الوابور!
