10 - 05 - 2025

أعلامٌ منَ الغربيَّة (4): المغبون عبدالخالق محمد عبدالخالق

أعلامٌ منَ الغربيَّة (4): المغبون عبدالخالق محمد عبدالخالق

كثيرًا ما تصنعُ وسائل الإعلام أَصنامًا لشَخصيَّاتٍ وهميَّةٍ؛ لا أعني بالوهمِ، هُنا، عدمَ الوجود، ولكنّي أعني عدمَ استحقاقِهم للشُّهرة والصِّيت المصنوعينِ المزيَّفينِ، والنّتيجةُ الطّبيعيَّةُ أن يضيعَ العباقرةُ والموهوبونَ النُّبلاء الذين يزرعون ولا يجنونَ، ويغرسُون ولا يحصدُون...! 

أَعُدُّ من هؤلاء الرّوائيّ والأديب والنّاقد عبدالخالق محمد عبدالخالق(1961م- ) أحد المغمورين الذين تفَانوا في عملهم في التَّدريس، والتّأليفِ، والكتابة الإبداعيَّة في القصّة والرّواية، والمقال الأدبيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ، والتّربويّ، واستطاع خلال رحلته الطّويلة الممتدّة أن يطوّر أدواتهِ التّعبيريّة والأيدلوجيَّة بما يمنح كتاباته طزاجةً وحيوية وتدفّقًا وتجدّدًا، ويمكننا هنا التّمثيل لهذينِ البُعدينِ، ونترك للقارئ الكريم استكشاف المزيد من خلال قراءة إِنتاجه الغزيرِ الذي يتدفّق ويتتابع حتّى يكتمل مشروعه الإبداعيّ الذي وضع له مخطَّطه وأهدافَهُ واستراتيجيّاتهِ. 

- الرّوائيُّ عبدالخالق محمد: المسكوت عنه في واقعنا الثّقافيّ: 

- الميتافيكشن والعَفَنُ الثَّقَافيُّ: 

قليلةٌ جدًّا هي الرّواياتُ التي تفضحُ الواقعَ الثّقافيّ العربيّ في المناطقِ المسكُوتِ عنها، من حيثُ صِناعةُ المبدعِ الوهميّ، وتسليطُ الضّوءِ عليهِ، وإشهارهُ، والكتابةُ عنه عشراتِ المقالاتِ، ومَنحُهُ الجَوائزَ غيرَ المستحقَّةِ بالاتّفاقِ والمناصفة بين المبدع والنّاقدِ؛ ومنح الطّامعاتِ الجميلاتِ فرصًا عظيمةً للشّهرةِ في عالم الإبداعِ والجوائزِ والتّحكيم، وفي بعض الحالاتِ لا تتمكّنُ إحداهنّ من إقامة جملةٍ واحدةٍ مُستقيمةٍ أو الحكم عليها، وما إلى ذلك من صور العفن الثّقافيّ التي تترَدَّدُ أصداؤها، وتصم الآذان، وتُعمي العيون، وتزكم الأنوف؛ حتَّى صارت بيئاتُنا الثَّقافيَّةُ العربيَّةُ غير صالحةٍ للانطلاقِ لثقافةٍ عالميَّةٍ، اكتفينا منها بجائزة يتيمةٍ لأَديب نوبل النّجيب المحفوظ منذ مايقرب من أربعين سنة، دون إضافةٍ تُذكرُ، مع تضَاعُفِ حركةُ التَّرجمةِ، والكتابةِ بلُغاتٍ أجنبيَّةٍ، واتّساعِ طرائقِ النَّشر الإلكترونيّ...! 

اسمحوا لي، أَوَّلًا، بتوضيحِ المرادِ منَ المصطلَحِ في العُنوانِ؛ فهُو مُصْطلحٌ سَرديٌّ حَداثيٌّ، ارتَبطَ بمفاهيمِ الرِّوايةِ الجدِيدَةِ، ويعني الميتاسرد؛ أيْ ما وراءَ النَّصِّ السَّردِيِّ وكيفيَّة بنائهِ، وموقِف الرَّاوي من سَردهِ ومن سُلوكِ الشَّخصيَّاتِ، انطلاقًا إلى تقييمِ سُلوكها في الوَاقعِ ليتّخذَ من ذلك ذَريعةً لإعادةِ بناء العالَم وفقَ رُؤيتهِ، بلْ قَدْ ينتَقدُ البنْيةَ السَّرديَّةَ التي يكتبُها بنفسِه؛ مما يُتيحُ له فُرصةَ الانفلَاتِ منها وتغييرها، وتوليد بنى وحكاياتٍ مُتوالدةٍ منها؛ فيُصبحُ السَّاردُ ناقِدًا والباني هادِمًا؛ ليظَلَّ النَّصُّ في مَرْحلةِ الأَعرافِ بينَ الواقعِ والتَّخييلِ. 

من هذه التّقنيةِ ينطلقُ الرّوائيّ المصريّ الموهوب والمغبون، حقيقةً، عبدالخالق محمد عبد الخالق في روايتهِ الآسرةِ:" نُبوءَةٌ مُزدوجَةٌ" التي يلتحمُ فيها السَّردُ التَّخييليُّ بمرجعيَّاتهِ الواقعيَّةِ؛ فنرى البَطلَ الأديبَ الذي جُنُّ؛ فباعَ مكتبتَهُ الثَّمينَةَ بما تحويهِ مِن مؤلّفاتهِ، وإبداعاتهِ العبقريَّة المتفرّدةِ، بعدما فَقَدَ كُلَّ أملٍ في الإصلَاحِ، وتحقيقِ رِسالةِ الكتَابةِ في الحقِّ والخيرِ والجَمَالِ، بل يرَى بكلِّ حواسِّهِ السُّوسَ الذي ينخُرُ في الجسَدِ الثَّقافيِّ العَربيِّ كلّهِ؛ فالشِّللِيَّةُ حاكمةٌ في فَرضِ معاييرها وسُلطَتِها في إِقْصاءِ المواهِبِ الحقيقيَّةِ لصالِحِ أرباعِ الموهُوبينَ الذين يَضْمنُونَ لهم سُلطَتَهم ونفُوذَهم ومكَاسِبَهم في مقابلِ منحِ هؤلاء الأرباعِ الشَّرعيَّةَ والصِّيتَ والجوائزَ الكُبرى المتّفقَ عليها المتقاسمةَ بينَهُم.. حتى لتبلغَ السّاردةُ المزعومةُ الفاتنةُ بفتنتِها، وما كُتِبَ لها ما لا يبلغُ الموهوبُ منهُ مثقال ذرَّةٍ بعبقريَّتِهِ لينتهيَ إلى الإحباطِ، والاكتئابِ، والجنُونِ في مقابلِ الرَّاوي الذي يتمَسَّكُ بالأَملِ، ويظلُّ يُبدعُ عَشَراتِ الأَعمالِ الإبداعِيَّةِ الفرِيدةِ التي تنتظرُ كُوَّةَ ضَوءٍ لتتابعَ أشعّتها فيغمرَ ضَوؤُها الظُّلمةَ، ويُقَاوِمَ هذا العَفَنَ...! 

يتَماهَى السَّاردُ الضِّمنيُّ معَ السَّارد الحقيقيِّ لتذويتِ السَّردِ، وزيادةِ جرعاتِ التَّشويقِ من خلالِ التَّلميحِ إلى الخَطَايَا والخَزايا التي مرَّتْ بنا مرتبطةً بأسماءِ أصحابِها الذينَ تَسنَّمُوا أماكِنَ خَطِيرةً ومُؤثِّرَةً في حياتِنا الثَّقافِيَّةِ...! 

وإذا كانت الرِّوايةِ الجديدةِ؛ بطبيعَةِ بنائِها وسماتِها المناقِضَةِ للرّوايةِ التّقليديَّةِ، تَمنحُ مِساحةً واسِعةً لتدخُّلِ السَّاردِ لعرضِ رأيهِ في الأحداثِ والشَّخصِيَّاتِ؛ ممَّا يُشَكِّلُ بُعدًا معرفيًّا؛ فقد أثرتنا هذهِ التّقنيةُ في روايةِ:" نُبوءَةٌ مُزدوجَةٌ" بمخزُونٍ مَعرفيٍّ عظِيمٍ هو محصِّلةُ قِراءةٍ واعيةٍ لكاتبٍ وُصِفَ بأنَّهُ دُودَةُ قراءةٍ لفترةٍ تقتربُ من نِصفِ قرنٍ مِنَ الكتابةِ والإبداعِ في مِحْرابهِ مُتبتِّلًا دونَ ضَجيجٍ، أوْ صَخَبٍ، أو وقوعٍ في براثنِ شِللِيَّةِ الواقعِ الثَّقافِيّ المفترسِ الذي نجحَتْ روايتُهُ في تعريةِ عَفنِهِ؛ بوصفه نوْعًا منَ النَّقدِ الذَّاتيّ الموَّار بين الحقيقةِ والخيالِ..! 

الرّوايَة ستصدمك بآرائها الجريئةِ في نقّادٍ كانوا ملء السَّمع والبَصرِ؛ فباعوا شرفَهم في مقابل المال والسّلطةِ والنّساء، كما ستصدمك أكثر في آرائها في إبداعِ أعلام السّرد العربيّ ومشاهيره الذين امتلكوا الخلطة السّحريّة؛ فمن المبدعين: جمال الغيطاني، ومحمد جبريل، وإدوارد الخراط، ويوسف القعيد، ومحمد البساطي، وسعد مكاوي، ويُوسف إدريس، وإحسان عبدالقدوس، ومن الذين امتلكوا الخلطة السّحريّة: إسماعيل ولي الدين، وخليل حنة تادرس، كما ستنطلق هذه الجُرأة في الرّوايات العلمية لماركيز، وتولستوي، وهرمان ميفيل، وديستوفيسكي...وغيرهم. 

سمحت طريقة الرّواية الجديدة في التّداخل الواضح بين الرّاوي الحقيقي والضّمني والبطَلِ في كِتَابَةِ رِوايةٍ بديعة، تجمع بين الرّوايةِ والرّوايةِ السِّيرِيَّةِ؛ لتضع القارئ في نصٍّ أرخبيليّ ينقله بين الواقِعِ والخَيال، والذّاتيّ والموضوعيّ، والمنطق والفانتازيا، في لغةٍ سهلةٍ متدفّقةٍ لا تقع في فخّ الغموضِ في التحامِها مع واقعٍ ديستوبيّ( خرائبيّ) يصعبُ التّعبيرُ عنه في وضوحٍ كاشفٍ مع اشتباكهِ وتعقيدهِ. 

تحيَّة لهذا المبدعِ الرائعِ الفريدِ، حقيقةً في رهبانيَّتهِ، الإبداعيَّةِ، وسردهِ الآسرِ المتفرِّدِ، وموضُوعاتِهِ الشَّائكةِ التي ينجحُ من خِلالِها في إمتاعِنَا وإثارتِنَا وإدهاشِنا، ووضعَ أيدينا على مواطنِ الدَّاءِ في أنفسنا، وفي الواقعِ المحيط بنا..! 

ملحوظة: حرصت في هذه الإطلالة السريعة ألا أحرق احداث الرّواية التي تستحق القراءة، ويستحق مبدعها المغبون عبد الخالق محمد إعادة النّظر في قراءة إنتاجه وتقييمه بما له وما عليه. من إصداراته الروائيَّة: حياة وموت المثل الأعلى 1985م، الأساطير 1998م، الداهية والحرس الحديديّ 2000م، فاعل مرفوع بالخوف 2002م، الرجال لايقدمون القرابين 2007م وغيرها كثير .
---------------------------
د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر) 
* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش

مقالات اخرى للكاتب

أعلامٌ منَ الغربيَّة (4): المغبون عبدالخالق محمد عبدالخالق