هناك في غزّ.ة وجدته.. مُكتّف اليدين.. ومع ذلك يحمل الحجارة في مواجهة الخسّة والجُبن الصّهيو..ني، صبيٌّ غض مازال في العاشرة من عمره رغم أنّه وُلد منذ 57 عامًا !!
كان رثُّ الثّياب، حافيَ القدمين، يدير ظهره لي.. أسأله متىٰ أرىٰ وجهك ؟!
يجيب بتحدٍ ومرارةٍ: عندما تصبح الكرامة العربيّة غير مهدّدة.. وعندما يسترد العربيّ شعوره بحريته وإنسانيته.. وقتها أدركتُ أنّي لن أرىٰ وجهه في المستقبل القريب؛ فمازال الضّمير الكظيم يعيش خيبات الحُلم العربيّ غير قادر على تجاوز أزمنة الغباء التي نحياها.
إنّه "حنظلة" تلك الشّخصية الخياليّة التي رسمها رسام الكاريكاتور الفلسط.ينيّ "ناجي العليّ" الذي تحل ذكرىٰ وفاته بعد أيام (التاسع والعشرين من أغسطس 1987).. حيث اغتاله المو..ساد في "لندن".. والذي لم يترك إرثًا سوىٰ الكرامة العربيّة.. فهل تُرانا ورثناها ؟!
وُلد "العليّ" بقرية "الشّجرة" بين طبريا والنّاصرة عام 1937، وحينما وصل لسن العاشرة دكّ الصّهيو..ني الغاشم بلدته واعتقله بتهمة: "معاداة الاحتلال".. فكتب على جدران زنزانته: "لفلسط.ين طريق واحد وحيد هو البندقية".
هاجر مع أسرته إلى مخيم "عين الحلوة" بلبنان فاعتقله الجيش اللبنانيّ، تلقفته حواضن المدن في طرابلس والكويت وبغداد ولندن، وأصبح ضمن أشهر 10 رسامين كاريكاتور في العالَم.. وبفضله صعد هذا الفن لأعلىٰ مراتب العمل الصّحفيّ، رسم أكثر من 40 ألف كاريكاتور.. لم يهادن بها أو ينافق أحدًا، لذا حمل على كاهله رقمًا قياسيًّا من التّهديدات التي وصلته !!
ابتكر "ناجي" شخصية "حنظلة" عام 1967 كرمز للصمود والاعتراض والضّمير الذي لا يغيب، المعجون بالفقر والحرمان والبؤس الذي تعاني منه المخيمات الفلسطينيّة، إنّه التّاريخ الحي الشّاهد، نبض الحجارة، الحُلم والأمل الذي يعيشه عالمنا العربيّ، كان يقول: "أنا إنسانٌ عربيٌّ فقط، اسمي حنظلة، لا يهم اسم أبي، أُمّي اسمها النّكبة، ومقاس رجلي لا أعرف لأنّي دائمًا حافٍ، وُلدتُ في حزيران/ يونيو 1976 ".
وكان "حنظلة" بمثابة التّوقيع على رسوماته، والأيقونة التي تمثل الانهزام والضّعف العربيّ، وكان يضيف: "حنظلة هو أيقونة رُوحي تمنعني من السّقوط، إنّه البَوصلة التي تشير دائمًا لفلسط.ين ولن ينتهي من بعدي، سأستمر به بعد موتي".
كما ابتكر شخصية "فاطمة" تلك الأم الفلسط.ينية التي لا تهادن، وشخصية "السّمين" الذي يزحف بمؤخرته العالية مشيرًا للخونة والانتهازيين !!
من أقواله: "أنا متهم بالانحياز.. تلك تهمة لا أنفيها.. أنا منحاز لمن هم تحت".. و"للي بدو يكتب ويرسم عن فلسط.ين بِدّو يعرف حاله ميت".. و"الطّريق إلى فلسط.ين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة إنّها بمسافة الثورة".
وحين سُئل عن "حنظلة" قال: "سيظل دائمًا في العاشرة.. تلك السّن التي غادر فيها فلسط.ين.. وحين يعود سيكون في العاشرة ثم يبدأ يكبر، لذلك فهو استثناء كما أنّ فقد الوطن استثناء".
وعن سبب تكتيف يديه يقول: "كتّفت يده بعد حرب أكتوبر بسبب التّطبيع، فليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسر..ائيل فذلك خط أحمر".
ناصب بعض الأنظمة العداء خاصّة تلك التي رأها تبيع القضية.. فكان يقول لهم" لكم فلسط.ينكم ولي فلسط.ين".
وعنه كتب "الأبنودي": يا قبر ناجي العليّ يادي الضّريح.. كان ميتك للأسف وطني صريح.
ورثاه "أحمد مطر" قائلًا: اصعد فموطنك السّماء إن الأرض للجبناء.
وعنه قال "محمود درويش": ناجي يقطُر يدمّر يفجّر دائمًا يتصبّب أعداءً.
وله ألّفَ الكاتب الفلسط.يني "شاكر النّابلسي" كتابه "أكلَه الذّئب".
مات "ابن الأكرمين" المتيقظ دائمًا.. السّاهر على حراسة القضية، مات وهو يغرد خارج سرب السّقوط، تاركًا "حنظلة" في غزّ.ة وحده يواجه عدونا الصّهيو..ني متسلحًا بحجارته المُقدّسة يحاول أن يلبس الأُمّة لبوس العِزّ.ة.
فهل تُرانا نستحقك يا "حنظلة" ونحن جلوس في مقاعد المتفرجين في "سينما الخزي والبلادة العربية".. نحمل في أيدينا أكياس الدّموع نتجرعها علىٰ ما يحدث في غزّ.ة الآن ؟!
--------------------------
بقلم: حورية عبيدة