ربطتني بـ(ناصر) زمالةُ دراسة، آنستُ فيه خلالها كريمَ خلق، ونبلَ طبع، وطولَ صمت .
بعد المرحلة الإعدادية، تفرقت بنا سبلُ الدراسة، وانبرى كلانا عقب التخرج، يُوسعُ الخطي وراء لقمة العيش، التي ضنتْ علينا بها الحياة، فيمّم هو وجهه شطر بلاد الخليج، وآثرت أنا البقاء في مصر، ظانا أنني أُحسنُ صنعا، لكنني أخطأتُ، حينما فرطتُ في كثيرٍ من فرص العمل خارج القطر، ومن ثم حُرمتُ التعامل بالدرهم والدينار، ولا أبالغُ إن قلتُ حتى الدولار ؛ أنسا بالجنيه المصري، ابن اللعينة، الذي انحدر به الحالُ إلي أسفل سافلين، وألفيتني بعد هذا العمر .. ( ماسك الهوى بإيدي ) .
التقيتُ ناصر بعد طول غياب، فأخبرني بأنه من قرائي، ومن أشدّ المُعجَبين بما أكتب، خاصة مقالاتي عن سير أعلام قريتنا، التي أتريضُ خلالها بقلمي في بساتينهم الغناء؛ لأقطفَ من سيرة كل عَلمٍ زهرة، أنشر شذاها بين أنوف قرائي بعدما أزكمتهم روائحُ سير (نمبر وان، وحمو بيكا، وهيفا، وإليسا، وأخيرا سير زيدان، وعيسى، وإسلام البحيري)، وغيرهم الكثير .
وعدتُ ناصر قبل أن أفارقه بأنني سأكتبُ قريبا عن والده الشيخ فتحي أبو فت، وهذه كُنيته، التي اشتهر بها في قريتنا .
والشيخ فتحي أبو فت، مُعلمٌ من طراز فريد، أتقن الحفظ، وبرع في التدريس، فبلغ فيه السؤدد .
هو خطيب مِصقع، اهتزتْ له أعوادُ المنابر في مصر والخليج، حيث امتاز بغزارة علمه، ودرايته بفقه الواقع، فجعل لكل مقام مقالا، ولكلّ حدثٍ حديثا، فأحبه العامة، وحرص علي مجلسه الخاصة، فكان خارج مصر جليسَ الأمراء، وفي مصر رفيق الوجهاء، وصاحب البسطاء، ومقصدَ الفقراء ولا أكذب إن قلت، إنه لم يُجمع الناسُ علي محبة شخص كما أجمعوا علي محبة الشيخ فتحي أبو فت .
التقيتُه مرة واحدة، حينما زرتُه أنا ومعلمي د. حمدي سويلم أثناء مرض وفاته، فاستقبلنا في حجرة الضيوف، التي اصطفتْ في جنباتها أربع كنبات (اسطنبولي)، توسطتها ترابيزة لوضع إبريق الشاي، ودورق الماء البارد، وصينية ( الأرز ) المعمَّر، التي تخرج للضيوف مع كيزان البطاطا المشوية، إذا وافقت زيارتهم للشيخ يوم خبيز .
رحب الشيخُ بأخينا حمدي أشدّ ترحيب، ثم التفتَ إلي، وسألني عن اسمي، فأجبتُه، فسأل : وتدرسُ في أي كلية ؟
فقلت في دار العلوم، فقال في زهو، وبلغة لا تجد فيها عوجا، ولا أمتا، ولا يعتريها لحنٌ، أو غموض : عظيم ..كليتي وكليةُ جدك توفيق بك الموجي أحد حاملي ألويتها الكبار، فضحكت ملء في لعلمي بأن ثورة يوليو، ألغت الباشاوية، والباكاوية، وليتها ما صنعت ذلك، إذ كانت مصرُ أيامها أجمل !
فسألني : لم الضحك ؟ فبُحتُ بما في نفسي، فقال : لا تتعجب فقد كان جدُّك (بك) بحق وحقيق؛ لأنه شغلَ منصب مدير عام التعليم الثانوي بالوجه البحري، وهي وظيفة يُمنح صاحبها درجة الباكاوية ممن بيدهم مقاليدُ أمور العباد آنئذ .
دار الحديثُ بيننا وبين الشيخ فتحي سجالا، فألفيتُ فيه فصاحةَ لسان، وجميلَ منطق، وبلاغة عبارة، وتشخيصَ صورة، فضلا عن هذا كله، امتاز بخفة ظل، وجميلِ طرفة، وحضور نكتة، فقال مما قال : استضاف رجلٌ ثلاثة عميان علي قصعة فتة، في قعرها (هُبر) اللحم، وأعلاها الخبز، والأرز، فدبَّ أحدهم، ويُدعي محمود ملعقته في القصعة بحثا عن اللحم، فوجده في قعرها، فقال لأخيه أحمد فرحا : ياشيخ أحمد : جناتٌ تحتها تجري، فرد عليه أحمد : يا شيخ محمود خالدين فيها من بدري .
يقصد أنه كان أسبقَ منه في الوصول إلى اللحم .
ومن جميل طرائفه، أنه كان يستحضر مع صديقه أ. علي أبو عيش، طيب الله ثراه، هجاء جرير لقبيلة نمير بقوله :
فغض الطرف إنك من نمير / فلا كعبا بلغت ولا كلابا .
فيقول قياسا علي هذا البيت لعلي : اعرف حدودك يا علي، فأنا أزيد عليك بالمرق، يقصد أن الفارق بين أبو عيش، وأبو فت، بعضُ المرق( الشوربة) .
كانت حياة الفقيد ترجمة لعلمه، فقد حرص علي جمال الهيئة، ونظافة الثوب المخيط من أغلي الأقمشة؛ لإيمانه بأنَّ الله جميلٌ يُحبُ الجمال، وأنّه يُحب أن يري أثر نعمته علي عبده .
لم يشغل الرجلَ نعيمُ الدنيا، الذي تمرغ فيه عن تجارته مع ربه، فتبرع بأفضل أرضه لبناء المعهد الديني الأزهري للفتيات، والذي صار منارة علمية في قريتنا تُدرس علوم الأزهر ، فهنيئا له بالأجر .
خرج من صُلبِ الرجل، رجالٌ وبنات تخلقوا بأخلاقه، وتأدَّبوا بأدبه، وانتشروا في دروب الحياة وسككها تسبقهم سيرةُ أبيهم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .
-------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام
الشيخ فتحي أبو فت