شمل التغيير الوزاري الأخير تعيين نائب رئيس وزراء للتنمية البشرية، ليشغل المنصب وزير الصحة، وهو وزير سابق للتعليم العالي، في مؤشر على ربط التنمية البشرية بالتعليم والصحة، ومع خلفية رئيسية للتعليم بجميع مراحله، وتأكيد على أهميته.
وفي دول عديدة هناك وزارة معنية بالتنمية البشرية، وعلى الأقل هيئات معنية هذا الملف، وفي نفس الوقت هناك دول تربط التعليم بالتنمية البشرية، بمعنى أن يكون التعليم تابعا لوزارة أو هيئة مهمتها الرئيسية التنمية البشرية.
والهدف من كل ذلك هو توفير فرص دون مغالاة للتعليم مرتبطا بتنمية بشرية تفيد المجتمع والفرد نفسه، وهنا يأتي السؤال المهم .. هل يمكن تطبيق ذلك في ظل توجه شديد نحو ما يسمى بتسليع التعليم، أي التعامل مع التعليم وكأنه سلعة وليس تنمية بشرية تصب في التنمية العامة للدولة، مع مؤشر بعيد كليا عن الفرص للتعليم والتنمية لمحدودي الدخل والطبقة الوسطي التي تتآكل أو تكاد تكون تآكلت، وتعليم لأبنائها هو الأمل الوحيد للنجاة من الأزمات.
في قراءة مهمة عن تسليع التعليم الجامعي، وعدم المساواة وتهديد للمجانية لموجز عدسة بمركز "حلول للسياسات البديلة" بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فقد انخفضت مخصصات التعليم من 3.6% عام 2016/2015 إلى 1.9% في موازنة 2024/2023، الأمر الذي أدى إلى تخفيض الأماكن المجانية المتاحة في الجامعات، والتي يزيد الطلب عليها من طلبة المدارس الحكومية الذين بلغت نسبتهم 81% من إجمالي الخريجين عام 2023/2022.
وفي الوقت الذي زاد فيه عدد الناجحين في الثانوية العامة بنسبة 23.7% خلال 10 سنوات أخيرة، فقد ارتفعت نسبة طلاب المدارس الحكومية 25.5% خلال نفس الفترة، وتعد هذه الفئة الأكثر احتياجًا إلي التعليم العالي المجاني، ما يجعل من المهم إتاحة أماكن لهم بالجامعات بنسب تقارب الزيادة السنوية في أعدادهم.
وأعادت وزارة التربية والتعليم إعلان نتيجة امتحانات الثانوية العامة 2024/2023، - بعد تعديلها لأول مرة في تاريخها على ما أعتقد- لتبدأ رحلة الطلاب للبحث عن مؤسسة جامعية تلبي أحلامهم في تخصص يؤهلهم لسوق عمل عالي التنافسية.
ويتزامن ذلك مع توجه حكومي عام بخفض الإنفاق على التعليم العالي وزيادة عدد الأقسام والشُّعب ذات الرسوم المرتفعة داخل الكليات والجامعات الحكومية، وهذا يعني هذا تقليص الأماكن المجانية المتاحة في نظام التعليم العالي العام ويزيد من عدم المساواة بشكل كبير كون فئات الدخل الميسورة فقط قادرة على تحمل تكاليف الأقسام ذات الرسوم.
وبدا التوجه الحكومي في تقليص ما هو مجاني في التعليم واضحًا مع توسع الجامعات الحكومية في إنشاء برامج دراسية بمصروفات عالية داخل الكليات من أجل توفير موارد ذاتية للإنفاق على أنشطتها.
والتفسير المنطفي لذلك أن كل هذه البرامج وتنوعها وإتساعها أنه يعكس تراجع الحكومة عن مسؤولياتها في توفير فرص التعليم المجاني للجميع، ففي جامعة القاهرة وحدها وصل إجمالي البرامج ذات الرسوم المرتفعة إلى 53 برنامجًا، يتم تدريس مناهج متقدمة لطلابها لا تتوافر لمن التحقوا بالأقسام المجانية، وهذا يؤدي لزيادة هوة عدم المساواة الاجتماعية.
بل وصفت الدراسة تلك السياسات بأنها بمثابة فصل طبقي بين الطلاب في الكلية الواحدة عبر سياسات تفضيلية، - لمن يمتلكون المال فقط - لدراسة التخصصات المميزة المطلوبة في سوق العمل التي توفرها الجامعات بمصروفات باهظة.
وهناك تفسيرات وتساؤلات مهمة تطرح نفسها بشأن التوسع في الإنفاق الحكومي على إنشاء الجامعات الأهلية، فهل تعد فرصة ضائعة للاستثمار في تحسين جودة التعليم العالي المجاني وزيادة قدرتها الاستيعابية؟ وهل هي مظهر جديد لتراجع الحكومة عن دورها في توفير التعليم العالي المجاني؟... الموضوع يحتاج لتفسير مقنع، خصوصا بشأن عدم إحداث تحسين واضح في جودة التعليم المجاني.
والأرقام تقول أن الحكومة أنفقت 39 مليار جنيه في المرحلة الأولى لإنشاء 12 جامعة أهلية من أصل 20، في حين أنها أقامت 6 جامعات حكومية جديدة فقط بين عامي 2010 و2022.
وصحيح، ووفقًا للأرقام الرسمية فقد استوعبت الجامعات الأهلية نحو 70 ألف طالب كانوا يتجهون للجامعات الحكومية وخفضت نسبة الطلاب الدارسين في الخارج بنحو 70% عام 2023/2022،
وقد حققت الجامعات الحكومية من خلال مبادرة "اِدرس في مصر" عائدات من الرسوم المرتفعة التي يتم سدادها بالدولار من الطلاب العرب والأجانب، لترتفع من الوافدين إلى 82.1% عام 2022 مقارنة بنسبة 32.4% عام 2013.
ولكن السؤال، هل إنعكس ذلك على تطوير تحسين واضح في جودة التعليم المجاني، وأين ذهبت؟
ولابد هنا من طرح التساؤلات والإستنتاجات التي إنتهت إليها الدراسة، ما مدى تأثير تراجع الحكومة عن إتاحته بشكل مجانى للجميع في إقصاء أبناء الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل وتضييق الفرص المتاحة لهم، وحرمانهم من فرص الترقى الاجتماعى وتحسين مستوى معيشتهم؟
وحقا ..هل الحكومة مطالبة بمعالجة مظاهر الإقصاء الاجتماعي داخل الجامعات؟..، خصوصًا أن التعليم العالي للجميع بلادنا يوفر الموارد الطبيعية ذات الربحية العالية، ورأس المال البشري لذي يساعد تحقيق الأهداف التنموية.
ومن المهم أن ندرك في مصر وتحديدًا في هذه المرحلة أن التعليم العالي والبحث العلمي وفائق الجودة هو الإنطلاق برحلة دول كثيرة لتصبح اقتصادات صناعية خصوصا كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايوان.
----------------------------------
بقلم: محمود الحضري