23 - 04 - 2024

شعب عصي على الإخضاع (1)

شعب عصي على الإخضاع (1)

(أرشيف المشهد)

23-1-2015 | 19:26

تثور موضوعات هذا المقال بخاطري كلما أشرف حكم تسلطي غاشم على الإنقضاء وبدت علامات نهايته. 

وقد نشرت صيغة منه قبل شهور قليلة من إندلاع الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة في مصر في نهايات يونية 2013، احتجاجا على حكم اليمين المتأسلم الفاشل والاستبدادي الفاسد وخيانته للثورة الشعبية. 

وتثور الخواطر ذاتها الآن، حيث تبدو علامات الفشل، مجلبة بدايات النهاية، جلية على حكم المؤسسة العسكرية، أو للدقة المخابرات الحربية. ويالسخرية الأقدار، للأسباب ذاتها، والتهم التي وجهتها المؤسسة العسكرية لحكم اليمين المتأسلم واستعملتها تكئة للإنقلاب عليه.   

في الموضوع، قل ما شئت عن نواقص شعب مصر من الأمية والفقر والخضوع والاستكانة والتدين الفطري وكيف يمكن لقوى سياسية محلية أو غازية أن تستغل هذه النواقص، خاصة بالإغواء والترهيب بالقوة الغاشمة أو قشور الدين، لكي تتمكن من مقدرات هذا الشعب إلى حين، بالمخادعة أو العنف الباطش. ولكن عبر التاريخ تبقى حقيقة أن شعب مصر بقيّ عصيا على الإخضاع والتدجين أيا من كان من حاول إخضاعه، في فعل من أفعال العبقرية الجمعية التاريخية لشعب عريق المحتد، لا يبارى.

----------

يبدأ المقال بصفحة من تاريخ مصر تمكن فيها الشعب العريق من التخلص من فئات من الحكام الدخلاء. بعد ذلك يقارن هذا المقال بين تجربتين. واحدة قامت على غزو أجنبي شهير وباطش أفضى إلى احتلال مصر، وانقضت التجربة فشلا كغيرها من موجات الغزاة الأجانب التي صدها شعب مصر أو احتواها وطوّعها. والثانية قامت على غزو من نوع آخر، يستهدف العقول والأفئدة، سبيلا إلى التسلط على الدولة والناس، من خلال تسلط تيار اليمين المتأسلم السلفي الهوى على المجتمع والسياسة في مصر والذي حكم مصر- بتيسير من المؤسسة العسكرية، ربما بالتواطؤ مع قوى خارجية، في صفقة لم تتكشف جميع أبعادها بعد- والذي يقوم على ذهنية مؤسس الحركة الوهابية، وارتباطات سياسية مريبة في الإقليم وفي العالم. ولكن شعب مصر، رغم أنه قد انتخب هذا التيار، لم يمهله أكثر من عام، خاصة بعد ان تكشفت مساوئه وأخطرها الاستكبار والاستئثار بالحكم، والفشل الذريع في العمل لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة. ولكن تحري الحقيقة يوجب الإقرار بالدور الخطير الذي لعبته قيادات المؤسسة العسكرية، خاصة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، في إسقاط سلطة حكم اليمين المتأسلم، بقيادة جماعة الإخوان.  

******

والمفارقة التاريخية في المثلين الأوليين هنا، بونابرت ومؤسس الوهابية، أن الغازي وأصل الشبح يرجعان كليهما لحقبة تاريخية واحدة تقريبا مع فارق هائل. فبينما كان نابليون في عصره ممثلا لقمة التقدم الإنساني في العلم والحضارة في وقت غزو مصر وسعى إلى تمدين البلد والشعب، وفق منطق الغازي المحتل بالطبع، فقد كان بن عبد الوهاب عند نشأة حركته يقاسي شظف العيش عند أدني درجات المدنية البشرية حتى بمقاييس عصره، في بقعة بلقع جرداء من صحراء شبه الجزيرة العربية منذ قرنين من الزمان، قبل وقت غزو نابليون لمصر بقليل. ومن ثم، بعد قرنين من التطور الإنساني المذهل يتعين أن يُعد تسلط الفكر الوهابي على بلد كمصر ذو حضارة تليدة، بمثابة الدفع بشعب مصر في القرن الحادي والعشرين إلى حضيض شقاء البشرية التعسة منذ قرنين. 

أما قصة المماليك الإنكشارية في حكم مصر وغبن شعبها بالظلم والبطش فقديمة أيضا، ولكن لعلها، رمزيا،  طويلة وممتدة، بل قل معاصرة.

وفي فشل جميع التجارب السابقة لإخضاع شعب مصر دروس جلية للتطورات الحالية في مصر، المحروسة بشعبها وبعناية الله، إن شاء الله.

المغزى الرئيس لهذا لمقال إن شعبا هذه بعض صفحات فخاره العديدة في مقاومة الضيم والذل لن يقبل القهر والإذلال طويلا، لا سيما بعد ثورة شعبية مبهرة في يناير 2011 حطمت حواجز الخوف والرهبة وخلقت أجيالا جديدة من الشبيبة المتحددة دوما لا تعرف الاستكانة ولا الخنوع.

أولا: شعب مصر ينتصر على قاهر أوروبا 

فيما يلي لمحات عن علاقة نابليون والحملة الفرنسية بشعب مصر استنادا إلى كتاب عبد الرحمن الرافعي القيّم (تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء الثاني، الصادر عن مكتبة النهضة المصرية في 1958). 

بدأت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون عام 1798 وحاول نابليون التقرب من المصريين باعتبارهم مسلمين واعدا بالحفاظ على معتقداتهم وعاداتهم واحترامها. 

ويمكن القول أن نابليون تبنى مهمة تمدين مصر ونظر إلى شعب مصر نظرة تبجيل وتهيّب. ويتبدى ذلك في إنشائه في اليوم التالي لدخوله القاهرة ديوانا من تسعة من كبار المشايخ والعلماء لحكم مدينة القاهرة، وتعيين رؤساء الموظفين، وأنشأ مثيله في باقي الأقاليم، وإن لم يتمتع الديوان بالسلطة النهائية في أي أمر من الأمور، فقد كان الغرض منه هو مشاركة الشعب في الحكم شكليا من خلال رموز النخبة المصرية لتفعيل الحياة المدنية بالمفهوم الحديث وقتها. وقد ضم تشكيل الديوان بالقاهرة نقيب الأشراف السيد عمر مكرم. إلا أنه رفض العضوية وفضّل الهجرة إلى سوريا، وبقي بمنفاه الاختياري في حيفا إلى أن فتحها نابليون فأعاده، معززا مكرما إلى القاهرة. 

وفي يوليو سنة 1799 نظّم نابليون المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة الفرنسية، وأعد هؤلاء العلماء الأربعة والعشرين مجلداً الضخاما التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان "وصف مصر" أساسا علميا لجهود تطوير مصر، واكتشف أحد أعضاء الديوان حجر رشيد، ما مكّن العلامة الفرنسي شامبليون من فك رموز اللغة المصرية القديمة، ووضعت الحملة أول خريطة علمية تفصيلية لمصر. كما استحدثت الحملة الفرنسية تسجيل المواليد والوفيات والزيجات، ومساحة الأطيان الزراعية.

في هذا المنظور جاءت الحملة الفرنسية بمهمة تحضير وتمدين، في سياق الغرض الاستعماري بالطبع.

ومع ذلك فلم يكن يمر يوم بلا هجمات يشنها العرب أو الترك أو المماليك غير المؤتلفين مع الحكام الجدد. وفي أكتوبر من العام نفسه اندلعت ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين. وقمع الجيش الفرنسي الثوار بقوة السلاح وعندها تخلى نابليون عن دور الفاتح المتعاطف وأمر بقطع عنق كل ثائر مسلح.

وعندما تبيّن نابليون أن أمن مصر يقتضي تأمين مشارقها جهز حملة لغزو سوريا. وقد نجحت الحملة في بدايتها ولكنها انكسرت على صخرة قلعة عكا الحصينة بقيادة أحمد باشا الجزار. فاضطر الغازي بعد حصار مضن دام 64 يوما إلى الإقرار بالهزيمة وإنهاء الحملة. وهي واقعة تاريخية مهمة تؤكد تكامل أمن مصر القومي مع أمن البلدان العربية في مشارقها، ومنها اشتق المصريون المثل العامي عن " فتح عكا". ولكنه لم يعد إلى القاهرة إلا بعد أن أرسل إلى الديوان إعلانات كاذبة تحتفي بانتصارات وهمية أملا في حفظ هيبته لدي الشعب المصري. ولكن يقول لنا الجبرتي أن المصريين "لم يصدقوا حرفا منها"!

ولعل نابليون هو أول حاكم لمصر "تنحى" عن الحكم عندما تبين فشله في إخضاع شعب مصر وتأمين حكم البلد، وكلف نائبه بقيادة الحملة على مصر. فعندما أيقن فشل حملته، خاصة في تأمين احتلال مصر من خلال غزو سوريا، أزمع الرحيل عن مصر. وعيّن قائده الأول الجنرال كليبر محله. واتخذ نابليون كل الوسائل ليكتم عن الناس مشروع رحيله إلى فرنسا. يقول الجبرتي:"ولما كان يوم الاثنين سادس عشر ربيع الأول (18 أغسطس 1799) خرج مسافرا آخر الليل وخفي أمره على الناس".

أي أن نابليون الذي أخضع أغلب أوروبا وصار حاكم فرنسا المطلق، غادر مصر متسللا بليلٍ.

وعندما استتب الأمر لكليبر قضى على ثورة القاهرة الثانية ضد الفرنسيين في إبريل 1800 بعد قتال عنيف دام ثلاثة وثلاثين يوما، بإغراق القاهرة في الدم والنار وبمساعدة المملوك مراد بك، خاصة بتدمير مركز العاصمة التجاري فيما عرف بمأساة بولاق، والتي ظلت النار مشتعلة به ثمانية أيام متتالية. كما أمعن كليبر في تعذيب وإذلال الشريف الشيخ السادات لقيادته للثورة، مع العلم بأن نابليون نفسه كان قد رفض إهانة الشيخ السادات بعد إخماد ثورة القاهرة الأولى في حضوره. وقد دفع كليبر حياته ثمنا لهذه الجرائم.

فقد اغتيل كليبر في عقر داره بمقر القيادة العامة للحملة الفرنسية على يد سليمان الحلبي، وكان طالب علم سوري في الأزهر حضر إلى القاهرة خصيصا لهذا الغرض، في يونيو 1800 ، مرة أخرى، بين مصر والشام التاريخي عرى وثيقة لا تنفصم!. 

وتولي القيادة بعده الجنرال مِنو الذي كان من "سلالة أشراف" في فرنسا. وكان الجنرال منو قد اتبع استراتيجية مبتكرة في التعامل مع شعب مصر، فتزوج من سيدة مصرية شريفة المحتد تدعى زبيدة ابنة أحد أعيان رشيد، وتم عقد زواجهما في وثيقة شرعية تضمنت اعتناقه الإسلام وزواجه من السيدة، وتسمى منو فيها باسم "عبد الله باشا منو"، وكان يتقرب من الشعب محاولا الاندماج فيه، فكان مثلا يصلي التراويح. ولكن على الرغم من إدعائه الانتساب للإسلام، فقد اتسم عهده بطغيان وظلم وإرهاق للشعب أشد من سابقيّه. وهكذا عبر العصور، ليس كل من يدعي الإسلام بمسلم حقيق! وفي النهاية ترك مِنو مصر مع زوجته تلك.

وفي نهاية الحملةالفرنسية ذاتها، تم جلاء "الفرنسيس" عن القاهرة في 14 يوليو 1801، بعد الاستسلام لغزو مضاد من العثمانيين والبريطانيين، وغادروا من الإسكندرية في الخريف التالي التالي. بعد احتلال ثلاثة أعوام وشهرين.

ويعتبر عبد الرحمن الرافعي المقاومة الشعبية للحملة الفرنسية منشأ الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، ورب ضارة نافعة!.

ثانيا: شعب مصر يقضي على حكم المماليك الإنكشارية

لقد تخلص الشعب المصري من المماليك ومن الوالي التركي كليهما في غضون عامين. 

وهذا القسم من المقال إنشاء رمزي لن يستعصي على القارئ الفطن تبين التناظر، الذي يصل أحيانا حد التطابق، وإسقاط الرموز على واقع مصر الراهن. وقد استقيت المقتطفات المختارة التالية من كتاب عبد الرحمن الرافعي عن تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء الثاني.

كان الشعب المصري قد تخلص من احتلال الحملة الفرنسية من خلال ثورتي القاهرة الأولى والثانية عامي 1798 و1800، وعاقب الفرنسيون الشعب عليهما بإجراءات انتقامية بشعة، وفي سياق تحالف الإنجليز والأتراك لطرد فرنسا من مصر. واستقر الحكم بعد جلاء الفرنسيين للماليك. وفي مطالع العام 1804، "تخلص عثمان بك البرديسي من منافسه وزميله القديم محمد بك الألفي، وأمِن على سلطته في الحكم.

الحالة في القاهرة كانت تزداد تفاقما بسبب تذمر الشعب من كثرة وقوع المظالم وإرهاقه بمختلف الضرائب والمغارم، وكان المماليك لا يدعون فرصة إلا ويفرضون على الناس غرامة أو ضريبة جديدة، فاشتد الضيق بالأهلين واستولى الذعر على الناس في القاهرة وازدحموا على شراء الغلال، فارتفعت أسعارها وشح الخبز في الأسواق واشتد الضيق بالفقراء وأواسط الناس، وهم السواد الأعظم من السكان، واجتمع إلى هذا الضيق اعتداء المماليك والجنود الألبانيين على ما بأيدي الناس من الأموال والغلال والمتاع.

شكا الناس إلى كبار العلماء من ترادف ه ذا الاعتداء فطلبوا منع اعتداء العساكر على الناس، ... وركب الأغا (المحافظ) والوالي (رئيس الشرطة) وأمامه جماعة من العسكر والمنادي ينادي بالأمن والأمان للرعية وأنه إذا وقع من الجند اعتداء أو نهب للناس أن يضربوهم وإن لم يقدروا عليهم فليأخذوهم إلى رؤسائهم، على أن مثل هذه الوعود والتنبيهات ذهبت عبثا، واستمر الجند والمماليك في اعتدائهم على الأهالي، وأخذ جو المدينة يكفهر منذرا بوقوع حوادث خطيرة.

كانت خزانة الحكومة خالية من المال بسبب سوء الإدارة وتلف الأراضي الزراعية وتعاقب الفتن وما أدى إليه الظلم من انقباض أيدي الناس عن العمل. فكر البرديسي في ابتداع الوسائل للحصول على المال، ففرض على تجار القاهرة ضريبة جديدة، لكنه لم يحصل على المال الكافي لسد حاجة الجنود الذين كانوا يزدادون كل يوم ضجة وصخبا، فاعتزم البرديسي في شهر مارس 1804 أن يفرض ضريبة جديدة على جميع الأهالي بلا استثناء، ضربها على العقارات والبيوت، وكلف عمال الحكومة بأن يحصلوها من كل فرد من أفراد القاهرة من ملاك ومستأجرين.

فبدأ الناس يتذمرون ، وامتنع كثير من الناس عن دفع المطلوب منهم، فوقعت الملاحاة بينهم وبين عمال الحكومة، واشتد سخطهم وعلا صياحهم، واحتشدوا وجاهروا باستنكار هذه المظالم وامتناعهم عن دفع الضرائب، وخرج الناس من بيوتهم يضجون ويصخبون، واحتشدوا في الشوارع حاملين الرايات والدفوف والطبول، وأخذوا يستمطرون اللعنات على الحكام، وكانت صيحاتهم منصبة على الحكام المماليك الذين بيدهم الحل والعقد، فأخذت جموعهم تنادي: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي!"، وأغلق التجار وكالاتهم ودكاكينهم.

وامتنع كثير من التجار عن دفع ما يطلب منهم إما لكونهم اكثر احتياجا ممن دفعوا الضريبة أو أكثر شجاعة منهم، فاشتدت المناقشة وعلا الصخب، ثم لم يلبث الشعب أن اجتمع بأجمعه في الشوارع، واتجهوا إلى المساجد التي اتخذوها ملتقى لاجتماعاتهم، فسرعان ما غصت المساجد بجموع الشعب، وأثار اجتماعه في نفوس الجماهير روح الحماسة والشعور بالقوة والحق، وقبضت الجماهير في ساعة الغضب الأولى على بعض جباة الضرائب وقتلوهم.

نادى العلماء بإبطال الضريبة ورفعها، أما عثمان بك البرديسي فقد قابل هذه الثورة بالغطرسة والكبرياء، ونقم على المصريين قيامهم في وجهه وخروجهم على حكمه، وتوعدهم بالشر والنكال."

مقالات اخرى للكاتب

والذكرى تنفع الثوار





اعلان