10 - 05 - 2025

فراسة الأستاذ !

فراسة الأستاذ !

ها هي الذكرى العشرون علي رحيلِ خبير النفس الإنسانية، الذي سبر أغوارها، وآسي جراحها علي مدي سنوات عبر منبره بريد الأهرام .

كانت لي مع الأستاذ ـ طيب الله ثراه - مواقفُ جديرة بتدوينها في مقال أو أكثر، منها أنني ظهيرة يوم، وعلى رِجْلين مُرتجفتين لا تقويان على حمل جسدي، يممتُ له وجهي، حينما استدعاني لمساءلتي عن خطأ لغوي بدر منى بداية عملى بالأهرام، ترتب عليه طَبعُ مُلحق الجمعة مُشتملا على ذلك الخطأ، الذي كادت تحدث بسببه طامة مجتمعية، ونارٌ لا تنطفئ لها جذوة؛ مما أثار غضب القراء، خاصة أنه وقع في جريدة الأهرام، وهي ما هي آنذاك، ليس فى مصر وحدها بل فى الشرق الأوسط كله، دون أن تنتبه له عينٌ فيتم تداركه قبل الطبع .

كنتُ وأنا في طريقي للراهب في صومعته أُقُدّم رِجلا وأؤخر أخرى، بل كنتُ أتمني أن تنشقَ الأرضُ، وتبتلعني .

وفيما أنا أعالج وجيب قلبي، وأسوق جسدي المهدود لهذا اللقاء المهيب، بعدما فكرتُ أكثر من مرة في الهروب، مهما كانت النتيحة، ألفيتني أمام باب مكتبه، فتجاسرتُ، وقرعتُ عليه بابه مستأذنا بالدخول، غيرَ عابئ بفزع قلبى الذى فضحتني نبضاته، فأذن، فأبصرته خلف مكتبه، يُصدر توجيهاته لبعض الصحفيين، ثم التفتَ إلي، وعلى وجهه ابتسامةٌ باهتة، تنبئ عن شدة انشغاله، وسألني من أنت ؟

أجبته، فأمرني بالانتظار حتى ينصرف الزملاء؛ لكيلا يُساءلنى أمامهم .

مرتْ لحظاتُ الانتظار بطيئة، وكدتُ خلالها أصاب بسكتة دماغية، أو قلبية.

بمجرد أن خرج الزملاء، التفت الأستاذ نحوي بوجه عابس، وجبين رُسمت عليه خطوط عرضية، تهدد بالبطش، فقلتُ في نفسي : يا ليتني كنت نسيا منسيا !

وفي عجالة، سألني عن ردي علي ذلك الخطأ، فشرعتُ أبرر، وأختلق الأعذار، التي قلتُها، وصدقها كلُّ من سألني قبله، وكانت بالنسبة لي طوق نجاة، إلا هو، فبفراسة ذهلَ لها عقلى، وألجمتْ لساني عن التمادي فى الكذب الذى اتخذتُه وسيلة للخروج من (مطب) وقعتُ، أو أوقعتُ نفسي فيه، أكَّد لي أنه خطأ مقصود، فما كان مني إلا أن سكتُّ هنيهة، ثم قلتُ مندهشا : ليس لي تعقيب على فراسة حضرتك !

وبعد سنوات عديدة، ها أنا ذا  أعترفُ بأنني لجأتُ لهذا الكذب مضطرا؛ لأن العقاب إن لم أنجح فى إقناعه بوصفه مديرا للتحرير، ورئيسا للديسك المركزي آنئذ، سيكون فصلي من العمل .

وأؤكد ثانيا أن الكذب سرابٌ بقيعة، وأنَّ الصدق منجاة، ولو عاد بي الذنب، لن أفعل ما فعلت .

كانت حججي تقوم علي أن الخطأ وقع سهوا عن غير قصد أثناء تصويبي عبارة لأحد الكتاب، تُخالف ما أعرف، وما قرأتُ، فأعطيتُ نفسي - عن جهلٍ مني - صلاحيات رئيس التحرير، وفيما أنا أكتبُ إحدى الكلمات، حدث مني تصحيفٌ أخلّ بالمعني، وأثار القراء . ومثالُ التصحيف، حتي يعرف القارئ فداحة الأمر، أن حمزة الزيات كان يقرأ القرآن من المصحف، فقرأ : ( ألم ذلك الكتاب لا زيتَ فيه)، والصواب (لا ريب) فيه .

ببراعة الربان، امتص مطاوع غضب القراء، وجعلني أسيرَ فضله، ومعروفه، بعدما واجه معي أعاصير تهديد مستقبلي الصحفي، حيث أخبرني أن رئيسي المباشر، طالبه بفصلي من العمل، لكنه رفض ذلك بعدما التقاني، ولمس حسن خلقي، رغم نزق الشباب، إضافة إلي سعة الثقافة، وجرأة الاعتراف .

وهو ما جعلني خليقا من وجهة نظره بأن يُسدي إلي نصائحه، وأهمها أن الصحفي لابد أن يتحلى بالموضوعية، والصدق، ويحترم نص المصدر، مهما اختلف معه أو عارضه .

و بحكمة ربان السفينة، وبعدما وجه لى إرشاداته، حوّل دفة اللقاء من لوم ومساءلة، إلى جلسة بحث ومدارسة، حيث طلب منى بحثا يدعم ما أثرته من آراء، خالفت بها الكاتب، فامتثلتُ سريعا امتثالَ المُمتن الشاكر .

توطدت صلتي بعدها بـ(الأستاذ)، وجنيتُ من ورائها في بلاط صاحبة الجلالة مكاسبَ جمة إلا المال .

رحم الله الأستاذ عبد الوهاب مطاوع رقيق القلم، شفيق القلب، الذي استطاع بعبقريته الفذة أن يسبر غور النفس الإنسانية، ويعرف مكنونها، ويستنطق خباياها .  
---------------------------
بقلم: صبرى الموجي
* مدير تحرير الأهرام
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

ثورة العميد!