لم يكن اللاعب أحمد رفعت وحده من لقى الموت قهرا. فكثيرون مثله منهم من انتهى لنفس المصير ومنهم من ينتظر .. كلنا في هذا الوطن نتجرع نفس المرارة وغصة الألم .. كلنا نعانى من القهر الذى أمات رفعت بينما نتجرعه أحياء .. تختلف الدرجات والأشكال والقدرة على التحمل وردود الأفعال، لكن الوجوه كلها تشى بوطأة القهر وهوان الحياة .. ليطلع علينا من بيننا بين الحين والآخر أحمد رفعت جديد.
حلمنا مثله وداعبتنا الأيام وفتحت لنا ذراعيها لنحلق في سماء أحلامنا الجميلة .. ظننا أن أيامنا العبوس قد ولت وبدأت صفحة جديدة لا تعرف فيها قلوبنا الأحزان وضيق ذات اليد والعجز عن تحقيق أبسط الاحتياجات .. لكن سرعان ما اغتيلت تلك الأماني وانهارت بين أيدينا الأحلام .. ليس بسبب سوء حظ أو ضربة قدر أو ابتلاء لكنه سوء سياسة، وفشل إدارة، وتلاعب ومؤامرات وغياب تقدير وتخطيط، وإهمال في حل مشاكل المطحونين وغض الطرف عن آلامهم والتغاضى عن وطأة الحياة الصعبة الثقيلة، وشدة الضنك التي تخنقهم وتحيل حياتهم جحيما وكابوسا ثقيلا يتربص بهم في معيشتهم نهارا ومنامهم ليلا.
لم ننس رفعت لأن من بيننا يخرج كل يوم آخر يشبهه، يحمل نفس المرارة وينتهى به لنفس المصير.
أحمد آخر لايحمل نفس الإسم لكن شاركه نفس المعاناة وإن إختلفت التفاصيل .. مدرس شاب في إحدى المدارس الحكومية ، مرتبه ودخله الضئيل يكفيه بالكاد .. عانى مثل ملايين غيره لتدبير نفقة الزواج .. بالكاد نجح في تأثيث بيت متواضع للزوجية، وظن أن الحياة ستبتسم له بعدما تزوج من زميلته التي تعمل بنفس المدرسة. بعد عام رزق بطفل جميل وعام آخر وأصبحت له ابنة امتلكت وأخيها كل مشاعره وقلبه .. لكن سعادته لم تدم بعدما كتم الغلاء على أنفاسه وأحكم قبضته على روحه الهشة .. تزايدت الالتزامات وطلبات الأولاد والدخل محدود .. كان يتنفس الصعداء مع آخر كل شهر ويحمد الله أنه انتهى بالستر دون أن يمد يده بالسؤال والدين المذل .. لكن الغلاء لم يتوقف وبدا تدبير حال المعيشة أصعب بكثير من أيام وليس من شهور وسنوات مضت. كل يوم وجنون الأسعار يواصل قفزاته المروعة .. تحمل الأمر بصعوبة ، اضطر لمد يده للسؤال .. تضاعفت الديون وليس من سبيل لتسديدها ، ضاقت الزوجة .. خرجت بطفليها هربا من حياة الضنك الخانقة ، تركته وحيدا يعانى ضيق الفقر والحرمان ، لم يكن بيده من حيلة .. خسر كل شيء ، قبض القهر على روحه فدفع حياته ثمنا .. مات وإن لم يكن يوما من الأحياء.
نفس المصير واجهه آخر، فقد وظيفته بعدما بيع المصنع الذى يعمل به أصبح عاطلا بعدما كان لايتوانى في عمله، عصف قطار الخصخصة اللامسؤول بأحلامه وعصف بحياة أسرته، حطمها حولها لجحيم .. توالت الشجارات الحادة بينه وبين زوجته ، تعالت صرخاتها وكلماتها الحادة الجارحة .. انطلقت سهامها القاتلة لكن عيون الصغار المحرومة كانت أشد قوة وفتكا .. أصابته في مقتل ، انسحب من غير إختيار ليتركهم لمصير مظلم، ربما يكون من بينهم وملايين غيرهم ألف رفعت آخر.
مخطيء من يتصور أن الرجال وحدهم من يموت قهرا، فللنساء أيضا من القهر نصيب لايقل ألما، فالمخنقة واحدة ..
فتاة كالقمر .. كانت مضربا للأمثال في جمالها وحسن طلتها ، مبهجة .. تقتحم القلوب بلا إستئذان ليس لجمالها وحده بل لبشاشتها وروحها الطيبة الودود ..دق على قلبها الكثيرون لكنها لم تفتح سوى لمن تعلق به قلبها شغفا وحبا ، توج حبهما بزواج لم يسفر عن فلذة أكباد .. تقبلت قدرها بصبر لكن الآخر لم يرحم .. انتهت حياتها مع من أحبته بالإنفصال ، ضاقت بها الحياة ..دخل محدود وحياة متقشفة زهيدة فرضت عليها، قاتلت بإستماتة لمواجهتها ، سافرت لتفتح باب الأمل من جديد فروحها المحاربة لم تكن تستسلم بسهولة لليأس .. سنوات عاشتها بيسر وإن كان غلاء المعيشة فى تلك البلد يستنزف الجزء الأكبر من دخلها ومهما بدا معقولا .. سنوات تتحمل وحدها ضيق الحياة وألم الغربة، تأقلمت مع حالها كعادتها، لم تتذمر أو تشكو ، ابتلعت غصة الحياة فى صمت ..حتى بلغت سن المعاش لم يكن من السهل العودة ولم يكن من السهل الاستمرار لكنها فضلت الطريق الآخير. فالغربة فى الوطن مذلة والغربة بعيدة عنه أهون .. بحثت عن عمل ، كنت الظروف تجود به أحيانا وتضن به كثيرا.
تحملت ضيق الحياة ..تقشفت قدر ماتستطيع .لكن ضغوط الحياة كانت أكبر من تحملها، تكاثرت الديون .. تراكمت إيجارات المسكن التى عجزت عن سدادها ، أصبحت بمصير مظلم .. وقعت بين شقى المصير الهالك إما السجن وإما الموت .فاستسلمت للأخيرطوعا .عاشت وحيدة وماتت غريبة، لتسطر فصلا آخر من فصول رواية حزينة يعيشها ملايين المعذبين في صمت منهم من لقى نحبه ومنهم من ينتظر.
ولا عزاء لأصحاب السياسات الفاشلة والقرارات الخاطئة والمشاريع الوهمية الخادعة، لنا الله.
------------------------
بقلم: هالة فؤاد