27 - 04 - 2025

(صُباع) الكافر !

(صُباع) الكافر !

(صُباعُ) الكافر، ليس إصبعا حقيقيا من لحمٍ ودمٍ وعظم، وليس الكافرُ شخصا بشحمه ولحمه، وقضه وقضيضه ممن يظهرون في الأفلام الدينية بعينٍ تبرُق، ووجه عَكر (يِقطع الخَلف)، ولكنه وصفٌ لتمر إحدى أشجار النخيل بحقلِ صديقي فوزي عبد الحليم .

وأتعجبُ .. لماذا اختارَ فوزي لتلك التمرة هذا الوصف، أو تلك النسبة، ولماذا لم يختر لها وصفا يحمل اسم شخصية أسطورية في الشجاعة والقوة كعنترة بن شداد، صاحبِ القوة الخارقة، والبطولاتِ المجيدة، وصولاتِ الحروب وجولاتها، التي شيَّد لعبسٍ بفضلها مجدًا خالدا بين قبائل العرب ؟

أو يختر لها وصف إحدى جميلات العرب في الجاهلية كأم أناس الشيبانية، أو الجليلة بنت مرة، أو هند بنت النعمان، أو حتي ليلي العامرية معشوقة قيس، أو ليلي، التي أنشد فيها صالح جودت قصيدته "ظمآن"، والتي يقول فيها :

أجل ظمآن يا ليلى وماء الحـــب في نَهْــــــــرك

خذيـــني في ذراعيــــك  وضميـــني إلى صدرك

دعينــــي أشــربُ النــور  الذي ينسابُ من شعرك

و روي لهفة الظمــــــــآن بالقبلة من ثغــــــــــرك

هبي لي ليلة أثمل يـــــا ليلاي من خمـــــــــًـرك .

أيَّا كان سببُ ذلك الوصف، إلا أنه يعكس موروثا ثقافيا خاطئا، صوَّر الكافرَ (سوبر مان)، ونَظرَ إلي المسلم باعتباره شخصًا ضعيفا، خائر القوي، مُحطّمَ الإرادة، وهو ما يُخالف الحقيقة، ويشهد علي ذلك حمزةُ أسدُ الله، وعمرُ فاروق الأمة، وخالدُ سيفُ الله المسلول، وعمرو بن العاص داهيةُ العرب، وغيرهم .

ربما تناسي فوزي كلّ ذلك، أو نُقِل إليه وصف تلك التمرة عن سابقيه دون دخل له في اختياره، وهذا هو الأرجح عندي .

المهم أنّ ذلك الوصف  

كان أسوأ ما في هذه التمرة رغم كِبرِ حجمها، ولذةِ طعمها .

ولهذا الوصف حكاياتٌ وروايات، كنا نتندرُ بها علي من لا يعرف قصته .

كان فوزي كلما وَفدَ إليه وافد، أو نزل عليه ضيف، يستقبله أفضل استقبال، وبعدما يفرش له البُسُط، يستأذنه للحظات؛ ليُحضر له (صباع الكافر)، ويقول بصوت مسموع : (حالا ستأكل صُباع الكافر)، فترتعد فرائص الضيف، وتصطك أسنانه ويتساءل : أيُّ متعة في أكل صباع الكافر .. وهل مازال عندكم كفار ؟

يطرح الضيف هذه الأسئلة، ونحن بجواره نوشك أن نموت من شدة الضحك، ويظل الضيف ممتقع اللون، مُختلج النفس، حتي يأتي فوزي بالتمر، وينكشف السر، فتقر عينه، ويهدأ وجيبُ قلبه .

كان فوزي - إلي جانب ظُرفه - نابغة في المواد الأدبية باستثناء اللغة الإنجليزية، التي كان معها كـ(الشّريك المِخالف)، ولم تنجح في إزالة خصومته معها الدروسُ الخصوصية عند عباقرة اللغة الإنجليزية آنذاك مثل أ . منير حسانين - طيب الله ثراه - وتلميذه النجيب أ. عبد العاطي شلبي، حفظه الله .

ولشدة الجفوة بينه، وبين تلك اللغة (اللعينة)، كان إذا ( رطن ) أمامه بها أحد، يضطرب كمن لبسه عفريتٌ من الجن، فيقف فاغرا فاه، تحور عيناه وتدور، ويكتفي بمجرد هزّ رأسه إيهاما بالفهم، وأقطع ذراعي أنه لم يكن يفهم شيئا، وهو ما كانت تستغلُه أختاه الأكبر منه، وكلتاهما تعمل بالتدريس حاليا، في (بَلْفه)، فتتكلمان بالإنجليزي، والحقيقة أنهما كانتا فيه (لِبلب)، ويقف فوزي بينهما كـ(الأطرش في الزفة).

عداوة فوزي للإنجليزي، جعلته يعمل لامتحان الثانوية العامة (ألفَ حساب وحساب)، ويُفكر كثيرا في كيفية تخطي تلك (البلوة السودة)، ويقول بصوتٍ مسموع كلما اقترب موعد  الامتحان : ( يا داهيتي السودة يا انا يا امه )  .

فكّر فوزي، فلم يجد حلا إلا في إرشاء مُراقبي لجان الثانوية العامة، ولكنَّ حظه العاثر أنّ الامتحانات، لم تكن في موسم نُضج تمر (صُباع الكافر)، أو موسم المشمش، الذي اشتهرت به قريتنا هي وقرية العمار، فاقترح أن يدفع كلّ طالب 20 جنيها؛ لشراء هدية للمراقبين حتي (يفكوا) علينا  لجان الامتحان .

ولأنّ فوزي( فتوة الدفعة)، فكان قراره فرمانا كفرمان (عاشور الناجي) فتوة الحرافيش، فلا يمكن لأحد رفضه، وإلا ستصير (وقعته مِطيِّنة بطين)، وربما يأكل فوزي إصبعه عوضا عن (صُباع الكافر)، أو تهوي راحةُ كفه الأشبه بكف أبرهة الحبشي علي وجه المُعترض، فتحْوَلّ عينُه، أو (تنخرم) طبلُة أذنه .

اشتري فوزي ( كرتونتين) من التفاح الأمريكاني؛ هدية، أو - قل - رشوة للمراقبين، وشاءت الظروف أن يكون امتحان الإنجليزي صعبا، فأخذ فوزي يُقلب ورقة الأسئلة دون أن يفهم شيئا، فصنع منها طائرة ورقية، يُطيرها داخل اللجنة، وجلس ينتظر علي أحرّ من الجمر ( فك ) اللجنة، ولكن هيهات !

مضي الوقت، فآيس الكلُ، فشرعتُ في الإجابة؛ مُعتمدا على ذاتي، وتاريخي السابق في التفوق، ولكنَّ صعوبةَ الامتحان، فاقت كلَّ حد مع طلاب ضيَّعهم الإغراق في  اللعب !

وفيما أنا سادرٌ في فكري، أترجم غامض النصوص، والكلمات؛ لأشرع في فض بكارة الأسئلة الناشز، تحولتْ عيني عن ورقة الأسئلة لحظة، فرأيت فوزي ومن على شاكلته، يعضون الأنامل من الغيظ، وينشبون أظافرهم في راحات  أيديهم، ثم يرفعون أكف الضراعة بأن ينزل عليهم الفرجُ، وترق لهم قلوبُ المُراقبين .

أبصرني زميلٌ خلف مقعدي منهمكا في ورقتي، فظن، وبعضُ الظن إثم، أن ورقة الأسئلة أسلمت لي قيادها، أو نزل علي إلهامٌ سماوي، فانبري يلهزني، وكلما، تجاهلته، و (عملتُ نفسي من بنها)، عاد يلهزني من جديد حتي كاد ظهري (ينخرم)، فشُل تفكيري؛ لأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه -  واستدرتُ للخلف بكُليّتي، أنظر إلي فوزي في آخر اللجنة، وأصيح  : (يا ابني أخرج كراتين التفاح .. ظهري اتخرم ) .

رآني فوزي، وقد جُن جنوني، فأخذ يلطم خدّيه، وهو يردد : ( يا واقعة سودة .. روحنا في داهية )، فيرد خلفه الطلاب : روحنا في داهية) .

رقّق صراخي، واضطراب الطلاب قلب المراقبين، ففكوا اللجنة، ورحموا ظهري من ألم الوخز .

وحتى لا أجحد فوزي حقه، فرغم كرهه للغة الإنجليزية، إلا أنه كان بحق مَرجعا في المواد الأدبية، يحفظُ كتب التاريخ والجغرافيا، من الجلدة للجلدة، ويكرر مواد الاجتماع والمنطق والفلسفة، كالببغاء، ويحفظ النصوص عن ظهر قلب .

فوزي عبد الحليم صديقٌ من الزمن الجميل، ظريفٌ إلي أقصي درجة، سخيُّ إلي أبلغ حد، ورثَ السخاء والكرم عن أبٍ وأم كانا مضرب المثل في ذلك .
---------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

ثورة العميد !