15 - 05 - 2025

ياسمير.. انس التغيير

ياسمير.. انس التغيير

عرفت سميراً كواحد من المراهقين النجباء في حيّنا. غير أنه كان متحمساً ورومانسياً وحالماً كثيف الخيال. يقرأ بدأب ويناقش بصلابة ويصر على الأمل. أعترف أن يافعاً مثله يستحق الإعجاب والتقدير. لكن حماسته ورومانسيته وخيالاته كانت كثيراً ما تُخيفني على مستقبله. وكان أن دارت الأيام، وبعد أربعين سنة عرفت من صديق أن سميراً يعيش نادماً بعد أن تبين له من بعد واقعة عجيبة أنه غش نفسه وضللها. فقد ظل يحلم منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره بأن كل شيء سيتغير، وأن الأفضل قادم لا محالة. وها هو قد وصل إلى منتصف العقد السادس من عمره فلا رأى تحولاً أو بصيص أمل. 

كان سمير يمشي صباح يوم جمعة متأملاً، فوقعت عيناه على رجل عجيب الشكل ترتسم على وجهه تجاعيد غائرة ويتحرك بخطى متثاقلة. لف الفضول سمير، فظل يسير خلف الرجل إلى أن وجده يقف أمام سبيل مملوكي فسمعه ينطق بلهجة لم يتبين أكثر كلماتها. ثم انحرف خلفه بعد أن دخل إلى أثر عثماني فسمعه ينطق بكلمات تركية. ولما خرج إلى الطريق من جديد واصل سمير تتبعه فوجده يلوذ بمعبد يوناني ليقف أمام أحد أعمدته متمتماً بكلمات هيلينية. هنا تملكت الدهشة سمير فباغت الرجل وسأله من أنت؟

لم يحرك الرجل ساكناً. صمت لبرهة ثم قال: "أنت سمير بتاع التغيير، أليس كذلك؟" بُهت سمير وقال كيف عرفتني؟ رد عليه: "ليس مهماً أن تعرف كيف لكن دعني أطلب منك طالما أن لديك خيالاً خصباً وأحلاماً واسعة أن تدع خيالك يثق فيما سأقول. وما سأقوله يا بني ليس خيالاً وإنما علم وصلت إليه بعد ألف عام عشتها. فزع سمير وقال لا بد أنك مجنون. تبسم الغريب وقال "لن أحاول أن أقنعك بأني ما زلت حياً من ألف عام لكنها الحقيقة، ومع هذا سأطلب منك أن تتخيلني كذلك. تخيل رجلاً عمره ألف عام، فيا ترى ما السؤال الذي ستطرحه عليه؟" رد سمير على الفور "كنت سأسأله ما الفارق بين زمن الماليك وزمننا؟ أو بين عصر الدولة العباسية وعصر العولمة؟ أو بين حال الإنسان وقت الدولة العثمانية والحقبة الاستعمارية أو في ظل الدولة الوطنية؟" 

رد الرجل الألفي قائلاً "لا فرق..كلها رتوش وكله فاشوش." ثم استرسل ليعلم سمير دروساً عظيمة في مسألة التغيير. أثنى في البداية على سؤال سمير، وقال له "اسمع أيها المعذب الحالم بالتغيير منذ أن كنت في الخامسة عشرة. صحيح أن أسئلتك افتراضية إلا إنها عظيمة لأنه لا يطرحها إلا كل من هو جاد حريص على التعلم من التاريخ وليس تكراره. فمن يسألها لا يفكر فيها إلا لكي يتفادى الخطأ ويعرف المنهج ويسير وفق خطة عمل تأخذه إلى الهدف. أنا يا سمير عمري ألف عام. لم أر خلالها تغييراً يخرجنا من زقاق التاريخ ليضعنا على خط المستقبل. ألف عام وأنا محشور في عنق زجاجة الزمن الطويلة لا أرى لها نهاية. ألف سنة سمعت فيها كلاماً كثيراً طيباً. ظلوا يكررون علينا أن البشر أهم من الحجر وأن الكفاءة مقدمة على الولاء وأن النقد أنفع من التمجيد وأن الوطن فوق القبيلة.  لكن كما ترى كله فاشوش. اسمع يا بني ولا تحزن من كلماتي. أنت خائب ابن خائب ابن خائب. تاريخي وتاريخك وتاريخ حيينا هو تاريخ الخيبة بعينها. لهذا دعني أسرد عليك خمسة قواعد وخمسة أشكال للتغيير قد تساعدك في ضبط أحلامك لكي تعرف سر الخيبة التي نعيشها، والأهم لكي تتعلم أن تحلم على قد لحافك التاريخي. فالتاريخ يا بني قبضته غليظة لا يتدفق على هوانا وإنما يعمل بقوانينه صانعاً حتميات لا تكسرها إلا إرادات قوية ومستنيرة." 

القاعدة الأولى لا تغيير بدون استمرار. الاستمرار هو العدو الأول للتغيير. ويجب عليك أن تحذر. فأكثر من رفعوا شعار التغيير من لهم مصلحة في الاستمرار. 

القاعدة الثانية التغيير للصابرين، فلا يحدث بين يوم وليلة، وقد لا يأتي مطلقاً. التغيير عزيز النفس لا يأتي من نفسه وإنما يأتي به من يصبر ويعرف.

القاعدة الثالثة التغيير ليس باستبدال الكلمات ولا حتى التصرفات، فلا تقنع باستقراره إلا عندما تتحقق من أثاره. 

القاعدة الرابعة التغيير، وأحذرك، أكثره للمراوغة والتكيف. كثيراً ما يجري للتعايش مع أزمة وليس للخلاص منها. 

القاعدة الخامسة التغيير يا بني مخيف قد يحل مشكلة لكنه يأتي بمشكلات، كثيراً ما تختلق اختلاقاً. أتعرف لماذا؟ لكي يقول أنصار الاستمرار ألم نقل لكم أن التغيير جرم؟  

 والآن دعني أحكي لك بخبرة ألف عام عن خمسة اتجاهات للتغيير، وأقول لك بكل أسف أن نصيب حينا كبير من أول ثلاثة منها وفقير في الاثنين الباقين. فهل أنت جاهز للإحباط؟ واصل سمير النظر إلى الرجل ولم ينبس ببنت شفة. فقال الألفي:

الأول التغيير التكراري بأن نظل نلف وندور ثم نعود لنلف وندور في حلقات مفرغة دون فتح ثغرة فيها. هو تغيير دائري أو تحايلى يعيد إنتاج الأوضاع القديمة. فقد تتغير الوجوه لكن القواعد تبقى كما هي. 

والثاني التغيير التجميلي وهو ترقيعي يُدخل تحسـيناً طفيــفاً أو لمسات جمالية محدودة، كل ما يهمه شراء الوقت وتحسين الصورة وتنفيس الغضب. 

الثالث التغيير القطاعى وهو جزئى يركز على قطاع واحد أو مؤسسة بعينها ظناً بأنها ستنطلق لتغير باقي القطاعات والمؤسسات. 

والرابع التغيير التكميلى، ولا بأس به لأنه يبني على ما سبق فيضيف جديداً يدعم مسار تغيير سابق لكي يضمن عدم التراجع عنه. 

والخامس التغيير التحولى وهو عميق وشامل وصادق يستبدل الأفكار ويقلب التصرفات. هو حلمك القديم الذي لم تحققه ولا حققته أنا أيضاً.

وفي لمح البصر، هب الرجل الألفي واقفاً وبدأ يبتعد عن سمير. ثبت سمير في مكانه محاولاً استيعاب ما سمعه. لكن الرجل باغته بجملتين اضافيتين وهو يبتعد. انزعج سمير من الأولى وأرتعب من الثانية. قال في الأولى لا تنس يا سمير أن الطلب على التغيير في هذه الأرض طلب دولة أكثر مما هو طلب مجتمع. انزعج سمير لأنه أحس أن حلم الناس لا قيمة له وأن القيمة حصرياً في يد الممسكين بالزمام. ثم قال في الثانية ولا تنس يا بني أن منطقتنا كركوبة ومنكوبة لا نجح فيها تغيير من داخلها ولا تغيير فرض عليها من الخارج. وما بين انزعاجه من العبارة الأولى ورعبه من الثانية، أسند سمير ظهره إلى حائط مهدم لينفجر في نحيب لم يفق منه إلا عندما تساقطت فوق رأسه بعض الأحجار لينهض ماضياً في طريقه برأس مثخن بالجراح وعقل حائر وقلب جريح.
----------------------
بقلم: د. إبراهيم عرفات 

مقالات اخرى للكاتب

ياسمير.. انس التغيير