19 - 06 - 2024

مصر وقواها الناعمة المهدرة، مبادرة من أجل النهوض

مصر وقواها الناعمة المهدرة، مبادرة من أجل النهوض

تزايد الحديث مؤخراً عن قوة مصر الناعمة. وجاء تجدد الحديث في هذا الموضوع بعد مرور أكثر من عام على طلب تقدم به الدكتور أيمن محسب، عضو مجلس النواب عن حزب الوفد، لإجراء مناقشة عامة في المجلس حول تراجع القوة الناعمة المصرية، واستعراض جهود الدولة لإحياء الثقافة وإعادة تقديم مصر للعالم. 

أشار النائب في مذكرة إيضاحية، قدمها للمجلس، إلى اتجاه دول العالم المختلفة، بما في ذلك الدول الكبرى، إلى استخدام قوتها الناعمة، لما تتضمنه تلك القوة من مصادر أقل تكلفة وأكثر مرونة للضغط والتأثير في الدول الأخرى. والسبب في هذه الدعوة هو ما لاحظه النائب من تراجع ملحوظ في مصادر القوة الناعمة المصرية التي حددها في الأزهر، والفن المصري بكل أشكاله، لاسيما الفنون التي تشمل الدراما التلفزيونية والسينما والمسرح والموسيقى، وهي المصادر التي منحت مصر في فترات سابقة من تاريخها قدرة على التأثير في شعوب المنطقة، من خلال الثقافة. والهدف الذي حدده النائب لهذا النقاش هو البحث عن أسباب هذا التراجع من ناحية، ووضع آليات تمكن مصر من استعادة قوتها الناعمة، كركيزة من ركائز القوى الذكية التي يعتمد عليها العالم الآن، من ناحية أخرى.

ولم تُنشر أي تقارير تفيد بأن نواب الشعب انخرطوا في أي نقاش حول مسألة القوة الناعمة المصرية، وهل تراجعت بالفعل كما جاء في طلب النائب ومذكرته الإيضاحية، ولم يصدر أي رد فعل من النواب بخصوص الجدل المثار في وسائل الإعلام حول ما يتعرض له التراث الفني والثقافي المصري من عمليات سرقة ونهب منظمة، أو مساعي قوى إقليمية للاستحواذ على أصول ومقومات القوى الناعمة المصرية، بإغراءات مالية ضخمة، وكأن الموضوع لا يشكل خطورة على ركيزة من ركائز قوة المجتمع المصري وثرواته ومقدراته. كل ما شهدناه بعد مرور عام على هذه الدعوة، هو تقرير أصدره المركز الإعلامي لمجلس الوزراء المصري بعنوان "القوة الناعمة لمصر.. أين كنا وكيف أصبحنا". والتقرير المدعوم برسوم توضيحية، أشبه بمنشور دعائي للجهود التي بذلتها الدولة للارتقاء بمجالات القوة الناعمة على مدى ثماني سنوات، بمناسبة حدوث تقدم في ترتيب مصر على المؤشر العالمي القوة الناعمة لعام 2022، والذي تصدره مؤسسة "براند فاينانس" سنوياً، والذي استقبل بما يشبه احتفال بتأخرنا على هذا المؤشر وغيره من المؤشرات وعلى نحو يحول دون إجراء نقاش أوسع يستجلي الموقف وإجراء تقييم موضوعي للقوى الناعمة في مصر، وما الذي تعنيه تلك المؤشرات العالمية، وموقف النخبة المصرية من مسألة القوة الناعمة، على مستوى الإدراك وعلى مستوى السياسات العامة للدولة؟ وهل حقاً تشهد القوى الناعمة في مصر تراجعا مواكباً للتراجع العام في المؤشرات الأخرى للقوى وما العمل للنهوض بتلك القوى كي تستعيد مصر مكانتها ودورها، إقليمياً وعالمياً. 

القوة الناعمة: المفهوم والمؤشر

تحظى "القوة الناعمة" بأهمية كبيرة ومتزايدة في سياسات الدول خصوصاً مع التحولات التي يشهدها العالم مع الثورات العلمية والتكنولوجيا المتلاحقة، لاسيما أن هذه التحولات تُعيد تعريف مفهوم القوة بشكل عام، ومفهوم قوة الدولة على وجه التحديد، إذ أنها تُضيف أصولاً جديدة، معرفية ورمزية، للمجتمعات البشرية. وعلى الرغم من الملاحظات التي قد يبديها البعض على المصطلح، نظراً لشيوع تكراره في الخطاب الإعلامي والرسمي، بمناسبة أو بدون مناسبة، بات مفهوم "القوة الناعمة" من المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، في إطار سعي الدول المتزايد بحثا عن وسائل وأدوات للتأثير على الساحتين الدولية والإقليمية ولكسب تأييد الدول الأخرى، دون الاعتماد على أدوات القوة الخشنة، وأدواتها العسكرية أو الاقتصادية أو المالية، إذ تصبح القوة الناعمة بديلاً أكثر جدوى من ممارسة أسلوب الإكراه أوالرشوة لكسب تأييد الدول ودعمها، إذ تعتمد الدول عوضا عن ذلك على جاذبيتها وقدرتها على الإقناع. 

أتاح مفهوم “القوة الناعمة مساحات جديدة أمام دول العالم، بغض النظر عن قوتها المادية الاقتصادية والعسكرية وبغض النظر عن حجمها وثروتها. فمن الملاحظ أن جميع دول العالم أيدت اهتماماً كبيراً بهذا المفهوم، الذي راج بعد صدور كتاب عالم السياسة الأمريكي، جوزيف ناي، "القوة الناعمة"، في عام 2004، لانشغاله، هو وآخرين، بمسألة تراجع القوة الأمريكية، والبحث عن أدوات جديدة تتيح للولايات المتحدة مزيداً من القدرة على التأثير، وهناك من يلجأ إلى الاعتماد على أدوات "القوة الناعمة"، مثل الصين لتبديد مخاوف الجيران من تزايد قوتها العسكرية الخشنة، وقد لاحظ جوزيف ناي نفسه اهتمام الصين المتزايد بهذا البعد الجديد للقوة والمكانة منذ تسعينات القرن الماضي. وهناك أخيراً من الدول من يركز على أدوات القوة الناعمة بسبب محدودية مواردها التي تمكنها من التعويل على القوى الخشنة أو بسبب الاختلال الشديد بينها وبين المنافسين في موازين القوى الأخرى، بما في ذلك القوى الخشنة. 

وأثار المفهوم الذي طرحه ناي، ولاقى قبولاً من مفكرين آخرين، ومن دوائر أخرى، يشغلهم فشل الولايات المتحدة في مساعيها لأن تكون قوة عالمية عظمى، في كسب ترحيب شعوب العالم وتأييدهم لهذا الطموح، وتوصلهم إلى أن الاعتماد على القوة الخشنة وحدها لن يحقق للولايات المتحدة كسب "عقول وقلوب الشعوب" الأخرى وهو أمر جسدته ردود الأفعال العالمية على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي بددت جهودا كبيرة واستثمارات ضخمة في سبيل بناء القوة الخشنة، لخصها عالم السياسي الأمريكي إليوت. كوهين، في كتاب أصدره في عام 2016، وصدرت له ترجمة عربية في عام 2018 بعنوان "العصا الغليظة: حدود القوة الناعمة حتمية القوة العسكرية. غير أن كوهين نفسه وهو من المفكرين الاستراتيجيين البارزين في الولايات المتحدة، إذ يشغل منصب عميد كلية "بول إتش نيتز" للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جونز هوبكنز" في واشنطن، وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بالجامعة ذاتها لم يسقط تماماً أهمية القوة الناعمة كأداة من أدوات السياسة الخارجية، إذ أصبح للقوة الناعمة قيمة استراتيجية، وبدأ تيار ثالث في التفكير الاستراتيجي يتحدث عن مفهوم "القوة الذكية"، الذي يجمع بين خصائص للقوة الناعمة والقوة الخشنة معاً.  

ومع ظهور مؤشرات عالمية لترتيب الدول استنادا إلى مقومات وخصائص القوة الناعمة، اكتسب المفهوم قيمة استراتيجية أكبر وأصبحت الدول الحريصة على مكانتها وتأثيرها في العالم تهتم بمراقبة وضعها ومكانتها على هذه المؤشرات، واعتمد بناء هذه المؤشرات على الدراسات النظرية التي قدمها ناي وغيره، وبدأ النقاش يبتعد شيئا فشيئا عن الانشغال بالأولويات الأمريكية ويكتسب وضعا في النقاش العالمي وأولويات العمل الوطني في كثير من الدول التي بدأ كثير منها يولى اهتماماً متزايدا بالموارد والأصول الثقافية والقيم والتصورات والأفكار والتراث الحضاري والثقافي ويعيد توجيه النشاط الفردي والاجتماعي من منظور الإبداع والتميز والريادة، والعمل المؤسسي من أجل أن تكون طرفاً فاعلاٌ في الحوار العالمي. واتفق الباحثون في دول العالم على تعريف "القوة الناعمة"-  للدولة بأنها قوة روحيه ومعنوية تجسّد أموراً كثيرة، أهمها أفكار الدولة ومبادئها وقيمها وهويتها وإنجازاتها، بدءاً بالبنية التحتية، مروراً بالتاريخ والثقافة والفن، وحتى الرياضة وإنجازات كرة القدم. والغرض النهائي من تلك القوة، في أيّ دولة، هو فرض احترام شعوب العالم وإعجابها بها، وجذبهم إليها، والتأثير من أفكارها وثقافتها وقيمها، بسهولة ومن دون استخدام أيّ عنف أو قوة. والغرض هو تحقيق مصلحة الدولة وأهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية.

ليس هناك ما يدعو للاحتفال      

ليس من غير المستغرب أن تبدي مصر اهتماماً بمفهوم القوة الناعمة. فمصر جربت ما الذي تعنيه القوة الناعمة على مدى عقود من خلال نهضتها الفكرية التي وثقها الدكتور لويس عوض في كتابه تاريخ "الفكر المصري الحديث" بجزأيه. ويدرك من يقرأ هذا الكتاب أن مصر كانت، منذ مطلع القرن العشرين، وظلت لعقود طويلة، واحة للفكر والثقافة ومنارة للتقدم في المنطقة، وكانت منفتحة على مشروع الحداثة الأوروبي. ووصلت مصر إلى هذا الوضع نتيجة لطريقة استجابتها لصدمة الحداثة التي تعرضت لها أثناء الحملة الفرنسية (1798-1801)، والتي تمثلت في مشروع بناء الدولة الحديثة، الذي بدأه محمد علي وأبناؤه في مطلع القرن التاسع عشر. وظلت مصر في هذه المكانة حتى نهاية السبعينات، قبل أن تتراجع مكانتها الثقافية ويتراجع دورها نتيجة لعوامل كثيرة تناولتها كثير من البحوث والدراسات، لكنها ركزت على المؤثرات الخارجية التي أدت إلى تراجع هذا الدور وتلك المكانة ولم تفتش كثيراً في أسبابه الداخلية، التي يأتي في مقدمتها تخلي مصر عن مشروع الحداثة لصالح مشروع التحديث بدءاً من خمسينيات القرن العشرين، بتأثير الصدام مع أوروبا وميراثها الاستعماري في المنطقة. 

وشهدت مكانة مصر ودورها تراجعاً نسبياً، نتيجة لمشاريع التحديث في المجتمعات العربية المحيطة والتي أفرزت نخبا طموحة تسعى لرفع مكانة مجتمعاتها وتأثيرها إقليمياً وعالمياً، ولم يمثل هذا الأمر مشكلة لمصر على الإطلاق، وهي التي لعبت دوراً رائدا في هذه النهضة بحكم وضعها ومكانتها. ولعلنا نتذكر مساهمة النخبة المتعلمة والنخبة الثقافية والفكرية من المصريين الذين كانوا جزءاً فاعلاً في ملحمة بناء المجتمعات الحديثة في دول الخليج العربية التي نالت استقلالها في مطلع السبعينات، وفي دول عربية أخرى. وفعلت النخبة المصرية ذلك بمنتهى الإخلاص، لإيمانها الراسخ بأهمية وضرورة أن تكون محاطة بمجتمعات عربية حديثة وقوية لاستكمال مشروع الاستقلال والنهضة في المنطقة. لكن ثمار هذه التجربة لم تكن كلها حلوة وكانت هناك ثمار مرة، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى تخلي مصر عن مشروع الحداثة وحذف الدائرة المتوسطية من دوائر التفاعل والتأثير، بعد أن كانت الدائرة الأولى في مشروع النخبة المصرية والذي عبر عنه كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين. 

نعود لمفهوم "القوة الناعمة"، وجوهرها الثقافي، الذي تعرض لكثير من التشويه نتيجة دخول عدد من الهيئات والشركات في لعبة بناء مؤشر لقياس القوة الناعمة الأمر الذي أبعدنا كثيراً عن جوهر الفكرة ومقوماتها، ودفع كثير من الدول إلى الاهتمام بمشاريع تتعلق ببناء الصورة الذهنية والتسويق التجاري من خلال بناء علامات تجارية للدول قابلة للتسويق، الأمر الذي أحدث تحولاً في مفهوم القوة الناعمة بعيداٌ عن فكرة الثقافة والفكر والتركيز على بعض المتغيرات التي لا تكلف الأمم كثيراً لرفع تصنيفها وفق هذا المؤشر عبر برامج للدعاية والتسويق لا تعكس حقيقة الموقف وتخفي كثيراً من أوجه الضعف. ومن المؤسف حقاً، أن بعض الإعلاميين والكتاب يبالغون في الاحتفال بتحرك مصر درجة أو درجتين على هذا المؤشر أو ذاك من المؤشرات العالمية للقوة الناعمة، والأكثر أسفاً أن أحداً لا يلتفت كثيراً لحقيقة التراجع، حتى وفق هذه المؤشرات التي لا تتعامل مع المقومات الحقيقة للقوة الناعمة، وتكتفي بصنع مكانة زائفة لا تستحقها هذه الدولة أو تلك، ولا تهتم بالتالي بالمقومات الحقيقية لهذه المكانة وهذا الدور.

لنأخذ مثالاً كاشفاً من واقع تعامل البعض في مصر مع التقدم الذي حققته في عام 2021، وفق مؤشر مؤسسة "براند فاينانس" البريطانية المشار إليه. وبداية تجدر الإشارة إلى أن تصنيف مصر وفق هذا المؤشر لا يجب أن يكون سببا للبهجة أو باعثاً للارتياح لوضع مصر أو مكانتها وفق هذا المؤشر، وبغض النظر عن تحفظاتنا عليه. فالأخطر أن صحيفة مصرية قومية تعاملت مع تراجع مصر أربع درجات على المؤشر في تقرير عام 2024، باعتباره إنجازاً كبيراٌ، ، إذ تراجعت إلى الترتيب الثامن والثلاثين مقارنة بترتيبها في عام 2021. بينما عبرت دولة مثل الهند عن انزعاجها الشديد لتراجعها درجة واحدة إلى الترتيب 28 في التقرير ذاته، وهو أمر لافت فيما يخص ما وصل إليه حال تراجع القوة الناعمة لمصر في العقود القليلة الماضية، وهو أمر يشير إلى إصرار من جانب المتصدرين للمشهد الإعلامي والسياسي في مصر على تجنب هذه القضية والبحث عن أسباب تعين على تقديم حلول تخرجنا من حالة التراجع والتدهور وتضعنا على بداية طريق النهضة.    

نأخذ مثلا آخر مما كتبه السفير الدكتور محمد أنيس سالم، وهو سفير سابق، ومنسق مجموعة عمل الأمم المتحدة في المجلس المصري للشئون الخارجية، في مقال على موقع مركز معلومات مجلس الوزراء بمناسبة صعود مصر في تقرير "براند فاينانس" لعام 2021. ويرى السفير أنه لا توجد مفاجآت فـي عناصر القوة التي رفعت ترتيب مصر وفـق مؤشر عام 2021، مشيراً إلى جانب مهم من جوانب تكوين الصورة العامة، فـي الحالة المصرية، حيث تحظى مصر بداية بوضع متقدم من حيث تقديرات مدى المعرفة بمصر، فكثير من المتعلمين في البلدان الغربية وفي كثير من دول العالم درس تاريخ مصر فـي مرحلة الدراسة الأساسية، وبالتالي ترتفع نسبة التعرف عليها، والاعتراف بمكانة حضارتها القديمة، ويرتبط بذلك تقدير تراث مصر وثقافتها. لكن الأهم أن السفير أشار في مقاله إلى عناصر أخرى يتواضع فـيها تقدير وضع مصر على المؤشر ذاته، مثل قدرة مصر على التأثير فـي الدول الأخرى، وسهولة ممارسة الأعمال، والحوكمة، والإعلام، والتعليم والبحث العلمي. 

ويمكن تطوير هذا الطرح من خلال الاقتراح الوارد في المقال بالعمل على وضع استراتيجية لتنمية القوة الناعمة المصرية وإنشاء هيئة مستقلة للتنسيق والمتابعة والتقييم. وخلاصة قول السفير أننا بحاجة إلى قراءة أكثر تدقيقا وتمحيصا للتقرير ولعناصر المؤشر، وضرورة الاهتمام بإمكانات المقومات المصرية في مؤشر القوة الناعمة. فمصر تتمتع بعناصر قوة تاريخية، ولها تأثير ثقافـي وحضاري واسع، ولديها الإمكانات والفرص لتحقيق مزيد من التقدم في عالم يزداد تعقيداً ويشهد تحولات سريعة في كثير من المجالات، عبر ثورات تقنية وتنظيمية وفكرية، ثم إن مصر تعتمد على تفاعلات مع العالم الخارجي (حركة السياحة، تبادل تجاري، تحويلات المصريين بالخارج، قناة السويس) وتتصل كلها بصورتها وتأثير قوتها الناعمة، ومن ثمّ فإن الاستثمار فـي مجالات القوة الناعمة هو استراتيجية رابحة لمصر خلال السنوات القادمة.

ولا يمكن توظيف هذه الإمكانات والقدرات إلا بتقييم دقيق للوضع الراهن من حيث مقومات النفوذ المصري الإقليمي والدولي، بشكل عام، ومقومات هذا النفوذ، وكان طلب مناقشة موضوع التراجع فرصة لإجراء هذا التقييم الضروري، لا سيما أن التراجع واقع لا يمكن لعين أي مراقب أن تغفله، ويرصده كثير من المراقبين المهمومين بضرورة تغيير هذا الواقع. 

مؤشرات التراجع وضرورة مبادرة للنهوض   

من يتابع المشهد الثقافي المصري في السنوات القليلة الماضية، لا بد وان يلحظ مؤشرات كثيرة لتحولات نجمت عن سياسات تتبعها قوى إقليمية طامحة لإزاحة مصر عن مكانتها وموقعها الإقليمي من خلال الاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من تراثها الثقافي والفكري والحضاري واستغلاله تجارياً، ونقل ما يمكن نقله من هذا التراث، وتشويه أو تدمير ما يتعذر الاستيلاء عليه وهو كثير لا ينضب. 

كثير من المقالات والتقارير التي حاولت تحديد الأسباب التي ساهمت في انسحاب القوة الناعمة المصرية وتراجعها. فموسيقياً، يلاحظ البعض سياسات ممنهجة لاستيعاب الملحنين والفرق الموسيقية لدعم الثقافة الشعبية الخليجية، وقيام بعض الشركات بتوقيع عقود احتكار مع بعض المطربين والملحنين المصريين في مقابل أجور ضخمة. ومن ذلك أيضاً، تورط بعض القنوات الفضائية - في إطار سياسة محدَّدة – في شراء أغلبية ميراث السينما المصرية، واحتكار بثه تلفزيونياً عبر قنوات فضائية، ولا يقتصر الأمر على الثقافة والفن وإنما يشمل أيضاً الرياضة، وامتد التراجع ليشمل مؤسسات كبرى، مثل الأزهر الشريف الذي تطمح القوى الإقليمية لاستقطابه بما يخدم توجهاتها وسياساتها على النحو الذي شهدناه في مرحلة سابقة من جهود للسلفية الوهابية وما نشهده الآن من محاولات لتغيير وجهته بما يخدم توجهات هذه القوى، نظراً لمكانة المؤسسة، إذ يعد الأزهر في نظرالكثيرين المرجع الأعلى للمسلمين ووجهة لاهتمام معظم الدوائر الأكاديمية العالمية، وهو ركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة المصرية.

إن الإشكالية الأساسية التي تطرحها مسألة "القوة الناعمة" إنما تتمثل في الشروط التي ينبغي توافرها للنهوض بهذه القوى وتفعيلها وتحويلها إلى أصل من أصول قوة مصرية، وتتمثل هذه الإشكالية في أنها استثمار طويل الأجل وغير مجز تجارياً في الأمد القصير أو المنظور، الأمر الذي يتطلب مبادرات من نوع جديد، وهي مبادرات مجتمعية بالأساس، ونضال من أجل تغيير المناخ العام السائد واستبداله بمناخ عام بديل يدعم مشروع المبدع والمفكر المصري، والذي يمتلك ناصية قوة مصر الناعمة، بل والذكية، ويطور أدواتها، وهو مناخ كامل لحرية الإبداع وحرية التنظيم والنشاط من دون أيّ قيود فكرية أو فقهية أو سياسية، فالأمر يتطلّب أيضاً ضرورة منح المجتمع المدني الفرصةَ كاملةً في تشجيع الفن والثقافة ودعمهما. إن الأمر يتطلب مبادرة وطنية للنهوض بقوى مصر الناعمة تنخرط فيها شخصيات عامة ومؤسسات ثقافية وفكرية وجامعات ومؤسسات أكاديمية وبحثية يكون شعار "قوتنا في ثقافتنا" ويعيد تأكيد دور مصر ورسالتها العالمية.
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان