19 - 06 - 2024

عزيزي المثقف.. اتنيل

عزيزي المثقف.. اتنيل

    عزيزي المثقف...اتنيل. نعم اتنيل. "ألف" و"تاء"و "نون"و "ياء"و"لام." ولا أخجل من أن أقول لك اتنيل على عينك كمان. وهذه ليست شتيمة أو سخرية أو تحقيرا. أبسوليوتلي. على العكس. هي دعوة كريمة مني إليك لأني أحبك وأشفق عليك. أوجهها لك بحكم أني متنيل مخضرم يُدرك أن "المتنيل" بستين نيلة هو الاختيار الباقي لي ولك ولأمثالنا ممن طرقوا باب الثقافة فطرقت أبواب الدنيا بعنف على رؤوسهم. التنيل يا صديقي للجدعان وللمثقف هو أعلى درجات الأمان. 

ألا تلاحظ أن عدد المثقفين المتنيلين يزداد؟ ألا تلحظ لو دققت في حالك أنك متنيل؟ أنا مثلاً، وأقولها على رؤوس الأشهاد، متنيل على الأخر. أعلن ذلك ولا أكابر أو أخجل. متنيل لأني لم أصنع فارقاً. متنيل لأن البزنس غلب الثقافة ولأني عشت فلا حصلت بيزنس ولا حميت ثقافة. متنيل لأن الراقصة أغنى من الكاتب، ولأن ألف مثقف أفقر من أي لاعب. ومتنيل لأن "شكوكو" كسب معركة الشهرة أمام عباس العقاد. ومتنيل لأن إنتاج المثقفين أقل قيمة عند الناس من انتاج كنتاكي. 

ولم أعد أشعر بالكسوف من نيلتي وقلة حيلتي لأني بصراحة بت أتدفأ وسط إخوتي المثقفين المتنيلين. فتعالى يا عزيزي المثقف واتنيل معنا. لا تعاند. أقبل وصف معنا هنا بجانب إخوتك وسنرحب جميعنا بك. صدقني "التنيل" لذيذ وقيّم برغم صعوبته في البداية. سوف تشعر وسط أمثالك من المثقفين المتنيلين بالأمان لأنهم يشبهونك. صحيح أنهم عجزة لكنهم يشبهون بعضهم ويفهمون بعضهم ويعرفون تماماً ما جرى لهم ومعهم. يعرفون ويعترفون بأن أحلامهم ماتت وأرزاقهم ضاقت، وقيمتهم توارت. كانوا يحلمون بالأفضل. ثم خابوا خيبة ثقيلة، فلا الناس صدقتهم ولا الحكومات رحمتهم. لهذا لم يكن أمامهم إلا أن يتنيلوا وييأسوا ويسكتوا. والآن لم يعد أمام كل مثقف متنيل إلا أن يعيش وسط جمع كبير من المثقفين المتنيلين أمثاله، فذلك افضل من أن يتنيل لوحده. والحق أقوله لك عزيزي المثقف وهو أن مجتمع المتنيلين ثقافياً مسلي جداً. فيه كل الجنسيات وكل النظريات وكل الحكايات. مجتمع مبيعملش حاجة غير أنه يسلي نفسه وهو بيقضّي أخر أيامه. الكل فيه بيطق حنك. 

أنا متنيل قديم. أعترف بذلك ولا أخجل. واسمح لي أن أدعوك لأن تعلن عن نيلتك وألا تكابر. قل لي: هل لصوتك قيمة؟ هل لقلمك قيمة؟ هل لفكرك قيمة؟ هل لمحاضرتك قيمة؟ هل لوجودك قيمة؟ هل لمقالتك قيمة؟ متزعلشي. أنا صريح. كل المؤتمرات التي شاركت حضرتك فيها وكل التغطيات الصحفية التي كُتبت عنك وكل المقالات التي نُشرت فيها صورتك، كل هذا وغيره لا يجعل لك في حياة مليئة بالعبث والتفاهة أي معنى أو قيمة. لا أحد يسمعك. المجتمع ضربك في مقتل لأنه مثلك متنيل أكثر. الناس يا ولداه مشغولة بلقمة العيش من الصبح للمسا. ليسوا على استعداد لكي يخوضوا معك أو لأجلك معركة الوعي كما تحلم.

والأصعب من الناس السلطة. فهي بمنتهى الصراحة لا تثق فيك ولا تحبك ولا تحترمك. تستعملك كما تستعمل المرأة أحمر الشفاه. تُجمّل بك صورتها فتضعك في العلن عندما تريد أن تأخذ اللقطة أمام العالم لتتجمل، ثم تغسلك وتمسحك مسحاً قبل أن تخلد للنوم. تقصف قلمك، وتوقف مقالك، وتقطع راتبك، وتفصلك عن عملك، وتفعل بك ما تشاء. ألا يجعلك ذلك متنيلا؟

ماذا عساك أن تفعل غير أن تتنيل عندما تسأل نفسك قائلاً: يا ربي هل بعد كل هذه السنوات من التعب والعرق والأرق والسهر أحصّل فيها العلم وأكسب المعرفة ينتهي بي الحال هكذا مهمشاً مزوياً ليس أكثر من حبر على ورق؟ اعترف: أليس هذا هو حالك؟ لا تكذب. فأنت متنيل لألف سبب، ولأنك أيضاً وببساطة شديدة تعيش وسط بيئة منيلة. لا المجتمع من تحتك مستعد لأن ينقذك إن سقطت، ولا الدولة فوقك ترغب في انتشالك لو تعثرت. ولأنك تائه وحائر وعالق ومعذب، فأنت إذن متنيل. تقرأ وتبحث وتكتب وتحاور وتسافر وتحاضر وتنشر لكنك برغم ذلك كله لا تبني معرفة أو تحل مشكلة أو تغير قضية. كل قضاياك خسرتها.  التنمية والديمقراطية والحرية والجدية والاستقلالية فشلت فيها كلها. أليس كذلك؟  أنت عزيزي المثقف من نسل سلسلة طويلة من المثقفين المتنيلين والمعذبين ممن عاشوا محناً لا تقل عن محنتك. يكاد تاريخ المثقفين في منطقتنا أن يكون تاريخ المتنيلين. 

أنت يا رجل تثقف نفسك لنفسك. وهذا وحده سبب كاف يجعلك متنيلا. فالفكر للفكر هو قمة التنيل. هو العدمية بعينها، لأن الفكر يجب أن يكون للناس وللغد وللأفضل وللحرية وللقوة وللتغيير. أما عندما يختنق ويموت في عقل صاحبه فلا ينطق ولا يكون له صدىً في المجال العام فلا يسمى فكراً ولن يزيد عن أوهام متنيلة صاحبها بالمثل فاشل ومتنيل. 

يا عزيزي لا تكابر فكلنا متنيلين، الصحفي وأستاذ الجامعة والكاتب والشاعر والأديب. كلنا يكد نعم ويثابر نعم ربما لأننا ما زلنا نملك أملاً زائفاً في الكلمة والفكرة وأنهما ستنجحان يوماً في أن تكون لهما قيمة وأثراً. لكننا متوهمون. فالنيلة يا عزيزي عامة ولم تعد خاصة، ليست فقط نيلتنا كمثقفين وإنما نيلة حضارة وأمة ومنطقة بأكملها. لذا وبعد أن شاب الرأس كان لا بد عليّ أن أقنع بحالي ولا أكابر، وأن أعترف أمامك بأني متنيل على الآخر. ولهذا وبكل صدق أدعوك لأن تقف معي لكي نتنيل نيلة جماعية. صدقني سنكون أفضل ونحن معاً كبنيان مرصوص من المتنيلين. 

عزيزي المثقف: اتنيل ولا تبالي. اتنيل ولا ترفض. والله لو تأسست اليوم جمعية عربية للمثقفين المتنيلين فسوف تعجب من حجمها ومن قدرتها على جذب مئات الألوف في ساعات قليلة. التنيل يا عزيزي المثقف هي الوسيلة المتبقية اليوم أمامك لكي تتأسف على حالك وحالي وحال الثقافة والفكر. فتعالى بكل حب وود واصطف جانبي علشان نيلتك ونيلتي يواسيان بعضهما ويفضفضان لبعضهما. لقد سبقتك وتنيلت. وأنا في انتظارك. 
----------------------------
بقلم: د. إبراهيم عرفات *
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

مقالات اخرى للكاتب

ياسمير.. انس التغيير





اعلان