يكاد المحللون لمآلات الأوضاع في منطقتنا العربية يجمعون على أن تصرفات الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" تصب كلها في تحقيق حلم نظرية الفوضى الخلاقة أو إحياء اتفاقية "سايكس بيكو " التي وقعها كل من الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني السير مارك سايكس سنة 1916 والتي بموجبها تقاسمت المملكة المتحدة وفرنسا مناطق النفوذ في الهلال الخصيب وبقية بلدان المنطقة العربية الممتدة من موريتانيا غربا إلى سواحل سلطنة عمان شرقا بعد أفول نجم الخلافة العثمانية التي كانت آخر خيط ناظم للأمة الإسلامية.
فبعد حركات التحرر في الوطن العربي وإسهامها في سقوط الخلافة العثمانية وجدت الشعوب العربية نفسها أسيرة لاستعمار غاشم من طرف بريطانيا وفرنسا اللتين مارستا ضد الشعوب العربية أنواعا من البطش والتنكيل ونهب الثروات ما تفوقا به على بعض الممارسات العثمانية التي يرى المؤرخون أنها كانت " ألعابا وتسالي" مقارنة مع ممارسات الاحتلالين الانجليزي الفرنسي، حيث واصلت الشعوب العربية نضالها للتخلص من نير الاستعمار وهو ما نجحت فيها مثنى وفرادى، لكن بعد أن قسمت الاتفاقية المشؤومة الوطن العربي وحولته من أقاليم إلى دول بات لزاما على كل واحدة منها التصرف بطريقتها للنهوض بعد الاستعمار، وشاءت الأقدار أن يكون صعود نجم القوتين العظميين أميركا والاتحاد السوفيتي دافعا قويا مكَّن الشعوب العربية من الحصول على استقلالها من جهة ومؤذنا بأفول قوة فرنسا وبريطانيا وجبارهما على التخلي عن مستعمراتهما واحدة بعد أخرى.
لكن قبل مغادرتهم تركوا العالم العربي في وضعية لا يحسد عليها، نتيجة لتقسيم الدول والأقاليم، وهو ما كان دافعا قويا لقادة التحرر إلى تشكيل الجامعة العربية ليكون للعرب إطارهم الجامع الذي يستأنسون به ويجدون في عزاء لتشتتهم السياسي والجغرافي والاقتصادي، حيث تنفست الشعوب الصعداء وظنت أن الوطن العربي لن يشهد تقسيما بعد اتفاقية سايكس بيكو، لأنها قسمت المقسم، ولم يبق بعدها من شيء يمكن تقسيمه سوى تجزئة المجزأ.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور الولايات المتحدة الأميركية كقطب دولي وحيد وجد المحافظون الجدد واللوبي الصهيوني العالمي الفرصة مواتية لإعادة رسم الخريطة العالمية –خصوصا منطقتنا- وبدءوا يخططون لتحقيق هذا الحلم بقوة السلاح والاقتصاد الأميركيين الذين ورثهما بوش الابن من بيل كلنتون الذي تعتبر فترته الرئاسية من أزهى عصور الاقتصاد الاميركي، لذا وجد المحافظون الجدد الأرضية مناسبة لتحقيق حلمهم في تجزئة المجزأ من منطقتنا، وظهر ذلك جليا في تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليزا رايس عندما قالت أثناء اشتداد العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان إن المنطقة تشهد آلام المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد عن طريق "الفوضى الخلاقة".
يومها تساءل المراقبون عن أدوات هذه الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها رايس، ولم يدر في خلد أحد من المراقبين أن جزءا من العرب والمسلمين سيكون أحد الأدوات لتطبيق نظرية الفوضى الخلاقة ، إن لم يكن أهم تلك الأدوات، فمنظمة القاعدة ومشتقاتها من داعش وبوكو حرام، وجماعة الدعوة والقتال في المغرب العربي، والقاعدة في جزيرة العرب، والشباب المجاهدون في الصومال، كلها تلعب اليوم –بوعي أو بدونه- دورا مفصليا في ترسيخ سايكس بيكو جديد في منطقتنا يجعلها مقبلة على مزيد من الحروب والفوضى وتمزيق الوطن الواحد بعد ما عجزت الآلة العسكرية الأميركية والإسرائيلية عن تحقيق ذلك عبر احتلال أفغانستان والعراق، وشن إسرائيل حروبا مدمرة على كل من لبنان وغزة وسوريا، وطالت ضرباتها السودان وغيرها.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي لتزيد اتساع الخرق على راقعه، فلم تكد أدوات المستعمر وبيادقه تسقط حتى دخلت نفس الجماعات على الخط لتشوش على ثورات الشعوب العربية وتخلط الأوراق، بعد أن استبشرت الشعوب العربية خيرا بقرب قيام السوق العربية المشتركة، والعمل على ترسيخ ثقافة الماضي المشترك والمصير الواحد الذي تعززه روابط الأخوة في الدين والنسب واللغة.
بناء على ما تقدم، وعودا على بدء هل تعتبر داعش أداة لترسيخ اتفاقية سايكس بيكو؟ ذلك ما سيتضح أكثر في قابل الأيام إذا استمر وضع المنقطة على هذه الحالة من الفوضى، ودفن الرؤوس في الرمال كالنعامة حتى يصحوَ الجميع على تقسيم آخر الدول العربية الأكثر كثافة ديمغرافيا، والأكبر مساحة جغرافيا.
The post هل تساهم “داعش” في تغيير خريطة المنطقة وفرض سايكس بيكو جديدة ؟ appeared first on IslamOnline اسلام اون لاين.