ركبت آلة الزمن وعدت الى الوراء ستة عقود كاملة.. مازالت المشاهد تتراقص أمامى .. المشهد الأول أمى وأخواتى البنات ومعهن جارتنا النوبية أبلة نعيمة عوضين وجارتنا فتحية الشامية يتحلقن حول الطبلية فى الصالة (لم يكن مصطلح ريسبشن قد برز بعد) لصنع كحك العيد وينهمكن فى نقش الكحك والبسكويت ورصه فى الصاجات سوداء اللون.. وكنت كصبى ومشروع رجل من المكلفين بحمل الصاجات إلى الفرن مع توصية مشددة بكتابة الاسم على طرف الصاج بالطباشير الأبيض حتى لا يختلط كحكنا بكحك الآخرين، والذى لا نعرف هل معجون بالسمن البلدي مثل كحكنا أم لا؟.
المشهد الثانى ليلة العيد نتوجه إلى أحد محلات الحلاقة فى حارة السقايين وكان أشهرها صالون عم فتحى وصالون عم عياد والاثنان من أصحاب المزاج العالى والاثنان أولاد نكتة.. كانت الحلاقة وقتها ببضعة قروش.. وعند العودة للمنزل بعد عدة ساعات انتظار لدورنا فى الصالون تكون (حماية العيد) حيث يكون الحمام جاهزا والمياه فوق وابور الجاز وكوز الليف والصابونة أم رائحة.
فى صبيحة يوم العيد نتوجه إلى مسجد سيدي الحنفى على مقربة من شارع مجلس الأمة أو مسجد المتبولى على مقربة من قصر عابدين لأداء صلاة العيد.. وعند العودة يكون فى انتظارنا طبق الكحك والبسكويت والغريبة والشاي بلبن والترمس والحلبة.
نرتدي ملابس العيد الجديدة التى اشتراها لنا أبى من عمر افندي شارع عبدالعزيز أو محل بيع المصنوعات بالاستمارة التى كانت تصرف للعاملين فى الدولة وتمكنهم من شراء ما يحتاجونه مع خصم قيمة مشترواتهم من المرتب الشهري بالتقسيط المريح.
كانت الفرحة الكبري بتلقى (العيدية) ولم تكن فى ستينيات القرن الماضى تزيد بحال من الأحوال عن الـ٥٠ قرشا أما المحظوظ جدا جدا فتقترب عيديته من الجنيه.
كانت عيدية القروش هذه تكفى للاستمتاع بقالب شيكولاته كورونا وباكو لبان إيكا وزجاجة اسباتس أو سينالكو، وتأجير عجلة أم ثلاثة من عم رزة فى شارع مؤنس أفندي وركوب مراجيح عم عياد بجوار حائط كنيسة الملاك غبريال رئيس الملائكة.
كنا نتوجه كأطفال حارة السقايين وعابدين إلى حديقة الحرية أو حديقة الأندلس أو حديقة الحيوان ونقضى معظم النهار.. وفى المساء نتوجه إما إلى سينما الشرق أو سينما الحلمية أو سينما ستار أو سينما حديقة ريو للاستمتاع بثلاثة أفلام فى بروجرام واحد نظير ثلاثة قروش ونصف قرش للصالة وقرشين ونصف قرش للترسو.
ومازال صوت أمى يرن فى أذني، وهى تطلب منى توصيل أطباق الكحك إلى جيراننا خالتى نبوية وخالتى أم على وخالتى أم وديع عياد وصديقى نبيل عياد.
أتذكر جيدا أننا كنا نقفز فى الهواء فرحا عندما يزف لنا الراديو أن العيد بكرة، فوقتها لم تكن الحسابات الفلكية قد تقدمت وكان الاعتماد على الرؤية المباشرة لتحديد أول أيام رمضان وأول أيام العيد.
وأتذكر جيدا زيارات الجيران والأهل للتهنئة بالعيد ووقتها كانت الضيوف تأتي بلا إذن مسبق وبلا تليفون أرضي (كان شحيحا جدا) أو تليفون محمول (لم يكن قد اخترع بعد)
وقتها كانت الحياة بسيطة جدا .. لم يكن يشغل بالنا سعر الدولار ولا سعر الفائدة ولا حجم الدين الداخلى والدين الخارجى.. وقتها كنا نصنع الفرحة ونستجلب السعادة بأقل الإمكانيات.. أدعو الله أن يسعد أحفادنا وأطفال هذا الزمن بقدر ما سعدنا نحن أطفال ستينيات القرن العشرين.. وأدعو الله أن يمن على أطفال غزة بساعات من الهدوء والأمان وأن يستيقظ الضمير العالمى ليدرك أن من حق أطفال غزة أن يفرحوا بالعيد ويلعبوا ويمرحوا مثل كل أطفال العالم.
-------------------------
بقلم: عبدالغني عجاج