جعلت قلبي يهفو دوما للقاء
وإذا ذكـرت يا حبيبي أطـيب
تعود تجليات الإنشاد الديني في مصر إلى بداية القرن الـ 20؛ وتتجلى روعة الإنشاد الديني الذي يبدأ بمحبة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبة آل بيته الأطهار، في كونه محببا للعديد من طبقات المجتمع، وتنشط ليالي إنشاد قصائد المديح النبوي في ليالي رمضان المبارك، حيث تتوالى مشاركة كبار المنشدين بإحياء الليالي الرمضانية التي تعد السهرة الروحية المفضلة لدى المصريين في هذا الشهر الكريم عقب آذان المغرب وقبل حلول موعد صلاة فجر يوم رمضاني جديد..
أصبح هذا المنشد الصعيدي الورع بين فجر يوم وضحاه، نجما لامعا ومحبوبا لملايين المتابعين بين شرائح متعددة، فالبسطاء المريدون يتنقلون معه إلى الموالد والسرادقات في المناسبات الدينية في ربوع مصر بمدنها وقراها ومحافظاتها المختلفة، فيما يدعوه الأثرياء إلى قصورهم تبركا بمناسباتهم الخاصة..
الشيخ ياسين التهامي متعه الله بالصحة وطول العمر، أصبح صاحب مدرسة في الإنشاد الديني، لم يفقد حماسه ولا طربه مع أكثر من نصف قرن من الإنشاد، أي من عصر الكاسيت إلى عصر الوسائط السمعية الرقمية، فهو من مواليد 6 ديسمبر 1949، عمل بالانشاد الديني المتصوف؛ فأصبح من نجوم الصف الأول وملأ فراغا كبيرا بعد غياب نجومه، تميز التهامي صوتا وآداء وابتكارا وحضورا طاغيا، بزغ نجمه منذ منتصف السبعينيات كمنشد ديني متمكن منافسا بذلك أستاذه ومعلمه الشيخ أحمد التوني أحد سادة هذا اللون من الفن في صعيد مصر، استطاع الشيخ ياسين التربع على عرش الإنشاد لمدة تقترب من نصف قرن ولايزال يمنح محبيه قصائده حتى اليوم، استطاع الشيخ ياسين التطوير والتنويع في آداء فن الإنشاد الديني المتصوف من الأسلوب الدارج والكلمات العامية إلى صقله بأرقى وأصعب ألوان الشعر الصوفي الفصيح لرواد الشعراء تماما على نهج قطبي الغناء: أم كلثوم وعبد الوهاب، كما يتمتع الشيخ ياسين بحرفية موسيقية عالية، وتنقل سلس بين المقامات فيتلاعب بقلوب العاشقين.
من قرية الحواتكة جاء مولده وصباه، وهي إحدى قرى مركز منفلوط الكبيرة ، يتميز أهلها بالتراحم والتعاون ومحبة آل البيت، وإن اختلفت مهنهم وأعمالهم ومستوياتهم المادية، حيث يعمل معظم أهلها بالزراعة والصناعة منذ عشرات السنين كما ذكر علي مبارك في الخطط التوفيقية عند خديثه عن هذه القرية؛ فقد قال عنها علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية: "هي قرية كبيرة من مديرية أسيوط بقسم منفلوط ، تقع على الشاطئ الغربي للنيل في شرقي الإبراهيمية في جنوب منفلوط بأقل من ساعة ـ بوسائل مواصلات الزمن الماضي البدائية ـ، وأبنيتها من أحسن الأبنية الريفية ، وفيها قصور مشيدة وبها نخيل وأشجار وجنات وأطيانها جيدة المحصول"، وهذا ما يسر لأبناء القرية فرص إقامة وإحياء المناسبات ـ والملاحظة من عندنا ـ نشأ التهامي في بيت ديني وعائلة يتمسك أهلها بالتدين، أهم نجوم هذه العائلة هو والد الشيخ الذي كان من العارفين بالله العابدين، ومن الزهاد بشهادة أهل القرية، كان لهذا الجو الديني تأثير عميق في نفس التهامي؛ فقد نشأ وتربى في جو يسوده التدين وحب المديح لآل البيت، وذلك من خلال الأمسيات التي كان يقيمها والده في المناسبات الدينية، وكان بديهيا أن ينخرط التهامي في الدراسة الأزهرية قبل أن ينقطع لظروف لا نعلمها ولكن بعد أن تأصلت بداخله النزعة الدينية والوله بالشعر الصوفي والشعراء أمثال : عمر بن الفارض، والحلاج، والسهروردي، ومحيي الدين بن عربي، وغيرهم من أقطاب الصوفية، لكل ذلك فإن ياسين التهامي أصبح ظاهرة فريدة في عالم الإنشاد الديني، لدرجة أن تقول عنه الصحافة الأسبانية "ياسين العظيم ظاهرة الشرق"!
وصفه البعض بأنه "يصدح بصوت العشق والهوى ويغرد للأرواح العطشى للرحيل خلف صبابة الحب الإلهي"، ومن دواعي عبقريته أنه سلك مسلكا مختلفا عن معلمه الشيخ أحمد التوني ، ليصبح نهجه هو السهل الممتنع ليكون صاحب مدرسة جديدة ومختلفة تماما للإنشاد الديني في مصر، وقد وهب التهامي حياته وجل عمره إلى جوار أضرحة آل البيت رضي الله عنهم في جو معطر بالذكر والنفحات الصوفية ليهب إبنه فيما بعد لخدمة آل البيت ولفن الإنشاد الديني والمديح النبوي، ولكن بعد أن مهد له طريق العلم، حيث درس نجله المقامات في كلية التربية الموسيقية، كما أتقن بحور الشعر العربي ولكن من دون أن ينافس الشيخ الأب على عرش المداحين، الذاكرين، ومن حوله ملايين الأحباب والمريدين، وإليكم مذهب أروع قصائده الصوفية على الإطلاق من وجهة نظر شخصية: "أكاد من فرط الجمال أذوب":
أكادُ من فرط الجمال أذوب/
هل يا حبيب في رضاك نصـيب
جعلت قلبي يهفو دوما للقاء
وإذا ذكـرت يا حبيبي أطـيب
بمجرد الأذكار قلبي هائم
هل فؤادي عنك قط يغـيب