27 - 04 - 2024

حرب غزة 2023.. النزوح الصامت ومعركة خان يونس وتوسيع الحرب إلى رفح

حرب غزة 2023.. النزوح الصامت ومعركة خان يونس وتوسيع الحرب إلى رفح

لا يبدو أن هناك نهاية في الأفق للحرب في غزة، فالمعارك لا تزال دائرة وبشراسة في خان يونس، وتتخللها هجمات إسرائيلية متواصلة على أهداف في رفح مع استمرار التلويح بغزو بري لرفح بزعم القضاء على حماس وفصائل المقاومة التي لا تزال قادرة على شن هجمات مضادة في مناطق أخرى في غزة، بما في ذلك شمال غزة الذي تعرض لتدمير واسع النطاق وجرى تهجير غالبية سكانه، وهذه الهجمات المضادة، تحديداً، هي ما تعطي للمقاومة الفلسطينية الأمل في إمكانية تغيير الدفة، مع توسع رقعة الحرب ودخول أطراف أخرى لساحة المواجهة، لاسيما نتيجة للسياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس التي تهدد باشتعال الوضع واندلاع انتفاضة فلسطينية واسعة النطاق يحلم بها يحيى السنوار زعيم حماس. وعلى الجانب الآخر، فإن سيل المهاجرين من القطاع إلى مصر والذي بدأ جريانه لاعتبارات إنسانية وغير إنسانية، يبقى الأمل قائماً لدى ساسة إسرائيل اليمينيين الذين يحلمون بتهجير سكان القطاع قسراً أو طواعية. والعاملان معاً يقودان إلى إطالة أمد الحرب في غزة، التي كانت ميداناً لأطول حرب تخوضها إسرائيل مع الفلسطينيين والعرب.

حتى لو تم التغلب على العقبات التي تحول دون التوصل إلى هدنة مؤقتة في غزة، ونجحت الجهود المكثفة الأمريكية والمصرية والقطرية والأوروبية في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع قبل بدء شهر رمضان، فإن هذا لا يمنع استئناف القتال بعد انتهاء الهدنة أو ربما قبل انتهاء مدتها.كذلك، لا توجد ضمانات كافية للحيلولة دون توسع القتال إلى محافظة رفح الواقعة على الحدود المصرية، أو لوقف إراقة المزيد من دماء الفلسطينيين في غزة. وتظل احتمالات توسع الحرب إقليمياً قائمة نتيجة لتطورات غير محسوبة. إن أهداف الوسطاء الذين يمارسون ضغوطا على طرفي القتال لتقديم تنازلات من أجل التوصل لاتفاق واضحة، وفي مقدمة هذه الأهداف وقف المزيد من سفك الدماء وتقديم المساعدات العاجلة والملحة للفلسطينيين في القطاع الذين أشرفوا على مجاعة محققة، ناهيك عن أن الوضع في غزة أصبح، بالفعل، أسوا كارثة إنسانية يشهدها العالم بسبب الحرب، وقبل هذا وذاك، فإن الوسطاء لديهم مصلحة مؤكدة في الحفاظ على الوضع في رفح، آخر موطئ قدم يمكن للفلسطينيين العيش فيه في القطاع، ويكتظ فيها الآن بالفعل نحو مليون ونصف مليون من النازحين من شمال قطاع غزة بسبب الحرب. 

في المقابل، يسعى المنخرطون في القتال إلى تحقيق أهداف أقل وضوحاً، الأمر الذي يدفعهم إلى عدم التزحزح عن تبني مواقف متشددة. ولا يبدي الطرفان -الحكومة اليمينية المتشددة، بزعامة بنيامين نتنياهو، وفصائل المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس- أي مرونة قد تسمح بالتوصل لاتفاق هدنة ولو مؤقتة، ويفضلون الاستمرار في الحرب على المخاطرة بقبول هدنة مؤقتة قد تجعل وضعيهما أكثر سوءاً عند استئناف القتال. ولا يكفي الخوف من هذه المخاطرة لتفسير تشدد الطرفين، فلا بد أيضاً من وجود فائدة ما، يحققها كل طرف من استمرار القتال، بل من توسيع رقعته وإطالة أمده. فمن المهم، الوقوف على رهانات الطرفين وحساباتهما العسكرية المعقدة في ظل الضغوط المتزايدة من ناحية، وفي ظل الخسائر التي يمكن لكل طرف تحملها من ناحية أخرى، وأيضاً في ضوء استعداد الطرفين، واستعداد العالم، لتحمل الآثار المترتبة على حرب طويلة وممتدة قد تتسع رقعتها في أي وقت. يكمن مفتاح الإجابة على هذا السؤال في ضوء نزوح الفلسطينيين الصامت بسبب تدهور الظروف المعيشية وصعوبة الحياة في منطقة لا تتوافر فيها أي مقومات للحياة المستقرة، وكذلك في ضوء الصمود الذي تظهره فصائل المقاومة الفلسطينية في مواجهة تقدم القوات الإسرائيلية على الأرض.

هناك أمور قد تكون مفهومة من منظور استراتيجية حرب التحرير الشعبية التي تعد تتويجاً للأساليب التي تنتهجها فصائل المقاومة، على اختلاف مدارسها ومرجعياتها العقائدية، والسؤال الآن هل وصلت المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن وفي ظل الانقسام القائم على الساحة الفلسطينية، والذي يتجاوز الانقسامات بين فصائل المقاومة، إلى المستوى الذي يؤهلها للانخراط في حرب تحرير شعبية؟ والسؤال الأهم، هل لا تزال هذه الاستراتيجية قادرة وحدها على إحداث تحول في الموقف، على غرار ما تنبئنا به الخبرة التاريخية لحروب التحرير الشعبية في الصين وفي الجزائر وفي فيتنام في الخمسينات وفي الستينات، أم أن التحولات التي شهدها العالم أدت إلى تطوير الرؤية والاستراتيجية والأساليب التي تنتهجها الأطراف التي تقف في مواجهة حركات التحرر هذه وغيرها من الجماعات والفصائل المختلفة المنخرطة في الصراع، وما هي النتائج المترتبة على هذه التطورات، وما يرتبط بذلك من تعقيدات قانونية وأخلاقية مرتبطة بمفهومي العدوان والحرب العادلة؟ 

إن الحرب الدائرة الآن في غزة، تضع على المحك الكثير من الفرضيات والآراء التي استقرت لفترة طويلة والتي قامت عليها استراتيجية حرب التحرير الشعبية والفرضيات، وفي مقدمتها قدرة المقاومة على الصمود لفترات أطول مقارنة بقدرة الجيوش النظامية، كما تختبر أيضا الفرضيات التي قامت عليها استراتيجية الحرب الطويلة الذي جرى تطويرها، كاستراتيجية قتالية للجيش الأمريكي، للتعامل مع أشكال شتى من الصراعات التي تخوضها الولايات المتحدة على جبهات عدة في مناطق مختلفة وبمستويات مختلفة من الحدة، إلى جانب مفاهيم أخرى تتعلق باستراتيجيات وأساليب القتال. وقد يتطلب فهم ما يحدث امتلاك مفهوم نظري قد يوفره ما كتبهعالم الجغرافيا السياسية المصري الراحل، جمال حمدان، لتفسير الصراعات بين الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ وحركتها ومساراتها، والذي صاغه في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير". وهذا الإطار النظري مهم ليس فقط لفهم المنطلقات الحاكمة لكل من حركة حماس وإسرائيل، وتقييم الخطة القتالية الخاصة لكل طرف، وإنما أيضاً لوضع مفهوم الحرب الطويلة في سياق الظاهرة الأوسع المتعلقة بالصراع التاريخي الممتد بين الجماعات البشرية، والذي تلخصه حركة الاستعمار والتحرر من الاستعمار.

غزة و"استراتيجية الحرب الطويلة"

لم تعد استراتيجية حرب الاستنزاف الطويلة رهاناً مضمون النتائج، على ما يبدو، بالنسبة لحركات التحرر الوطني وحركات المقاومة التي يتعين عليها إعادة ترتيب أوراقها لتحقيق أهدافها. ويرجع ذلك إلى الخبرات التي تراكمت لدى الأطراف المنخرطة في مثل هذه الصراعات  والتي مكنتها من تطوير أدواتها وخططها. وتعد الحرب الراهنة في غزة التي امتدت لأكثر من خمسة أشهر، ولا تزال مستمرة، من أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل. وثمة مؤشرات مستمدة من هذه الحرب تشير إلى أن إسرائيل باتت مهيأة على ما يبدو للصمود في حرب طويلة الأمد وممتدة، وأنها ربما استفادت من استراتيجية "الحرب الطويلة" التي طورها الجيش الأمريكي. و"الحرب الطويلة" مفهوم مختلف من مفهوم الصراع الاجتماعي الممتد، الذي يعد واحداً من أهم الأطر النظرية لدراسة الصراع الإسرائيلي-العربي،والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فالحرب تعد إحدى صور الصراع. لكن تجدر الإشارة إلى أن مفهوم "الحرب الطويلة"جرى تطويره كاستراتيجية للحرب، في سياق الصراعات الممتدة وأيضا لمواجهة الأشكال الجديدة للصراعات والحروب، وفي مقدمتها الحرب على "الإرهاب"، كاستجابة للأمرين معاً.

تصف الباحثة الأمريكية المختصة في شؤون غزة، سارة روي، الحرب الدائرة الآن بالحرب الطويلة. وتشير في مقال منشور في 19 ديسمبر الماضي في مجلة "ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس" إلى أن التدمير الحالي لغزة هو مرحلة، قد تكون الأخيرة، في عملية طويلة بدأت مع احتلال إسرائيل للقطاع في حرب 1967، واتخذت أشكالاً عنيفة بشكل متزايد، بمرور الوقت. وسعت إسرائيل خلال هذه العملية، إلى تحويل القطاع من منطقة مندمجة سياسيا واقتصاديا مع إسرائيل والضفة الغربية إلى جيب معزول، وتحويله من اقتصاد فعَّال إلى اقتصاد يعاني من اختلالات بنائية، وحولت مجتمع غزة المنتج إلى مجتمع فقير، لتحويل سكان القطاع من شعب له تطلعات ومطالب وطنية إلى شعب تحتاج غالبيته إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية من أجل البقاء. 

ومن شأن هذه العملية التي جرى تنفيذها على مدى عقود، تسهيل المرحلة الأخيرة في استراتيجية إسرائيل، والتي تتمثل على ما يبدو في إعادة احتلال قطاع غزة لكن بعد تفريغه من سكانه الذين ظلوا مشكلة تؤرق الإسرائيليين منذ تأسيس الكيان. وتتبع إسرائيل لتحقيق هذا الهدف، الذي يلقى مقاومة من سكان القطاع ومن أطراف إقليمية ودولية، استراتيجية ممنهجة للتهجير أو الإبادة. ولإثبات ذلك، تشير روي إلى ورقة "مفاهيمية" أصدرتها وزارة الأمن الإسرائيلية، في منتصف أكتوبر الماضي، أي بعد أسبوع من عملية "طوفان الأقصى" التي سعت إسرائيل لاستغلالها لتبرير سياسة الترحيل القسري والدائم لنحو 2.3 مليون نسمة، هم إجمالي سكان غزة إلى مصر. وتَسوق روي أدلة أخرى على نوايا إسرائيل، التي ربما تحظى بدعم أمريكي، إذ أشارت إلى تساؤل طرحه، في نوفمبر الماضي، مسؤول كبير بوكالة المعونة الدولية الأمريكيةعن إمكانية إقامة مخيم كبير خيام في شمال سيناء كمقدمة لترتيب أكثر ديمومة، كذلك، كشفت صحيفة "إسرائيل هايوم" في الشهر ذاته أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى لتقليص عدد الفلسطينيين في قطاع غزة إلى "أقل عدد ممكن".

وتوضح روي من واقع خبرتها الطويلة في غزة أن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية ليست وليدة اللحظة الراهنة التي وفرتها عملية طوفان الأقصى، وإنما هي عملية مستمرة منذ عقود، تعرض خلالها الفلسطينيون في غزة لضغوط هائلة وبلا هوادة. وتشير إلى ان الضرر الذي أحدثته السياسات الإسرائيلية والمتمثل في ارتفاع مستويات البطالة والفقر، وتدمير البنية التحتية على نطاق واسع، والتدهور البيئي، بما في ذلك التلوث الخطير للمياه والتربة، إلى جانب عوامل أخرى، أصبح حالة دائمة. وترجع تلك السياسات إلى إدراك إسرائيلي مبكر بأن غزة كانت، تاريخياً، مركز المقاومة الفلسطينية للاحتلال، ومخزن الذاكرة التاريخية الفلسطينية، ذلك لأن الغالبية العظمى من سكان غزة ينحدرون من عائلات فلسطينية تعرضت لتطهير عرقي في عام 1948 نزحت من أماكن مثل أسدود والمجدل والفالوجا. وتعين على إسرائيل في هذه الحرب الطويلة مع غزة وأهلها إلى اتباع استراتيجية تفضي لتهميش هذا المركز للمقاومة وتدميره. 

ولخص مسؤولون أمريكيون سياسة إسرائيل تجاه قطاع غزة في برقية من تل أبيب في نوفمبر 2008، وأشاروا إلى أن هذه السياسة تتمثل في إبقاء اقتصاد غزة على حافة الانهيار لكن دون دفعه إلى حافة الهاوية. فهدف الساسة الإسرائيليين هو إبقاء اقتصاد غزة عند أدنى مستوى ممكن لتجنب حدوث "أزمة إنسانية"، بضمان بقاء الناس عند أدنى مستوى ممكن أو حتى عند مستوى أقل منه. ونتيجة لهذه السياسة، بلغ معدل البطالة في قطاع غزة، عشية الحرب الحالية، 46.4 في المئة، مقابل 18.9 في المئة في عام 2000، قبل انسحاب إسرائيل وفرض الحصار. وكان ما يقرب من 65 في المئة من السكان يعانون انعدام الأمن الغذائي، ونتيجة لهذه السياسة هو أن أصبح العنف أسلوب حياة في غزة مع تحول الفلسطينيين هناك من مجتمع له حقوق وطنية وسياسية واقتصادية، إلى مشكلة إنسانية. لقد تسببت إسرائيل من خلال إدارتها للمشكلة السياسية في غزة في مشكلة إنسانية في القطاع،على نحو تحولت معها الحياة العادية إلى حرب بوسائل أخرى، من خلال استخدام التهديد بالكوارث كشكل من أشكال الحكم واستخدام الآلام كأداة للسيطرة. 

كان الهدف، حتى وقت قريب، هو تجنب كارثة واسعة النطاق مثل المجاعة، وهو ما تحقق الآن نتيجة لوصول السياسات الإسرائيلية في قطاع غزة وإلى حد ما في الضفة الغربية، إلى طريق مسدود. يُضاف إلى ذلك وضع القطاع، لاسيما بعد سيطرة حركة حماس على السلطة فيه في عام 2007، والتي أدت إلى تحويل الصراع مع غزة من قضية سياسية وقانونية تخضع لقواعد الشرعية الدولية إلى نزاع حول الحدود تنطبق عليه قواعد الصراع المسلح، بعد أن أعادت إسرائيل صياغة علاقتها مع قطاع غزة من الاحتلال إلى الحرب، على النحو الذي يتضح من المواجهات العسكرية المتعاقبة منذ عام 2006. لقد نجحت إسرائيل في ربط قطاع غزة بحركة حماس فقط والتعامل معه ككيان أجنبي معادٍ، وهو أمر قبله العالم وساهمت حماس في تكريسه بانقلابها على السلطة الفلسطينية في عام 2007. وأصبحت غزة نموذجاً مثالياً لسياسات الحرب الطويلة، ويمكن فهم الحرب الحالية وفق هذا المنظور.

الإبادة كبديل للتهجير إذا فشل

هناك سبب آخر يدفع إسرائيل إلى إطالة أمد الحرب والاستعداد للدخول في حرب مفتوحة مع قطاع غزة يتمثل في تفعيل خيار الإبادة إذا فشل مخطط التهجير أو لم يمض بالسرعة ولا النطاق المرغوبين. ولا شيء يبرر إصرار حكومة نتنياهو على المخاطرة بتوسيع نطاق الحرب لتشمل رفح إلى لتأكده من أن مثل هذه الحرب ستوقع عددا من القتلى في صفوف الفلسطينيين يفوق عدد من قتلوا في الحرب منذ بدئها في الثامن من أكتوبر. ويكشف تقرير نشرته مجلة 972+ الإسرائيلية كيف أوقعت إسرائيل كل هذا العدد من الضحايا الفلسطينيين في تقرير نشرته أواخر نوفمبر الماضي، أشار فيه إلى أن توسيع نطاق تفويض الجيش الإسرائيلي لقصف أهداف غير عسكرية في سياق الحرب المعلنة على حماس في غزة ارتبط بتخفيف القيود المتعلقة بالخسائر المتوقعة في صفوف المدنيين، وبين التقرير كيف ساهم استخدام نظام جديد للذكاء الاصطناعي لتحديد المزيد من الأهداف المحتملة، في تكريس الطبيعة التدميرية للمراحل الأولية من الحرب وساعد على تحول ميدان القتال إلى "مصنع اغتيالات جماعية"، حسب وصف مسؤول مخابرات إسرائيلي.

وبرز مصطلح "أهداف القوة" ليشير، بشكل أساسي، إلى تعمد إلحاق الضرر بالمجتمع المدني الفلسطيني من أجل إحداث "صدمة" سيكون لها، من بين أمور أخرى، صدى قوي، أملاً في أن تدفع هذه الصدمة المدنيين إلى الضغط على حماس. ويقدم التقرير الذي استند إلى مسؤولين عسكريين ومصادر أمنية إسرائيلية أدلة تشير إلى أن لدى الجيش الإسرائيلي ملفات حول الغالبية العظمى من الأهداف المحتملة في غزة – بما في ذلك المنازل – والتي تتضمن عدد المدنيين الذين من المحتمل أن يُقتلوا في شن هجوم على هدف معين، الأمر الذي يجعل أعداد القتلى محسوبة ومعروفة مسبقًا لوحدات استخبارات الجيش، التي تعرف أيضا قبل وقت قصير من تنفيذ الهجوم العدد التقريبي للمدنيين الذين من المؤكد أنهم سيقتلون. وتشير روايات شهود عيان من الفلسطينيين إلى أن أكثر من 300 عائلة فقدت 10 أو أكثر من أفرادها في القصف الإسرائيلي في أول شهرين للحرب، وهو رقم أعلى 15 مرة من الرقم المسجل في حرب عام 2014، وهي الحرب الإسرائيلية الأكثر دموية على غزة. إن شطب عائلات بالكامل من السجل نتيجة للقصف هو عمل من أعمال الإبادة لشعب. 

لتحقيق مثل هذه الأهداف فليس مطلوبا أن تكون الحرب طويلة فقط، وإنما أن تكون مركزة في غزة، ذلك أن توسيع الحرب في الوقت الراهن بفتح جبهات أخرى، سواء مع حزب الله في الشمال أو في الضفة الغربية، من شأنه أن يشتت المجهود الإسرائيلي، وهذا هو ما يراهن عليه السنوار وقادة حماس، على أساس أنه في الحرب الطويلة، يلعب توازن القوى دوراً مهماً، كما تحظى المصالح المادية، وحتى الشخصية بأهمية، تعززها الجوانب الأخرى الأيديولوجية، علاوة على الجوانب الممتدة إلى المجتمع والإقليم والعالم. هي حروب شاملة وممتدة بشكل أو آخر، لأن جزءا منها على السطح يتصل بما هو محسوس من مصالح استراتيجية واقتصادية، ولكن أكثرها متصل بما هو غير محسوس من قيم ونظم وأفكار. ويعزز هذا التصور ما حدث في أفغانستان والإطاحة بحكم طالبان، وما يحدث الآن في العراق رغم الانتصار الأمريكي ونجاح الجيش الأمريكي في الإطاحة بحكم طالبان والإطاحة بحكم البعث وصدام حسين، إذ تشير الأحداث اللاحقة إلى أن الحرب لم تنتهِ، ليس فقط نتيجة وجود مقاومة، وإنما أيضا بسبب فشل تصور واشنطن بإمكانية إعادة تشكيل هذه المجتمعات، وهي عملية طويلة الأمد وغير مؤكدة، بل إن عودة طالبان للحكم بعد الانسحاب الأمريكي كان بمثابة إعلان عن تآكل النصر الذي حققته أمريكا وحلفاؤها، بل يمكن اعتباره إعلانا للهزيمة من زاوية أخرى.

إن استمرار الحرب في غزة رغم المرونة التي يبديها طرف في مواجهة تشدد الطرف الآخر في لعبة دبلوماسية تقود إلى إفشال الوساطات، مرهون بمدى استعداد إسرائيل للتخلي عن هدف القضاء على حركة حماس أو اكتشافها استحالة تحقيق هذا الهدف المعلن، وإدراكها أيضاً استحالة تنفيذ هدفي التهجير أو الإبادة غير المعلنين، ومرهون أيضاً بالتحولات السياسية داخل إسرائيل، ومرهون كذلك بمدى نجاح الحكومة الإسرائيلية في احتواء الوضع في القدس وفي المسجد الأقصى ففي المساس بهما ما يهدد بإشعال انتفاضة فلسطينية يتطلع إليها السنوار بشوق كبير. ولن تنجح الضغوط الخارجية ما لم يحدث تحول في الداخل الإسرائيلي أو في الداخل الفلسطيني. وإلى أن يحين ذلك فإن أمورا كثيرة موجود في المسافة بين خان يونس ورفح ومعلقة على معبر رفح.
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل يؤسس الرد الإيراني لمعادلة جديدة في الصراع مع إسرائيل حقاً؟





اعلان