المؤرخ الدكتور "خالد زيادة" يعرف مصر، بل لديه معرفة متميزة بها. كما أنه وجه معروف عند المصريين، وعلى الأقل بين مثقفيها. وليس فقط لكونه كان سفيرا لبلده لبنان لتسع سنوات اعتبارا من عام 2007. أو لأنه ظل خلال إقامته الدبلوماسية بالقاهرة حاضرا في المشهد الثقافي باعتبار خصوصية العلاقات والتاريخ المشترك بين مصر ولبنان في هذا السياق. بل وأيضا لأنه مؤرخ له اسهامات متعددة مهمة في إعادة اكتشاف تاريخ المشرق العربي ، وفي القلب منه مصر والشام، وتقديم استخلاصات فكرية في قضايا الحداثة والدولة والمثقفين يمكن الاستفادة منها في قراءة الواقع والمستقبل.
وفي كتابه الأخير "مصر الثقافة والهوية" الصادر من بيروت (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) قبل أسابيع معدودة ما يستحق التفاعل والنقاش، سواء للاعتبارات المتعلقة بخبرة المؤلف بحثيا وفي معايشة حال مصر والانشغال بتاريخها وحاضرها.
وفي هذا الحوار الذي أجرى معه في بيروت، محاولة للانطلاق من بعض ما جاء بهذا الكتاب لتلمس إجابات على تساؤلات تطرحها رؤية مثقف لبناني لمصر ولبلده تاريخا وثقافة.. وأيضا لافساح مجال للنظر من أجل التفاعل والمقارنة بين البلدين.
" محمد على" بين الحملة الفرنسية والتأثيرات العثمانية
* لنبدأ من كتابك الأخير عن هوية مصر وثقافتها الصادر مؤخرا، اعتقد من يقرأ يجد عودة لاعتبار الحملة الفرنسية على مصر والشام بداية للتاريخ الحديث في منطقتنا. كيف يتسق هذا مع عملك بدأب على سجلات المحاكم الشرعية في الفترة العثمانية ومع التطور الذي طرأ على اتجاهات المؤرخين نحو اكتشاف بذور وجذور تطور مجتمع حديث عندنا قبل القرن التاسع عشر والحملة الفرنسية ومحمد علي؟
ـ أثارت الحملة الفرنسية على مصر ردود فعل وتحليلات كثيرة في مراحل لاحقة على الحملة. وجرى تحميلها تفسيرات شتى، أبرزها أن الحملة قد أيقظت مصر، بل أيقظت الشرق. بل اعتبر باحثون أن تطور مصر الحديثة ناجم عن الحملة التي استمرت ثلاث سنوات، وعجزت عن احتلال "عكا"، واضطر قائدها "بونابرت" إلى مغادرة مصر وتسليم قيادة القوات الفرنسية إلى الجنرال "كليبر" الذي اغتيل، ومن بعده جاء الجنرال "مينو" الذي أعلن اسلامه.
ونظرتي إلى الحملة الفرنسية تخالف هذا التوجه برمته، وقد تعمدت أن أذكر في كتابي الأخير هذا مواقف النخبة المصرية ممثلة بالمؤرخ "عبد الرحمن الجبرتي" و"الشيخ عبدالله الشرقاوي، وكان الأخير شيخًا للأزهر ورئيسًا للديوان الذي اصطنعه "بونابرت".
ولاحقا قام هذان العالمان بتبرئة نفسيهما من الارتباط بالحملة الفرنسية، واعتبرا أنها مجرد حملة طارئة في تاريخ طويل. كما رحبا بطبيعة الحال بعودة العثمانيين، الذين احتشد أهل مصر لاستقبالهم.
لكني في الوقت نفسه لا أنفي أن تكون للحملة آثار على مصر. فهذه الحملة قصيرة الأجل لم تفتح أبواب مصر أمام العلوم الحديثة والتقنيات العصرية وحسب. وإنما أحدثت اضطرابًا في مصر، ذلك أن تأثيرها البارز كان في زحزحة القوى الرئيسية عن أدوارها والتلاعب بالأنظمة التقليدية.
ومن أبرز هذه التأثيرات الطلب إلى علماء الأزهر أن يشكلوا ما يشبه هيئة حاكمة وهم غير أهلٍ لذلك، وإعطاء وجهاء الأقباط (المحاسبين عادة) أدوارًا أمنية. وكذلك إثارة الحساسيات بين المسلمين والأقباط وعموم المسيحيين. فضلاً عن إزاحة المماليك عن المشهد، وضرب قوتهم التي لم يستطيعوا استعادتها.
وليست تجربة "محمد علي باشا" إلا نتيجة للحملة الفرنسية، بقدر ما هي خاضعة للتأثير العثماني. فالسلطان "سليم الثالث" الذي أرسل "محمد علي" إلى مصر، كان يخوض تجربة تحديثية من خلال تشكيل قوات عسكرية نظامية على النمط الأوروبي تحت اسم النظام الجديد. وهو نفس الاسم الذي أطلقه "محمد علي" باشا على القوات النظامية التي بدأ بتشكيلها متأخرًا عام 1820.
ولا ننسى أن"محمد علي" استعان بخبراء أوروبيين في بناء مؤسساته الصحية والعسكرية إضافة إلى المؤسسات المدنية. وكان "سليم الثالث" قد سبق أن استعان بالعديد من الخبراء والضباط الفرنسيين الذين أقاموا في "استامبول" وأشرفوا على بناء القوات العثمانية النظامية ابتداءً من عام 1392. علمًا بان الاتصالات بين الإدارة العثمانية وفرنسا بخصوص الاستعانة بخبرات ضباط فرنسيين تعود إلى فترة سابقة خلال فترة وزارة "خليل حميد" (1782-1785)، الذي استقدم مهندسين لتنظيم فرقة مدفعية. وجرى آنذاك تأليف عدة كتب حول الفنون العسكرية.
المثقف المصري والمثقف اللبناني
* يستدعي كتابك الأخير التساؤل عن نظرة المثقفين والمؤرخين اللبنانيين تجاه مصر. وهنا استنتاج مفاده أن العديد بينهم ربما يرى، بتقدير مبالغ فيه، الطابع المركزي للدولة في مصر وعلاقتها بمثقفيها إنطلاقا من التباين والاختلاف مع تكوين وحال الدولة في لبنان ومع مثقفيها؟
- لعبت الدولة في مصر، ابتداءً من حاكمها "محمد علي" دورا سياسيًا ليس في قيادة المجتمع وحسب، ولكن في صياغة وبناء المؤسسات ورسم وتحديد العلاقة بين المصري والدولة. فبالإضافة إلى بناء الجيش وتأسيس المدارس المتخصصة التي أصبحت نظامًا تعليميًا، فإن أبرز الإنجازات هو تأسيس البيروقراطية الإدارية التي توسعت في عهد "الخديوي إسماعيل"، وكذلك قانون الملكية العقارية الذي أوجد الطبقة الاجتماعية التي كان لها دور في بناء الطبقة الحاكمة، وتشكلت من أبنائها المجالس النيابية والحكومات حتى منتصف القرن العشرين.
والمهم أن المثقف في مصر كان نتاج التجربة التحديثية. هو لم يدرس في مدارسها فقط، ولكنه عمل في إداراتها العسكرية والمدنية. وهذا بالمقارنة مع المثقف في لبنان في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي نشأ في مدارس إرسالية أو أهلية (وطنية).
وفي عهد إسماعيل، شهدت مصر شخصيات لعبت دورًا في إنشاء مؤسسات ذات طابع ثقافي (مطابع، صحف، دور نشر ومسرح وغيرها). والأبرز في كل ذلك هو ظهور الرأي العام، الذي هو نتاج تحوّل في التفكير حول مسألة الدولة. إذ أن الشأن العام (السياسي) لم يعد يجرى النظر إليه ولأمور الحكم باعتبارها شأنا يخص الحاكم وحده. بل هو شأن يخص العامة، ومن بينهم بشكل خاص أهل الرأي.
وهذا يعني أن موضوع الدولة والحكم كان هاجس المفكرين والكتاب. والأمر كان يتعلق بالانتقال من الدولة التقليدية وأجهزتها القديمة (العلماء، كتاب الإدارة، العسكر) إلى دولة حديثة تديرها بيروقراطية واسعة معنية بكل شؤون المجتمع، وتشرف على الأعمال وتنظم الحياة اليومية (عبر البلديات والإدارات المحلية)، وتحصي السكان فردًا فردًا.
وفي مصر بوجه خاص، فإن الدولة منذ الخمسينات من القرن العشرين أصبحت تشرف على شؤون الإعلام والثقافة. والواقع أن البلدان العربية منذ بدايات القرن التاسع عشر أصبح تطورها مرتبطا بالدولة ونظامها وعقيدتها.
تحدي الكتابة عن مصر
* ألا ترى أن هذا التقدير لمركزية الدولة في مصر منذ عهد "محمد على" وامتداداتها لاحقا يحجب سلبيات وتشوهات عديدة في علاقة الدولة بالمثقف؟
ـ أزعم أنني أعرف مصر إلى حد يسمح لي بالكتابة عنها. وكانت الكتب الصادرة من مصر بالنسبة لجيلي هنا في لبنان بمثابة مدخل لعالم الثقافة، وقرأنا الأدباء والشعراء المصريين في كتبنا المدرسية. ثم قرأنا "طه حسين" و"العقاد" و"سلامة موسى"، ثم "نجيب محفوظ".
وخلال دراستي الجامعية أوليت اهتمامًا خاصًا لقراءة أفكار النهضة المصرية عند "الطهطاوي" و"علي مبارك"، ثم "محمد عبده" و"قاسم أمين"، وغيرهم ومن جاء بعدهم. وبالنسبة لي فإنني أقمت ما يقرب من تسع سنوات في مصر (2007-2016) خلال عملي كدبلوماسي (سفيرا للبنان بالقاهرة) وكنت على صداقة بعدد كبير من المثقفين المصريين.
والكتاب على نحو ما، هو امتداد غير مباشر لكتاب صدر لي سابقًا تحت عنوان "كاتب السلطان: من الفقيه إلى المثقف"، وجرت طباعته لاحقا أيضا في القاهرة. وكتابي الجديد "مصر الهوية والثقافة" يعتني بنشوء وتطور المثقف في مصر.
ومن ناحية أخرى كنت أدرك أنني أمام تحدي أن يكتب غير مصري عن مصر. فليس من العادة، أن يكتب ابن هذا البلد العربي أو ذاك كتابًا عن بلد آخر. وشجعني على ذلك أن أقدم نظرة من الخارج إلى أمر هناك اعتقاد بأنه شأن مصري.
عندما جاءت الحداثة إلى طرابلس
* هل ترى خصوصية لمدينة طرابلس اللبنانية التي ولدت ونشأت بها بالنسبة للأسئلة والقضايا التي طرحها كتابك الأخير عن مصر بخصوص المدنية والحداثة؟
ـ طرابلس تلقت بعض مظاهر الحداثة في سبعينات القرن التاسع عشر من خلال افتتاح أكثر من مدرسة للتعليم الحديث. واستجابت نخبتها لدعوة والي سوريا "مدحت باشا" الذي دعاهم إلى إقامة خط يصل المدينة بمينائها. وهي مسافة لا تزيد عن ثلاثة كيلومترات من حقول الليمون الذي كانت تشتهر بها المدينة.
ومع بداية القرن العشرين، برزت معالم الحيز الحديث للمدينة، حيث أقيمت العمارات ذات النمط الأوروبي، وجرى افتتاح بعض المؤسسات، إضافة إلى مقاهي ومصرف ومدرسة. ويصف زائرون المدينة عام 1916 (خلال سنوات الحرب العالمية الأولى) بأنها أبهى مدينة في سوريا. وتتقدم على بيروت ودمشق في أنها جمعت بين اتقان العمران وجمال الطبيعة. إلا أن الامام "محمد رشيد رضا" (وهو من طرابلس) زارها بعد غياب عشر سنوات في القاهرة، ورأى أن العمران الحديث، لا يطال المدينة القديمة التي لم يمسها التغيير. وقال أن علماء طرابلس أقل انفتاحا من علماء بيروت. واختلف وضع طرابلس لاحقا حين أصبحت مدينة في دولة لبنان الكبير التي جرى إعلانها عام 1920 وعاصمتها بيروت.
عندما كانت طرابلس الأسبق لبيروت
- تاريخيًا كانت طرابلس منذ الفترة الفاطمية، وحين ازدهرت أحوالها، مدينة شبه مستقلة. وفي زمن المماليك كانت مركزا لنيابة سلطنة، وفي الزمن العثماني كانت عاصمة لولاية ممتدة. أما بيروت فكانت دائما بلدة صغيرة.
وفي مطلع القرن التاسع عشر، فقدت طرابلس كونها عاصمة ولاية بعد فترة طويلة من تراجعها كمرفأ ( ميناء) رئيس. وهذا في الوقت الذي بدأت فيه بيروت تبرز كمرفأ بعد أن أقيمت قربها (الكرنتينا)، فصارت السفن القادمة من أوروبا تمر بمرفأ بيروت. ويعود الفضل في هذا الاجراء إلى "إبراهيم باشا" ابن "محمد علي باشا" بعد سيطرة القوات المصرية على بلاد الشام (1831-1940).
ومنذ ذلك الوقت أخذت بيروت تزدهر كمدينة مرفأ وكعاصمة تجارية. وبسبب الهجرات إليها أصبحت مدينة كبيرة وواجهة للحداثة بمبانيها ومؤسساتها التجارية وجالياتها الأجنبية. وارتفع عدد سكانها في مطلع القرن العشرين إلى مئة ألف نسمة، بعدما كان قبل مائة سنة لا يتجاوز الخمسة الآف سنة.
الإسكندرية لم تلعب دورا ثقافيا مماثلا لبيروت
* أذا اخذنا تاريخ الإسكندرية، والتي توصف لكثرة الجاليات الأجنبية في السنوات الخوالي "بالكوزمو بوليتانية" تعبيرا عن تعدد الثقافات والحضور المتنوع لمجتمعات البحر المتوسط، كيف ترى طرابلس وبيروت من هذه المنظور؟
- الإسكندرية وبيروت مدينتان متوسطيتان عرفتا التحديث مبكرًا، وكلا المدينتين كانتا "كوزموبولوتية"، وتعيش في كل منهما جاليات أوروبية. كما أنهما مرفأن لعبا دورًا اقتصاديًا وتجاريًا. ومن المؤكد أن الإسكندرية كانت مدينة كبيرة بالقياس إلى بيروت. لكنها لم تلعب الدور الذي لعبته بيروت من الناحية الثقافية.
ففي وسط القرن التاسع عشر بدأت بوادر نهضة ثقافية في بيروت، وخصوصًا بعد إقامة الكلية الانجيلية (الجامعة الأميركية) عام 1864، ثم الجامعة اليسوعية عام 1875. وأيضا مع بروز شخصيات مثل "بطرس البستاني" و"ناصيف اليازجي" و"أحمد فارس الشدياق"، وهي شخصيات نهضوية أحيت اللغة العربية الفصحى ونادت بالوطنية.
ومن هذه الناحية، يمكن مقارنة بيروت بالقاهرة التي أصبحت مركزًا نهضويًا وثقافيًا هاجر إليها اللبنانيون لاتساع مساحة التعبير فيها، وخصوصًا خلال عهد الخديوي "إسماعيل".
تحولات الثقافة العربية من بيروت
* كيف تشخص واقع الثقافة الآن في لبنان، وما الجديد الذي تراه كمؤرخ ومفكر عاصر عقودا سابقة؟
- من الناحية التاريخية، فإن نهضة الثقافة تعزى إلى مصر ولبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فكما عرفت مصر "رفاعة رافع الطهطاوي" و"علي مبارك" وغيرهما، عرف لبنان "بطرس البستاني" و"ناصيف اليازجي" و"أحمد فارس الشدياق" وغيرهم. لكن هناك فارق، فالنهضة في مصر كانت نتاج مشروع الدولة منذ "محمد علي" باشا وصولاً إلى "الخديوي إسماعيل". أما في لبنان فكانت نتاج المدارس والإرساليات والصحافة. مع الإشارة إلى أن حجم مصر وتجربتها في الثقافة كانت أغنى وأوسع.
ومع مطلع القرن العشرين كانت الثقافة في مصر قد ارتبطت ببروز الوطنية المصرية، وعرفت اتجاهات ليبرالية وإصلاحية. وأصبحت مصر المصدر الرئيس للثقافة، وانتشر انتاج كتابها في كل البلدان العربية مع "أحمد لطفي السيد" و"محمد حسن الزيات" و"مصطفى صادق الرافعي" و"عباس محمود العقاد" و"طه حسين"، إضافة إلى الشعراء والروائيين والأكاديميين.
واستمرت ريادة مصر الثقافية في الوقت الذي بدأت بيروت تصبح مركزّا للنشر وخصوصًا مع الخمسينات، ويظهر بها مجلات ثقافية وأدبية مثل "الآداب" و"شعر"، ثم "حوار" و"دراسات عربية".
وتميّز نمو الثقافة في لبنان بالانفتاح وخصوصًا على بلدان المشرق، فأصبح النشر في لبنان يجرى لشعراء وروائيين وكتاب من العراق وسوريا وفلسطين. وإضافة إلى ذلك فإن انفتاح الثقافة في لبنان لم يقتصر على المشرق العربي، وإنما أصبح انفتاحا على الثقافات العالمية. وتولت دور النشر في لبنان ترجمة الآداب الأوروبية من فكر ورواية وشعر.
وهذا الدور كان له تأثيراته في كل البلدان العربية التي كانت تستهلك الإنتاج اللبناني، وخصوصًا في مجالات ترجمة أعمال كبار الروائيين أمثال "جان بول سارتر" و"همنغواي" و"مورافيا"، إضافة إلى شعراء كبار مثل "إليوت" و"عزرا باوند".
وفي مرحلة ما بعد 1967، أخذت دور النشر اللبنانية في ترجمة الأعمال الفكرية وخصوصًا السياسية منها. وهذا نظرا لنمو حركة المقاومة الفلسطينية والأحزاب اليسارية. وهذا الأمر كان شبه محظور في سائر البلدان العربية. ولا بد من الإشارة إلى دور الصحافة اللبنانية، التي كانت تتمتع بقسط وافر من الحرية، فأصبحت صحافة العرب.
والملفت للانتباه أن سنوات الحرب اللبنانية (1975-1989)، شهدت نموًا متواصلا للمجلات الفكرية وتأسيسا لدور نشر نشطة. وهكذا استمرت بيروت عاصمة للثقافة العربية، ويجد الكتاب العرب بها مجالاً لنشر أعمالهم التي لا تتاح لها فرص النشر في بلدانهم. وعلى هذا النحو، يمكن القول أن دور بيروت الثقافي يعكس انتاج مثقفي ومبدعي بلدان المشرق العربي. كما بدأ مع السبعينيات كتاب من المغرب ينشرون أعمالهم من بيروت.
ومنذ بضعة سنوات بدأنا نشهد في لبنان إقفالا تدريجيا للمجلات الثقافية والفكرية. وكل المجلات والصحف هنا هي مؤسسات خاصة، لا تحصل على أي تمويل حكومي لبناني، أما النشر فما زال نشطا في لبنان.
وأود أن أشير إلى أن خريطة الثقافة العربية قد تبدلت وتوسعت، فالإنتاج الثقافي وخصوصًا الأكاديمي أصبح نشطًا في بلدان المغرب العربي، وفي الخليج تقوم دور نشر نشطت بتلبية احتياجات الترجمة وغيرها.
ومازال المثقف الطائفي حاضرا
* هل اختفى "المثقف الطائفي" التي كانت إحدي وصمات الحرب الأهلية في لبنان؟
ـ الظاهرة الطائفية في لبنان شديدة التعقيد، فهي ليست مجرد انتماء ديني أو مذهبي. فقد أصبحت انتماء لجماعة ذات بعد سياسي وأيديولوجي. وحتى لو كان المرء منزها عن المشاعر الطائفية أو المذهبية. فإن القانون المعمول به في لبنان يصنف اللبنانيين تبعا لانتماءاتهم الطائفية.
على سبيل المثال إذا كنت تطلب وظيفة في القطاع الرسمي، فإن أول اعتبار هو الانتماء الطائفي، وخصوصًا في الوظائف التي تسمى فئة أولى أي المديرين العامين والسفراء والقضاة ومدراء الجامعة. فهناك وظائف محجوزة لطائفة معينة. وهذا الأمر يتفاقم، ويصبح مصدرا إضافيا للفرقة والخلافات السياسية.
من هنا القول بأن الطائفية في لبنان هي نظام اجتماعي معقد. ومن حسن الحظ أن اللبنانيين، او أغلبهم، يستطيعون أن يتعايشوا مع هذا الواقع، أي أنهم يتجاوزونه في حياتهم اليومية. ولكنه يكبلهم في حياتهم العملية.
والأمر ينطبق على المثقفين، وإن كان المثقف أقدر على صياغة خطاب لا طائفي. علما بأن عددا كبيرا ممن يمكن تصنيفهم في فئة المثقفين لا يخفون ولاءاتهم الطائفية.
وإذا كانت الأحزاب العقائدية هي مقياس من المقاييس التي تدل على انتشار الأفكار، فمن المؤسف القول بأن الأحزاب العقائدية اشتراكية أو قومية أو ليبرالية هي في ضمور، وإلى حد اختفاء تأثيرها الثقافي. وهذا مقابل تماسك الأحزاب ذات اللون الطائفي التي أصبح لها الكلمة الأولى، وخصوصا بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1989.
لهذا لا نستطيع القول أن المثقف الطائفي قد اختفى، بالرغم من أن الطموح هو أن تتجاوز الثقافة الواقع الطائفي.
---------------------------
حاوره في بيروت: كارم يحيى