19 - 06 - 2024

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات

في عيده السبعين يحتفل أتيلية القاهرة السابعة مساء اليوم وغدا بلطيفة الزيات في ندوتين، الأولى بحثية يشارك بها ثلاثة من كبار النقاد في كلية الآداب- جامعة القاهرة هم: د. غراء مهنا الأستاذ المتفرغ بقسم اللغة الفرنسية و د. خيري دومة . أستاذ الأدب العربي الحديث- قسم اللغة العربية- ود. هالة كمال أستاذة الأدب الإنجليزي وتدير الندوة الكاتبة هالة البدري وفي الغد قراءات قصصية لكل من: مجدي نصار، أسامة ريان، حنان عزيز، هاني منسي، محمد عطية، أحمد حلمي، محمد علي إبراهيم، مصطفى سليمان، ايناس مهنا، تيسير النجار، باسم طه ومينا سعيد ومن الكتاب العرب د. نداء عادل و د. فريدة بن سليم وعبير العطار.

مئوية لطيفة الزيات

رغم مرور عدة شهور على مئوية ميلاد لطيفة الزيات المولودة في 8 أغسطس 1923  إلا أنني قررت أن احتفل على طريقتي بعيد ميلادها طوال العام وهنا أعيد نشر مقالين كتبتهما عنها أثناء حياتها، فللكاتبة الكبيرة دين في عنقي وموقف رائع أريد أن أحدثكم عنه، حدث بعد نشر روايتي الثانية منتهى عام 1992 إذ قرأتها لطيفة الزيات وكتبت عنها مقالاً لينشر في مجلة القاهرة وكان يرأس تحريرها د. غالي شكري وتفضلت الكاتبة اعتدال عثمان بتسليم المقال ثم سافرت إلى الولايات المتحدة، وحدث أن فقد المقال ولم يتم الاهتداء إليه إلا بعد شهور حين عادت اعتدال عثمان ووجدته عند الموظف الذي تسلمه، ونشر المقال لاحقاً في المجلة وكان من أهم ما كتب عن عملي الأدبي وعن رواية "منتهى". أخبرتني ضاحكة أنها كانت تغار من جابريل جارثيا ماركيز بسبب ما حكاه من أساطير في أعماله خاصة مائة عام من العزلة حتى قرأت "منتهى" وأدركت قيمة ما نملك في مصر من أساطير لم يكتب عنها الروائيون.

وكتبت هذا المقال بمناسبة الندوة الموسعة التي أقامها مركز البحوث العربية لمدة ثلاثة أيام بعنوان "الأدب والوطن" والمهداة إلى لطيفة الزيات بعد رحيلها:

لطيفة الزيات .. الإنسان والرمز

كان اسم لطيفة الزيات يتردد في بيتنا أثناء طفولتي باعتبارها أحد رموز التحرر الوطني، وكان اللقاء الأول بها وبأفكارها الوطنية من خلال فيلم "الباب المفتوح" الذي أثار حوله عاصفة من الأفكار والمناقشات طرحها موضوع الفيلم، رأيت البطلة وهي تتلمس معنى الوطن ومشاكله وتتعرف على فكرة لم تكن بديهية وقتها وهي أنه لا انفصال بين الحياة الخاصة والعامة، وسمعت من الكبار حولي أن كلمات بعينها جاءت في حوار الفيلم لم يستطع أي كاتب قبل لطيفة الزيات التعبير عنها بهذه الجرأة وهذا الوضوح. وأتذكر إحدى هذه الجمل: "إن الجسد يجف كما تجف الروح إذا فشلت المرأة في علاقتها برجلها". كانت النساء حولي ممتنات لهذه الكاتبة التي عبرت عن ظاهرة لم يجرؤن على البوح بها، تحولت لطيفة الزيات في خيالي إلى رمز لا يمكن الوصول إليه ولا يتجسد.

وعندما قرأت روايتها "الباب المفتوح" بعد ذلك عرفت أنها الكاتبة العربية الأولى التي استطاعت أن تقدم رواية تقف على قدم المساواة مع الرجل، رواية لا تشغلها هموم الأنثى وحدها مثلما فعلت الكاتبات قبلها، أو يسامحها الرجال، أقصد يتجاوزون عن مستواها الأدبي بسبب أنها امرأة مازالت تحبو في طريقها إلى الفن، كما فعلوا مع غيرها من قبل. ورغم متابعتي لمواقف الكاتبة الكبيرة الوطنية فلم يستطع أي موقف واحد أن يحولها إلى كائن حي يتجسد أمامي فقد كنت أردد بيني وبين نفسي: ومن غيرها أجد - بهذا الموقف ...

إلى أن حدث وصدرت "الشيخوخة"، لقد استطاعت هذه المجموعة القصصية البديعة أن تحول الرمز إلى كائن حي، من لحم ودم، كائن يقوم على الرمز المبهر، استطاعت شخصيات الشيخوخة بضعفها الإنساني أن تجعلني أتلمس لطيفة الزيات الإنسان، وأعترف رغم ادعائي بعدم التحيز للمرأة بأنني شعرت بالفرح لأن هذه الكتابة كتبت بيد امرأة، ولأنها تنتصر على الأعمال المطروحة معها في نفس الوقت، وقد دفعني الفرح بهذه القصص للتساؤل حول أسباب توقف كاتبتها طوال هذه السنوات عن الإبداع الأدبي: لماذا حرمتنا من جهدها؟ إن جهدها هذا لم ولن يكون ملكاً لها أبداً، فلماذا لم تقهر ما قهرها؟! وكان في داخلي صوت يقول: كثيراً ما نقهر أنفسنا بأنفسنا، وللمرة الأولى قررت أن أعرفها عن قرب، فحدثتها تليفونياً لأخبرها بإعجابي الشديد بالقصص، وانتظرت، انتظرتها وتمنيت أن تكون قد قررت العودة مرة أخرى للكتابة، فلما قرأت "حملة تفتيش في أوراق شخصية" وكشفت لي عن إجابة لأسئلتي تجاوزت ذلك بسرعة وتعاملت معها باعتبارها رواية تستخدم فيها أحداثاً شخصية موظفة فنياً داخل العمل وأدركت كم نحتاج لمثل هذه الكاتبة، كما نحتاج لقلمها لتعرية مناطق تستلزم خبرة عالية بالحياة والشفافية. ثم التقينا وجهاً لوجه بعد كل هذه السنوات من الحوار على الورق أو عبر التليفون لأجد نفساً صافية وذوقاً مشعاً ورحابة صدر تستوعب العالم بأسره.

وفتحت لطيفة الزيات الباب لأدلف منه إلى عالمها، ساعتها انتصرت في داخلي كإنسان لأن الرمز مهما علا شأنه يظل بعيداً أو مجرداً.

جاءت نهايتها اختياراً شجاعاً لا يقدر عليه إلا من عركته الحياة وعجمت عوده فاستحق وهجها وأدرك ماهيتها فوهبته ما لم تهبه للآخرين. شهور قليلة قبل رحيلها عَرَفـَتْ لطيفة الزيات الكاتبة وأستاذة الجامعة والمناضلة المصرية أن مرضاً خبيثاً قد تمكن من الرئة، فرفضت العلاج الكيميائي وحين سألتها د. أمينة رشيد عن السبب - كما أخبرتني - قالت: أنا راضية عما حققته من الحياة وإذا جاء الموت فأهلاً به، أريد أن أظل كما أنا حتى اللحظة الأخيرة.

هكذا عرفناها وهكذا رحلت. وكان يدهشني أمام لطيفة الزيات القوية الصلبة شديدة العقلانية والاتزان تلك الرقة والنعومة والصفاء النفسي الذي ينتقل إلى المتحدث معها على الفور، وهو يجبر المتعامل معها على مسافة من الاحترام والتقدير تذكره على الفور أنه أمام هانم.

نشأت في ظروف اجتماعية تؤهلها لحياة مترفة لا بأس بها، فكثيرات من جيلها اخترن تعليماً متوسطاً وتزوجن وأنجبن وتركن للرجل الكفاح خارج جدران البيت وركنن إلى تكوين أسرة كهدف وحيد للحياة، لكنها حتى حين اختارت تعليماً جامعياً لم تكن مجرد طالبة علم بل سرعان ما انضمت إلى صفوف الطلاب المناضلين ضد الاستعمار الإنجليزي وأصبحت بين طليعتهم سكرتيرة للجنة الوطنية العليا للطلاب والعمال التي قادت مظاهرات 1946.

اختيار كلفها سجناً ومطاردة وقهراً من السلطة والمجتمع معاً، دفعت معه الكثير من سنوات العمر لتصبح الجوهرة أكثر صلابة وقوة وتوهجاً فلم نرها على تقلب الأحداث وتغير المبادئ من حولها تهتز أو تمسك العصا من منتصفها كما فعل الكثيرون، بل كان وضوح الرؤيا هو المصباح الذي لم يغب أبداً عن مسيرتها في الحياة وهو ما دفعها إلى كتابة "حملة تفتيش في أوراق شخصية" - هذا الكتاب الفريد في الكتابة العربية.

عن ماذا كانت تفتش لطيفة الزيات وهي تسترجع أحداث حياتها الشخصية الممتزجة بأوجاع الوطن، هل كانت تحاسب نفسها فيما أصابت وفيما انكسرت؟!

ربما، لكن المؤكد أن الأصوات التي امتلكت حق المحاسبة لها كانت في صوت الضمير - ضميرها هي في سنوات العمر المختلفة - هي - المرأة في الأربعين - الطفلة - حتى الذات في أغوارها المعتمة داخل الممرات الكثيرة في بيت العائلة، لا لم يكن ضمير لطيفة الزيات وحده الذي يحاور، كان ضمير أمة بأسرها امتزجت بها حتى لم يعد هناك فارق بين الاثنين، كانت هي الراوية وهي الفاعلة وهي الوطن أيضاً. إنها قمة الصدق حين تشف الروح وتستطيع أن تحاسب الذات عن بعد ومسافة واجبة كي ترى بوضوح أكثر ما لم تره حين كانت في قلب الحدث.

وأذكر أنني كنت أتحدث مع الناقد الكبير سامي خشبة عن روايتها "حملة تفتيش" فقال لي: اطلبي منها على لساني أن تكمل هذه الكتابة فنحن بحاجة إليها، وحين نقلت لها الرسالة ضحكت ضحكتها الصافية المجلجلة سألتني: هالة لماذا تعتبرينها رواية؟!

قلت أنت تعرفين أنه لا توجد كتابة بريئة وقد تكونين بدأتها بوعي كتابة سيرة، لكنني متأكدة أنك حين اخترت لها الشكل اخترت قالب الرواية الحديثة، الزمن المكسور، والأصوات المتعددة، والأحداث المتنوعة الرؤيا، حتى وجودك ذاته اكتسب ذاتاً أخرى واقترب من الصيغة الجديدة الميتا نص - نعم إنها رواية كاملة المواصفات لأن اختيار الأحداث لم يأت عفوياً ومحدداً للأطر العامة بل جاء فنياً يرسم صورة داخلية للإنسان وصورة خارجية للوطن.

نظرت نحوي طويلاً وهزت رأسها وابتسامة رضا تضيء الوجه البشوش، وأذكر أنني توقفت كثيراً أمام روايتها "صاحب البيت" لكي أكتب عنها، لكنني لم أستطع - كانت الرواية تحكي عن قهر القهر، زوج هارب من مطاردة البوليس السياسي يلتقي مع زوجته في بيت بناحية المعادي بعد طول فراق، مساحة ضيقة يشاركهما فيها صديق رذل لا يتركهما حتى لحظات النوم، وعن بُعد قليل يعيش صاحب البيت في مبنى قريب، يرصد حركتهم بفضول يجعله يكتشف حقيقتهم في النهاية. لقد أمسك الصديق برقبتي وأنا أقرأ حتى خلته يقبع فوق أنفاسي أنا لا بطلة الرواية، وشعرت بخطواتها وهي تهرب إلى المترو وتبتعد تاركة كل ما أحبت وكافحت من أجله حين استحال إلى جحيم، كأنها تطلب من الحياة أن تأخذ منها ما تريده لا ما تحدده لها - هكذا كانت لطيفة الزيات الإنسان في كل مواقفها - والتي انعكست بصدق على مشاعر بطلتها، وحين عادت البطلة إلى زوجها لتنقذه في آخر لحظة عندما قرأت في القطار صحف الصباح ورأت صورته منشورة فيها وأدركت أن صاحب البيت لابد متعرف عليه، كانت أيضاً تعكس صورة الكاتبة التي تستطيع أن تواجه موقفاً آخر بشجاعة حين تكتشف ضرورة أن تعيد النظر فيه ..

إن أعمال لطيفة الزيات الإبداعية والتي بدأت "بالبيت المفتوح" أول رواية عربية لكاتبة نقلت كتابة المرأة إلى تيار الإبداع الحقيقي الذي يناقش قضايا المجتمع بوعي ووضوح، و"الشيخوخة"، هذا الكتاب الذي يقطر صدقاً ويعد واحداً من أهم كتابات القصة القصيرة الحديثة، 1994 و (الرجل الذي عرف تهمته) عام 1991،ومسرحيتها "بيع وشراء"·

هذه الأعمال على قلتها العددية تكفي كي تضع لطيفة الزيات على قمة الإبداع العربي وسط كبار مبدعيه، لكن الإبداع لم يكن دورها، فبالإضافة إلى دورها الوطني في رئاسة لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية يبرز دورها كأستاذة جامعية، وأعتقد أن تلاميذها الذين يديرون دفة الحياة الثقافية المصرية الآن قادرون على تبني بحوث ترصد هذا الدور وتلقي الأضواء المناسبة عليه ..

أما لطيفة الزيات الناقدة فقد صدر لها - بالإضافة إلى المقالات العربية والإنجليزية - عدة مؤلفات منها: الصورة والمثال، حول الفن: رؤية ماركسية، نجيب محفوظ وغيرها.

رَحَلـَت لطيفة الزيات الإنسانة جسداً، وبقيت بيننا روحاً صادقة تدفعنا بإخلاص إلى اقتحام الحياة، عاشت أيامها تغزل على إيقاع الوطن، فاستحقت بجدارة أن تصبح إحدى رموزه، والرمز لا يفنى ولا يموت.
---------------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان