19 - 06 - 2024

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في "لاهاي" لا تقل فداحة عن هزيمتها في "غزة"

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في

السابع من أكتوبر 20023 والحادي عشر من يناير 2024 تاريخان سيسجلان بحروف مضيئة في سجل النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، وسيشكلان معًا صورة النهاية المرتقبة للدولة المصنعة والمحمية من النظام الدولي الذي يشهد بدوره فصلًا مهما من فصول نهايته القريبة.

ما قام به ألف ومائتان من شباب المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 كان إعجازيًا قدر ما كان صادمًا ومفاجئًا، اهتزت له كل الأسس التي قامت عليها دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة، أجبر قادة رعاتها الدوليين على أن يهرعوا إليها حاملين معهم ما تيسر من حاملات طائرات وبوارج حربية وغواصات نووية والكثير الكثير من الأكاذيب والقصص الملفقة والدعايات الممنهجة والحملات الإعلامية المركزة فقط لتتمكن إسرائيل من مواجهة فصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصرة منذ ستة عشر سنة.

وما قامت به جمهورية جنوب إفريقيا يوم 11 يناير 2024 كان صدمة إسرائيل الثالثة في غضون مائة يوم، التي شهدت تفاصيل يومية وعلى مدار الساعة لوقائع الصدمة الثانية لجيش الاحتلال الذي لم يستطع أن يحقق أيًا من أهدافه المعلنة، بسبب الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، والبسالة الفائقة التي أظهرتها مقاومته المسلحة على طول وعرض وعمق القطاع الأسير.

صدمة إسرائيل الثالثة أن تجد نفسها مجبرة على أن تقف متهمة في لاهاي أمام "محكمة العدل الدولية" فيما أطلق عليه البعض "قضية القرن"، بآخر تهمة كانت تتوقع أن تساق بها إلى محكمة العدل الدولية، التهمة التي اعتاشت عليها طويلًا، وهي القضية التي سيكون لها ما بعدها أيًا كان قرار المحكمة. 

**

هي المرة الأولى التي تقف إسرائيل أمام قضاة محكمة العدل الدولية متلبسة بجريمة الإبادة الجماعية، ولكنها ليست المرة الوحيدة التي تساق فيها إسرائيل إلى العدل، كانت المرة الأولى منذ عشرين سنة بالتحديد في يناير 2004، وكانت هذه الجولة تتعلق بطلب من الأمم المتحدة موجه إلى محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي فيما سمي عن حق بجدار الفصل العنصري الذي شرعت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون في بنائه على الأراضي الفلسطينية المحتلة بالضفة الغربية في 23 يونيو 2002، قرب الخط الأخضر، أو ما يعرف بخط الهدنة.

الدعوى التي تقدمت بها جمهورية جنوب إفريقيا للمحكمة الدولية هي الأشد وقعًا على إسرائيل، وقد اضطرت إلى المثول أمام محكمة العدل الدولية كمتهم بجريمة طالما طنطنت إسرائيل بارتكابها في حق اليهود، وهي الجريمة نفسها التي دفعت كبار القانونيين اليهود في العالم إلى المشاركة في صياغة وإطلاق أول معاهدة لحقوق الإنسان اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة المتمثلة في البنود التسعة عشر التي حوتها اتفاقية 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

**

كانت قضية المحرقة النازية هي المحرك الأساسي للتوافق الدولي حول منع تكرار الجريمة مجددًا وإعلان التزام المجتمع الدولي بألا تتكرر فظائع الإبادة أبدًا، وتنص على واجب الدول الموقعة عليها في منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

لم يكن يهود العالم وقتها يتوقعون أن تجر الدولة اليهودية نفسها إلى الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، المخول بالفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في الاتهام بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

 **

الطلب هذه المرة جاء من جمهورية جنوب إفريقيا التي رفعت في 29 ديسمبر 2023، دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بتهمة "انتهاك" اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. مطالبة بإصدار أمر عاجل لإسرائيل بـ "تعليق فوري لعملياتها العسكرية" في قطاع غزة.

في التعريف القانوني طبقًا للاتفاقية الدولية فإن جريمة الإبادة الجماعية تعني التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم أو جنسيتهم أو دينهم أو أصلهم. 

وتتحقق بإحدى الصور المنصوص عليها حصرًا في المادة الثانية من الاتفاقية، ومنها إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.

وهي الصورة المتحققة على أرض غزة ببشاعة ووحشية منقطعة النظير، تلك البشاعة التي تثبتها آلاف الأدلة والقرائن والصور المتلفزة والفيديوهات والصوتيات وغيرها من وسائل الاثبات.

**

في الجولة الأولى جاء رأي المحكمة واضحًا وحازمًا ومقررًا للعديد من ثوابت القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وللكثير من بنود المعاهدات الدولية، وقد صدر رأي المحكمة الاستشاري بأغلبية القضاء وبمعارضة صوت واحد هو صوت القاضي الأمريكي بوير جينثال، وتناول رأي محكمة العدل الدولية خمسة جوانب حول جدار الفصل العنصري:

أولها أن بناء الجدار الذي شيدته إسرائيل وهي سلطة الاحتلال في الأرضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك في أراضي القدس الشرقية وما حولها، وملحقاته يتعارض مع القانون الدولي.

ثانيها أن إسرائيل ملزمة بوضع حد لانتهاكها القانون الدولي، وهي ملزمة بأن توقف على الفور أعمال بناء الجدار الجارية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك أراضي القدس الشرقية وما حولها، وأن تفكك على الفور الإنشاءات المقامة هناك، وأن تلقي أو تبطل على الفور جميع الإجراءات التشريعية والتنظيمية المتعلقة به

ثالثها أن إسرائيل ملزمة بدفع تعويضات عن جميع الأضرار الناتجة عن تشيد الجدار في الأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك الأراضي في القدس الشرقية وما حولها.

رابعها  أنه يتعين على جميع الدول الالتزام بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناشئ عن بناء الجدار وعدم تقديم العون أو المساعدة للمحافظة على الوضع الذي نتج عن ذلك البناء. ويجب على جميع الدول الأطراف في معاهدة جنيف الرابعة ذات الصلة بحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب والموقعة في 12 أغسطس 1949، أن تلتزم أيضاً وعلاوة على احترامها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي بضمان امتثال إسرائيل للقانون الإنساني الدولي حسبما هو متضمن في تلك المعاهدة.

وأخيرًا أنه يجب على الأمم المتحدة ولا سيما الجمعية العامة ومجلس الأمن دراسة الإجراءات الأخرى المطلوب اتخاذها لإنهاء الوضع غير القانوني الناتج عن بناء الجدار وملحقاته وأخذ الرأي الاستشاري الحالي في الحسبان.

**

 لم تمثل إسرائيل أمام المحكمة في الجولة الأولى، ولا شاركت في المرافعات الشفهية أمام قضاة المحكمة، لكنها تقدمت بمذكرات كتابية حول عدم وجود الصلاحية للمحكمة للنظر في قضية الجدار.

تناولت المحكمة بصورة مقتضبة، ذريعة إسرائيل الأمنية التي تنتهك بها بهذه الحقوق، طبقا للقانون الدولي. وقد أشارت محكمة العدل الدولية إلى أنه من حق إسرائيل، ومن واجبها، حماية مواطنيها من أعمال العنف؛ غير أنه يتوجب أن تتفق وسائل الحماية التي يتم استعمالها، مع تعليمات القانون الدولي.

انتقدت إسرائيل بشدة في مرافعتها التحريرية استخدام المحكمة للفظة "جدار" على أساس أنه يعكس موقفًا يفتقر إلى الموضوعية نظرًا للاستخدام المنتقص لتعبير "جدار" مع توفر تعبير محايد هو "حاجز" استخدمه كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة وقتها في تقريره، فإن إسرائيل تعترض على اعتماد المحكمة لتعبير "جدار: في صياغة عنوان القضية.

حتى تعبير "الأراضي الفلسطينية المحتلة" الذي استخدمته الأمم المتحدة في طلبها إلى محكمة العدل الدولية للرأي حول جدار الفصل العنصري رفضته إسرائيل بشدة وانتقدته في مرافعتها التحريرية وقالت إن استخدام هذا التعبير قد يشعر بوجود خطوط فاصلة قد تمثل حدودًا لدولة فلسطينية في المستقبل.

**

محاكمة إسرائيل تحت نظر وسمع العالم هو أسوأ ما واجهته من الأثار المترتبة على استقدامها للمثول كمتهة، أمام محكمة العدل الدولية وقد خسرت معركتها بغضّ النظر عن قرارات القضاة.

المحاكمة نفسها وجر إسرائيل إلى المثول لها، هو أول مظاهر تلك الخسارة التي جعلتها تتراجع ـ ولو على المستوى اللفظي ـ عن الكثير من أهدافها المعلنة، فنفت نيتها تنفيذ التطهير العرقي، أو إعادة احتلال أو اقتطاع أجزاء من قطاع غزّة.

إسرائيل التي اعتادت بقاءها فوق المساءلة، وانفلاتها من القانون الدولي طوال 75 سنة هي عمرها كله، تجد نفسها في قفص الاتهام والمساءلة وعيون شعوب العالم تدينها وهذه هي أكبر خساراتها، التي فرضت عليها عزلة دولية لم تشهد لها مثيلًا من قبل، بينما القضية الفلسطينية تعود مجددًا إلى واجهة الأحداث، في ظل دعم واسع للحقوق الفلسطينية في الاستقلال والتحرر والعيش بكرامة.

المحاكمة في حد ذاتها ـ أيًا كانت قرارات قضاتها ـ صنعت مسارًا لا يمكن إيقافه أو اعتراض مسيرته، وما جرى يومي 11 و12 يناير 2024 في لاهاي يمثل نقطة مفصلية على طريق هزيمة المشروع، والنهايات مفتوحة على خسائر كثيرة لإسرائيل في المستقبل القريب.
--------------------------------
بقلم: محمد حماد


مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في





اعلان