08 - 07 - 2025

مالا تعرفه عن نيلسون مانديلا: ملهم الحرية والتسامح للعالم كان "أتعس البشر" لأن عائلته تحولت لشظايا!

مالا تعرفه عن نيلسون مانديلا: ملهم الحرية والتسامح للعالم كان

في صيف عام 1946، التحق جندي عسكري شاب يدعى جولز برود كطالب قانون في جامعة ويتس في جوهانسبرج  في جنوب أفريقيا. 

بينما كان ينتظر بدء محاضرته الأولى، دخل رجل "طويل القامة ووسيم". 

يتذكر برود تلك اللحظة بعد عقود قائلاً: "كان يرتدي حزامًا ضخمًا"، ورفع الجميع نظرهم نحوه وشعروا بحضوره. 

لكن لم يكن الطول ولا الكتفين العريضتين هما ما استرعى انتباه الجميع في القاعة: بل لون بشرته. 

كان نيلسون مانديلا الطالب الأسود الوحيد في فصله.

شق مانديلا طريقه إلى كرسي فارغ بجوار كرسي براود، وفي اللحظة التي جلس فيها، قام الطالب الجالس على الجانب الآخر منه بالوقوف والتوجه للجلوس على الجانب الآخر من الغرفة.

لم يقل أحد كلمة واحدة ودخل الاستاذ وبدأت المحاضرة.

عندما انتهت المحاضرة، قدم برود نفسه لمانديلا وأصبح الاثنان صديقين مدى الحياة.

لمدة نصف قرن، لم يذكر أي منهما ما حدث في ذلك اليوم، لكن في عام 1996، بعد مرور 50 عامًا بالضبط مما حصل، وفي الوقت الذي كان فيه مانديلا رئيسًا لجنوب إفريقيا ومن بين أكثر البشر تلقيًا للتكريم وهم على قيد الحياة، حضر برود مأدبة غداء كان يستضيفها الرئيس. 

في مرحلة ما، لفت مانديلا انتباه برود ودعاه اليه، وطلب منه عقد لقاء لطلاب صف القانون.

يتذكر برود أن مانديلا قال له: "وجولز، هل تتذكر عندما دخلت الفصل وجلست.. ونهض الرجل من جانبي". 

اجاب برود "أتذكر، كان اسمه بالي دي كليرك". 

قال مانديلا "من فضلك تأكد من دعوته للحضور".

سأل براود "لماذا؟"

قال مانديلا إنه أراد أن يذكر دي كليرك بما فعله "لا يهمني إذا قال إنه يتذكر أو لا يتذكر، لأنني أريد أن أمسك بيده وأقول له: "أتذكر ما فعلت؟!".. لكني أسامحك.. والآن دعنا نرى ما يمكننا القيام به معًا من أجل مصلحة هذا البلد”.

أروي هذه القصة لأنها مثيرة.. إن ما ينقله هذا التفصيل عن مانديلا ليس واضحًا .. فهذا ليس رجلاً تصالح مع ما حدث له في الماضي.

إنها بالكاد علامة على أن الغضب الذي سبق الغفران قد انحسر؛ بل ان هذا الغضب قد تمت إعادة صياغته إلى حالة أكثر كرمًا.

في الذكرى السنوية العاشرة لوفاة مانديلا في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2013، من الصعب التوفيق بين الرجل المعقد المبهم الذي كان عليه وبين الشخصية ذات البعد الواحد التي تتذكرها بلاده ــ والتي أصبح غضبها عليها متزايدا.

قال عامل شاب أسود في مكتب في جوهانسبرج لصحيفة نيويورك تايمز في وقت سابق من هذا العام، إنه يتجنب النظر إلى تمثال مانديلا المبهج الذي يمر به وهو في طريقه إلى العمل، خشية أن يصبح "كرة من الغضب تتحرك".

أصبحت مثل هذه المشاعر شائعة بين سكان جنوب أفريقيا بشكل متزايد، وليس العثور على الأسباب امراً صعبا. 

يتولى المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي قاد جنوب أفريقيا إلى الحرية في عهد مانديلا في عام 1994، السلطة منذ ما يقرب من 30 عاما، ورغم أن الناخبين المحبطين قد يصوتون لاستمرار الحزب في الرئاسة العام المقبل ــ في الأساس بسبب الافتقار إلى بديل جدير بالثقة ــ فإن سمعته قد تتضررت بالفعل. 

كان الاحتفاء في السابق بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي يتم باعتباره الحركة التي جلبت الحرية لجنوب أفريقيا، لكنه الحزب اصبح الآن مرتبطا على نطاق واسع بالمؤسسات الفاشلة والفساد والجريمة المنظمة وسجله في الحكم مروع حقا حيث يصل معدل البطالة المتوسع في جنوب أفريقيا إلى أكثر من 40٪، كما ان التفاوت بين الناس في هذا البلد مذهل، ومعامل جيني (مقياس عدم عدالة توزيع الدخل القومي على السكان) هو الأعلى في العالم. 

يتركز جزء كبير من الفقر في البلاد بين السكان السود، وهو تذكير مروع بأنه على الرغم من انتهاء نظام الفصل العنصري قبل ثلاثة عقود تقريبا، إلا أن إرثه لا يزال قائما.

ومع عدم وجود الكثير مما يمكن أن يقدمه لنفسه، يلجأ الحزب الحاكم بشكل غريزي إلى ذكرى نيلسون مانديلا، فقد أطلق اسمه على 32 شارعًا، وأقام له ما يقرب من عشرين تمثالًا، وختم وجهه على العملات المعدنية والأوراق النقدية. 

أسباب ذكر المؤتمر لمانديلا غير ملهمة كما قد يتوقع المرء، حيث يتم استدعاء اسمه لتشجيع الوحدة الوطنية والكرم وخدمة الآخرين.

بالنسبة للعديد من الشباب السود، فإن هذا الجانب الجميل ليس ملهمًا؛ بل إنه مسيء، فاذا كان مانديلا "هو الأب المؤسس لما نراه من حولنا"، فإنهم يعتقدون أنه كان رجلاً خذل شعبه بشكل متزايد. 

في مواجهة كل هذا فإن أفضل طريقة لإحياء ذكرى مانديلا تتلخص في استرجاع شيء مما كان عليه في الواقع، وكم كان ذلك مفاجئًا.

كانت باربرا ماسيكيلا أحدى الشخصيات التي عرفته مثل أي شخص آخر في السنوات التي تلت إطلاق سراحه من السجن حيث كانت تشغل منصب رئيسة مكتبه من عام 1990 إلى عام 1995، وكانت تقضي معه حوالي 16 ساعة يوميًا.

قالت لي: "لقد كان أحد أتعس البشر الذين عرفتهم" مضيفة "من وقت لآخر تشعر أن الحزن يخرج منه. لقد كان حزنًا وغضبًا ممتزجين معًا: غضب شديد".

وتذكرت ماسيكيلا رحلة إلى تنزانيا. “[كنا نقود السيارة] إلى إحدى القرى؛ واصطف الناس في الشارع لتحيته. لقد كانوا بسطاء من سكان الريف وصرخوا للتو: "مانديلا! مانديلا!" وكان الأمر مؤثرًا جدًا حقًا..وكان بخير، مبتهجًا، على طبيعته المعتادة، لكن عندما وصلت القافلة إلى القرية ووجدنا أنفسنا بين هؤلاء الناس الذين يصرخون.. توقف عن التلويح.. لم يكن هناك سوى سكون، وسكون قاتم، ومخيف، وحزن لا يطاق تقريبًا".

ما هو مصدر هذه المشاعر؟

خلال السنوات الـ 27 التي قضاها في السجن، انهار عالم مانديلا الشخصي، فقد ترك ابنه الأكبر ثيمبي دراسته وانجرف قبل أن يموت صغيرًا بشكل مأساوي، وتخلى ابنه الأصغر ماكجاثو عن تعليمه أيضًا، وأصبح مدمنًا على الكحول، وكافح من أجل تنظيم حياته المهنية، أما بالنسبة لزيندزي ابنة مانديلا الصغرى، ففي الثمانينيات، استخدم مانديلا نفوذه المتصاعد لإدخالها إلى الجامعة، ليكتشف أنها انضمت من وراء ظهره إلى قوة مسلحة متمردة بقيادة والدتها.

كان الأمر بالنسبة لمانديلا كما لو أن قنبلة انفجرت وحولت عائلته إلى شظايا. 

كتب إلى ماكجاثو يائساً وقال إن الجيل القادم من عائلة مانديلا، يعاني من ضعف التعليم، ويفتقر إلى الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسه، "وسيُحكم عليه إلى الأبد بالوضع المهين المتمثل في الخضوع للآخرين"، وتوسل إلى زيندزي قائلاً: "كيف يمكن أن يُتوقع مني أن أقود أمة عندما لا أستطيع رعاية أسرتي؟"

كان هذا منبع الحزن لدى مانديلا. 

شعر مانديلا بأنه فشل في تحمل المسؤولية الأكثر قدسية على الإطلاق في حياته والمتمثلة في أن يكون أبًا لأطفال سود في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهي أكثر الأراضي عدائية بالنسبة لهم، وأن يفشل في حمايتهم.

بالنسبة لرجل يتمتع بقدر ضئيل من الشرف، كان ذلك أمرًا لا يغتفر في هذا المجتمع. 

استخدم مانديلا قوته المتراكمة في محاولة إنقاذ أسرته، بعد إطلاق سراحه من السجن في فبراير/شباط 1990، لتدشين انتقال جنوب أفريقيا إلى الديمقراطية، وأحيانا بطرق مزعجة. 

كانت زوجته ويني ماديكيزيلا مانديلا تتولى قيادة عصابة من الشباب العنيفين في خضم التمرد في جنوب أفريقيا، وأصبحت الآن في ورطة، فقد اتُهمت ويني بعد وقت قصير من إطلاق سراح مانديلا، بالاختطاف، وعشية محاكمتها، اختفى أربعة من المتهمين معها وشاهد رئيسي؛ وقد تم نقلهم سراً عبر الحدود من قبل أفراد من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين فوضهم مانديلا "لإدارة الوضع"، كما قال لي أحد المقربين منه.

لقد كان أمرًا خياليًا ومضللًا، كما لو أن قوته المكتشفة حديثًا يمكن أن تشفي زوجته وتنقذ زواجه وتحيي عائلته، لكن ما كان يحاول استعادته قد مات منذ فترة طويلة.

خلال فترة عملها كرئيسة للموظفين، كانت ماسيكيلا تراقب بشكل روتيني مانديلا بينما كان يستعد للمناسبات العامة "كنا نشاهده وهو يستعد قبل أن يأتي بعض الوفود أو الأشخاص للتحدث معه. يمكنك أن تراه في الواقع وهو يصبح نيلسون مانديلا، التسامح العظيم.."

عندما يصل ضيوفه، كان يقوم بتفعيل جاذبيته الساحرة، مما يخلق هالة من الهدوء السماوي. 

كانت هذه هي عبقرية مانديلا طوال حياته المهنية: ليس قدرته على الأداء فحسب، بل صياغة الشخصية التي تتطلبها سياسات اللحظة. 

في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كان المحامي الأنيق، وكان جسمه العضلي ملفوفًا ببدلات باهظة الثمن، وسيارته فاخرة بعض الشيء. 

أن تكون أنيقًا وجميلًا وأسودًا في سنوات الفصل العنصري الأولى كان أمرًا قويًا واستفزازيًا: لقد كان ذلك بمثابة لمحة حية لعالم بديل. 

ثم، في أوائل الستينيات، عندما قرر مانديلا العمل تحت الأرض لشن صراع مسلح، وأطلق شعره ولحيته وارتدى معطفا واق من المطر؛ لقد أصبح المحامي البارع رجل حرب عصابات، وتجسيدًا لشعب يرغب في استخدام العنف.

بمجرد القبض عليه ومحاكمته، ارتدى مانديلا الشخصيات ونزعها عنه في تتابع مذهل:

الأفريقي الأصلي في بلاط رجل أبيض، 

يرتدي جلود ابن آوى والخرز؛ 

الشهيد الشبيه بالمسيح يخبر القاضي بهدوء أنه مستعد للموت.

لكن لماذا اختار في التسعينيات الشخصية التي اختارها: شديدة اللطف، وخفيفة جدًا، وكريمة جدًا؟

لأنه كان يعتقد أن بلاده معرضة للحرب، والحرب الآن، في نهاية الفصل العنصري، من شأنها أن تؤدي إلى تدمير جنوب أفريقيا. 

لقد أدرك أنه كزعيم لجنوب أفريقيا السوداء، وشخصيته العلنية - ليس فقط ما قاله، ولكن روح حضوره التي لا توصف - كانت أمراً حيوياً، ولذلك اختار أن يؤدي الكرم. ويا له من عرض قدمه. 

يقف شاهقا فوق بيتسي فيروارد، أرملة مهندس الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وذراعه يلتف حولها بشكل وقائي، ويحميها من كل ما تخشاه. 

رفع كأس العالم للرجبي عالياً مع الكابتن الأبيض لفريق سبرينغبوكس، وبالتالي ترويض رمز عظيم للقوة الأفريكانية.

كانت هذه العروض رائعة، لكنها ولدت من إحساس متواضع بما هو ممكن. 

لم يكن مانديلا يشبه مارتن لوثر كينغ، الذي كان يعتقد أنه لن يكون هناك مستقبل مشترك قبل أن تتغير النفوس البشرية بل كان رجلاً صعبًا وعمليًا واعتقد أنه يستطيع استخدام منصبه الفريد لجلب مؤسسات الديمقراطية الدستورية إلى بلاده دون إثارة حرب أهلية، وكان يعتقد أن هذه المهمة وحدها كانت صعبة بما فيه الكفاية.

والنتيجة هي أن النسخة التي اختار أن يظهرها لشعبه، السود في جنوب أفريقيا، كانت معدلة للغاية. 

ومن المفارقات أن ما استبعده عن الواجهة كان هو العامل المشترك الذي جمعهم به بشكل مكثف: الندبات، والغضب، والألم الحارق. 

لقد شعر أن الساحة السياسية في أواخر الفصل العنصري لا يمكن أن تحتوي على مثل هذه المشاعر فإذا كان هناك مستقبل، فلا بد من أن يتم إخفاء كل هذه المشاعر.

لقد مات مانديلا منذ 10 سنوات وأشك في أنه سيتفاجأ بالاستياء السائد في بلاده، أو أن يكون بعضًا منه موجهًا إليه. 

وأظن أنه سيعترف بالذنب فيما يتعلق بتهمة ترك عمل ما غير مكتمل فقد فعل ما هو ممكن في الأوقات الهشة، وكان الباقي دائما متروك لأولئك الذين جاؤوا بعده.
---------------------------------------
جوني شتاينبرغ * - فايننشال تايمز البريطانية
* يُدرّس في مجلس الدراسات الأفريقية في مركز ماكميلان بجامعة ييل، وهو مؤلف كتاب "ويني ونيلسون: صورة زواج"