18 - 06 - 2024

الكيمياء من الخرافة إلى العلم

الكيمياء من الخرافة إلى العلم

قبل الحضارة الإسلامية، كانت الكيمياء تتراوح بين الخرافة والعلم، بل أنّ الحسن بن محمد الاسكندري (توفي في 1243) كشف في كتاب "الحيل البابلية" أن بعض أعمال السحر هي خدع كيميائية تخضع لقواعد علمية. وعمل علماء من وزن جابر بن حيان وأبو بكر الرازي وذو النون المصري، على إرساء الكيمياء كعلم واضح. وساعدهم في ذلك فهم عميق عن الترابط بين أشكال الوجود المختلفة. 

وقبل ذلك، كانت كتب الكيمياء القديمة تتحدث عن الخيمياء Alchemy، وتضم مزيجاً من السحر والتنجيم والعبارات الرمزية الغامضة، ما غطى على الأشياء الجيّدة علميّاً فيها. ويتصدر تاريخ الكيمياء عند العرب كتب الصناعات الكيميائية، بالاحرى التقانة (التكنولوجيا) الكيميائية. وتمتاز تلك الكتب بأنها تشرح العمليات الكيميائية بلغة سهلة واضحة. وتشمل صناعة مواد الكتابة والصيدلة والعطور والمواد الحربية والجواهر والمعادن وصك العملات، إضافة إلى الكتب الشاملة التي تتناول تلك الصناعات في مجموعها.  ويأتي رافد آخر متمثلاً في الدراسات الآثارية التي تتناول الأصباغ والأحبار وأنواع ورق المخطوطات، ومواد البناء، والمصنوعات المعدنية المختلفة كالنقود والحلي وغيرها. وللأسف، لم تحدث دراسات وافية تستوفي تلك المراجع التراثية كلها، على رغم جهود دؤوبة متنوّعة.

صناعة العطور

في مجال تصنيع العطور، نجد رسائل صغيرة نشرت منذ وقت بعيد، في أماكن نائية كإيران وأوروبا. تشمل رسائل يوحنا بن ماسويه، والكندي وابن كيثان وابن مندوية وابن الجزار. ولعل أبرز المؤلفات في تصنيع العطور هو "طيب العروس وريحان النفوس" للتميمي الذي كان طبيباً وصيدلانياً متمرساً وعالماً بالتقانة الكيميائية. يحتوي الكتاب على وصفات للعطور المختلفة، بالوسائل والأدوات الكيميائية، فيه استعمال القرعة والأمبيق والصلاية والتنور وغيرها من الآلات.  

ويذكر المؤلف تهيئة مستوى الحرارة المناسب لتحضير العطور، وختم وعاء التفاعل بالطين، ويتحدث عن التصعيد (= تحويل المواد الصلبة إلى غاز من دون المرور بالحال السائل) وغيرها. وهناك حاجة ماسة إلى تحقيق الكتاب وفق المناهج العلمية المعتمدة في التحقيق، وضمنها التعريف بالمصطلحات وأسماء المواد والأدوات والعمليات وغيرها. ونجد في الكتاب نفسه وصفاً لأنواع العطور من ناحية تركيبها الكيميائي. ويوضح كيفية تحضير كل نوع من العطور. ويصف تراكيب عطرية تتراوح بين كونها مسحوقاً جافاً، أو سائلاً مركزاً مستخلصاً (= دهن، وفق اصطلاح القدماء)، أو محلولاً خفيفاً وما إلى ذلك. وفي المعاجم التراثية، هناك مصطلحات متصلة بالكيمياء لكن بعضها ليس واضح التعريف، كـ "اللخلخة" الذي لا يعرف بسوى كونه (طيب مجموع يُتلَطخ به). 

وفي المقابل، توصل لطف الله قاري، وهو محقق كتاب "طيب العروس..."، إلى أنها محلول عطري يأتي في الدرجة الثانية بعد المستخلصات المركزة (أي الأدهان). ويصف الكتاب صنع "دهن المأمون" استناداً إلى كتاب يوحنا بن ماسويه، ويقول: "تسد رأس البرنية على الدهن والثفل سداً جيداً حتى يبرد، ثم أفرغ الدهن في قدح، وبخر البرنية، وأعد الدهن إليها... ثم صب على الثفل الذي صفيت عنه الدهن.. ثم تصفى الدهن الثاني عن الثفل في قوارير... ويؤخذ الثفل ويستعمل في لخاخ الحمام". ووفق هذا الوصف، تكون "الخلخلة" كناية عن سائل فواح يوضع في وعاء مكشوف ليشم من حوله رائحة عطره. 

عن السموم 

قدم العلماء العرب مساهمات متميزة في تاريخ علم السموم عبر مؤلفات متنوعة، لكن أكثرها للأسف يعتبر مفقوداً حاضراً. ويظهر من عناوينها أن الأطباء العرب بوازع من الدين أو من آداب الصنعة، لم يعلنوا للملأ معلوماتهم في تركيب وصفات السموم القاتلة. وأغلب ما كتبوه كان في وسائل الوقاية منها وعلاج حالاتها المرضية سواء أكانت تلك الحالات جنائية أو بسبب طوارئ عفويّة، ولذلك كانت أكثر كتبهم في الترقيات ضد السموم.  ومن تلك المؤلفات، كتاب"السموم ودفع مضارها" لمؤلفه جابر بن حيان الكوفي (القرن الثاني للهجرة)، و"المنقذ من الهلكة في دفع السمائم المهلكة" للطبيب حسين ابن أبي الثعلب بن المبارك (القرن الخامس الهجري)، و"الرسالة الفاضلية في السموم" لأبي عمران عبيد بن ميمون القرطبي (القرن السادس الهجري). وهناك مؤلفات مترجمة تناولت السموم، منها كتاب "السموم" لليوناني ياريوقا، الذي ترجمه ابن وحشية الكلداني (القرن الثالث الهجري)، و"المعرفة في دفع السموم وحفظ الصحة" لبدر الدين محمد القوصوني (القرن العاشر الهجري). 

وهناك مؤلفات تناولت النباتات السامة وتشخيص أنواعها ووصف أشكالها وتعيين مخاطرها الصحية، ككتاب "الدلائل" للحسن بن البهلول، و"الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لإبن البيطار. وثمة مؤلفات عن الحيوانات السامة، كـكتاب "الحيوان" للجاحظ، و"عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني، و"حياة الحيوان" للدميري. وحدد العلماء العرب الأهداف العلمية والانسانية من كتابة المؤلفات المتخصصة عن السموم ومقدار الجهود المبذولة في حماية الانسان ضد مخاطر السموم وطرق التحذير من مخاطرها، واتباع الطرق الصحيحة في علاج حالات التسمم العفوية. ويظهر في كتابات جابر بن حيان ملامح لفلسفة علمية عربية تُعلي شأن العلم لأنه يكشف الآفات والبلايا ويحفظ الصحة الجسمية والممتلكات المادية والحية. وأدرك بن حيان أن جوانب الكسب في العمل العلمي تتركز على الكسب الروحي وخدمة الانسان. وتتجسد المسؤولية العلمية عنده فيما أورده في كتابه عن السموم، إذ قال: "غرضنا في هذا الكتاب هو الابانة عن أسماء هذه السموم وأنواعها وكُنه أفعالها وكمية ما يسقي منها ومعرفة الجيد من أنواعها والدئ ومنازل صورها والأعضاء المخصوصة بأفعالها... وأذكر الأدوية التي يحرس بها من السموم قبل أخذها وايصالها إلى الأبدان والخلاص منها". 

وكذلك تناول ابن حيان فلسفته في التخلص من مخاطر السموم والموقف العلمي الثابت عند العالِم العربي في اخفاء المعلومات عن السموم عن العموم، وحصرها بين المتخصصين خشية استغلالها للإضرار بالبشر. وفي ذلك، قال ابن حيان: "إنما ذكرت هذه الوجوه لحاجتنا الى وجوه المنافع والخلاص من أفعال السموم وإذ كان ذلك أكثر الأسباب الداعية لنا إلى ذكر السموم... لأنا إنما قصدنا إلى التحرر منها والخلاص من أفعالها. بما نرجو به المنزلة والثواب من الله تعالى... أقول إنه حرام على من عرف ما في هذا الكتاب إن أعطاه لمن لا يتوقى أو يخاف الله فانه يوثق به ويكون داعياً الى هلاكه ودوام قصاصه". وتطّرق الحسين بن أبي ثعلب بن المبارك الطبيب في "المنقذ من الهلكة..." إلى أهدافه فيه، فقال: "في كتابي هذا ما استخرجه الحكماء بالفطن العقلية والأفكار النفيسة والتجارب الطبيعية من العلامات والدلائل التي بمعرفتها تأمن الملوك العظماء والسلاطين الأجلاء من التلف والهلكة، وينقذهم من الأغراض المشهورة والأسقام المزمنة، ويظهرهم على من أراد كيدهم، أو همَّ بسوء يفعله بهم".
----------------------------
بقلم: د. خالد عزب

مقالات اخرى للكاتب

عن مستقبل الدوريات التاريخية العربية





اعلان