19 - 06 - 2024

مدخل إلى تهويد القدس (3 – 3)

مدخل إلى تهويد القدس (3 – 3)

رغم هذا الانقسام بشأن إعادة بناء الهيكل، فإننا نجد أن بعض الأطروحات التي صنفت في الماضي باعتبارها دينية مهووسة ومتطرفة، صارت مقبولة بل أصبحت جزءًا من الخطاب السياسي الصهيوني، أو ضمن برامج الأحزاب المعتدلة! ولذا فليس من المستبعد أن نجد جميع الصهاينة (الأقلية المتدينة والأغلبية الملحدة) تؤيد كلها بعد قليل إعادة بناء الهيكل باعتباره أمرًا أساسيًا للعقيدة الصهيونية لا تكتمل بدونه. 

ويرى المسيحيون الأصوليون أن بناء الهيكل هو الشرط الأساسي للعودة الثانية للمسيح. وهم ينظرون إلى قيام إسرائيل عام 1948 على أنه تأكيد لنبوءات التوراة حول نهاية العالم وإحلال مملكة جديدة مع المجيء الثاني للمسيح بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة. وانتظرت المسيحية الصهيونية اكتمال خطة الرب بعد تأسيس إسرائيل، وبالتالي كان انتصار إسرائيل في حرب يونية 1967، واحتلالها لبقية أرض فلسطين وبخاصة القدس، إضافة إلى أراض عربية أخرى، تأكيدًا على أن خطة الرب تكتمل وأن النبوءات التوراتية تتحقق وأن نهاية التاريخ أصبحت قريبة. 

وأنتجت المنظمة الأصولية الأمريكية العديد من الأفلام والبرامج التي تروج لهذه الرؤية. أبرزها ما رعى إنتاجه القس والواعظ الأمريكي التليفزيوني مايك إيفانز، ففي برنامجه الاستعراضي (إسرائيل: مفتاح أمريكا للبقاء) الذي كان يبث في 50 محطة تليفزيونية عبر 25 ولاية، لمدة ساعة يوميًا، عام 1983، تحدث إيفانز عن أن الرب أمره بوضوح برعاية إسرائيل، ولذا قام بإنتاج هذا البرنامج الخاص بإسرائيل، وقال: "إن إسرائيل تلعب دورًا حاسمًا في المصير الروحي والسياسي لأمريكا، كما أن تخلى إسرائيل عن الضفة الغربية سوف يجر الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة من بعدها" ونشر إيفانز في ديسمبر عام 1983، إعلانًا في صفحة كاملة في صحيفة (نيويورك تايمز) جاء فيه: "إن بقاء إسرائيل حيوي لبقائنا، وإن الإيمان بإسرائيل يعزز موقف الولايات المتحدة الأمريكية". وأنتج فيلما عنوانه (القدس عاصمة داود) ربط فيه بين أمريكا وعاصمتها واشنطن والقدس.

لماذا ننسى؟

إن البعد الإعلامي الذي يحمل خطابًا حضاريًا نفتقده اليوم في مخاطبة الآخرين للتعريف بقضيتنا، بالرغم من إجادة أجدادنا استخدام هذا الخطاب في المدينة المقدسة القدس، فقد نجح عبد الملك بن مروان في ظل الصراع الدولي بينه وبين الدولة البيزنطية من خلال اهتمامه بالمقدسات الإسلامية في القدس في إيصال رسالة إعلامية وحضارية وتراثية إلى الدولة البيزنطية. ومازلنا إلى اليوم نستفيد من هذه الرسالة. ولكن لم ننجح في استيعاب الدرس الخاص بها. جاءت هذه الرسالة ضمن مخطط عبد الملك إعمار الحرم القدسي الشريف.

تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية. يعود تشييد القبة إلى العصر الأموي، الذي شهد نزاعًا حضاريًا بين الدولة الأموية والدولة البيزنطية على السيطرة على العالم القديم. واتخذ هذا النزاع صورًا متعددة. منها تعريب طراز أوراق البردي التي كانت تصنع في مصر وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبد الملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين، ورغبته في إعادة حق ضرب النقود إلى الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد أن انتزع حق ضرب النقود كثير من الولاة والثائرين. فكان الإصلاح النقدي سببًا هامًا في القضاء على الفوضى السائدة تحقيقًا للاستقرار السياسي، فضلاً عن أن النقد العربي الخالص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي، لذا اتجه عبد الملك إلى الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود، فضلا عما يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتد عبر مساحات شاسعة من الأراضي.

اتجه عبد الملك بن مروان في إطار هذا المخطط الشامل إلى العمارة التي ترمز إلى سيادة الدولة واتجاهها الفكري، ففي القدس تبنى مشروعًا ذا طابع سياسي ديني حضاري، يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلامية فهو أول القبلتين، وفيه صلى الرسول بالأنبياء وإليه كان إسراؤه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس، خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين، ومع ما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين، ورغبة عبد الملك في إثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة تبنى مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

قبة الصخرة

ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة، أبرز آثار الحرم، فهي تعد أول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها، انتهى من بنائها عام 72هـ/692م. وهي ترى من مسافات بعيدة، وهي مبنية فوق صخرة مقدسة، حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمّن، شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على تل من تلال القدس. وهذه القبة ذات التصميم الهندسي الذي يصل لحد الكمال والروعة كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلاً وخارجًا، وكانت ومازالت تبهر الرائين؛ حتى أن كثيرًا منهم لم يملكوا أنفسهم من إضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها، مهملين في الوقت نفسه، للأسف أن يخبرونا ماذا كانت تلك اللوحات الفسيفسائية تمثل، ولا نستطيع أن نحكم على موضوعات فسيفساء القبة حكمًا كليًا؛ لأن جزءًا كبيرًا من الفسيفساء الأموية فقد، ولكننا نملك بعض الشواهد على هذه الموضوعات من فسيفساء الرواق المثمن الداخلي، يمكن عند ربطها بدقة بعمارة القبة الانتهاء إلى الرمزية السياسية لها.

مخطط القبة ليس غريبًا بالدرجة التي يبدو بها اليوم، يرى بعض المستشرقين وعلماء الآثار العرب أن تخطيط قبة الصخرة ذا أصل روماني يعرف بمخطط ضريح الشهيد، وهو عبارة الطواف حوله، وظيفته إذًا طقوسية طوافية. وهو لهذا السبب استعمل في الفترة المسيحية المبكرة في بلاد الشام، وفي مجمل الأراضي البيزنطية، في عمارة العديد من الكاتدرائيات المهمة، ككاتدرائية بصري في حوران التي ما تزال بقاياها قائمة إلى اليوم، وكنيسة القيامة في القدس نفسها، وهما الاثنتان تعودان إلى فترة الحكم البيزنطي في عهد جستنيان (حكم 527-565م). ولكن قبة الصخرة أكثر هذه المخططات توازنًا هندسيًا، وهي من دون أي شك قد قصد بها التمايز والتنافس مع قبة قبر المسيح في كنيسة القيامة التي تطل عليها من أعلى جبل مورياه. 

البقعة المباركة

ويرى الدكتور فريد شافعي أن تخطيط قبة الصخرة لا يطابق أي تخطيط لنماذج العمائر البيزنطية في منطقة بلاد الشام أو غيرها. بل هو تحوير واقتباس منها ليتفق مع الغرض الذي شيد من أجله البناء وهو أن يحيط بالصخرة، وهي البقعة المباركة التي عرج منها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين أسرى به ربه من مكة المكرمة إليها. ولذا فقد روعي في التخطيط أن يوفر غرض تعيين تلك البقعة، ثم غرض الطواف حولها للتبرك بها. وهو أمر يختلف تمام عن الذي شيدت من أجله تلك العمائر الدينية البيزنطية ذات التخطيطات المشابهة، التي عادة ما توجه نحو الحنية، ولا تتعد فيها المداخل كما تعددت في قبة الصخرة، ومهما يكن من أمر، فإن تخطيطات تلك العمائر البيزنطية ليست ابتكارات بيزنطية أو سورية، بل كانت في الأصل تخطيطات رومانية دينية سابقة، أخذت بدورها من أصول إغريقية.

وتعد فسيفساء قبة الصخرة من الناحية الحرفية امتداد للفسيفساء البيزنطية في بلاد الشام والدولة البيزنطية، ولها العديد من الأمثلة في كنائس بلاد الشام والعاصمة القسطنطينية، وأشهرها آيا صوفيا، وكنائس سالونيكا الإغريقية، غير أن فسيفساء قبة الصخرة ذات مواضيع معقدة في أصولها وكيفية اختيارها على المواضيع اللا تمثيلية، وتحصرها بالكتابات القرآنية والتسجيلية وبالتوريق والزخارف النباتية، بعض الأشكال الغامضة اليوم، والتي ربما تكون تحويرًا لتيجان ملوك ومستلزمات وظيفتهم من صولجونات ومجوهرات وما شابهها.
------------------------
بقلم: د. خالد عزب

حلقات المقال

مدخل إلى تهويد القدس (1 – 3)

مدخل إلى تهويد القدس (2 – 3)




مقالات اخرى للكاتب

عن مستقبل الدوريات التاريخية العربية





اعلان