من دواوين كريم عبد السلام، وهو من أبرز شعراء جيل التسعينيات صاحب النقلة النوعية في قصيدة النثر العربية: "الأب وقصائد المطر"، " بين رجفة وأخرى"، "باتجاه ليلنا الأصلي"، "فتاة وصبي في المدافن"، "مريم المرحة"، "نائم في الجوراسيك بارك"، "قصائد حب إلى ذئبة"، "كتاب الخبز"، "قنابل مسيلة للدموع"، "أكان لازما يا سوزي أن تعتلى صهوة أبي الهول"، "مراثي الملاكة من حلب"، "وكان رأسي طافياً على النيل"، "الوفاة السابعة لصانع الأحلام"، "شاي مع الموت"، و"محاولة لإنقاذ جيفارا". قلتُ "مِن"؛ تحسبا لسقوط ديوان أو أكثر سهوا من جانبي، ومع ذلك فالمهم هو أن تجربة كريم عبد السلام مع قصيدة النثر، إبداعاً وتنظيراً، تستحق الوقوف عندها طويلا، وهو يستحق عليها تقديرا عاليا، بما أنه أنجزها في ظل عمله المضني في بلاط صاحبة الجلال، فلكم أخذ العمل بالصحافة الكثير من الطاقة الإبداعية عند آخرين، لكنه في الوقت نفسه أفاد البعض من زوايا عدة، ليس هنا مجال حصرها. خطر لي أن أستهل بما سبق وأنا أتهيأ لكتابة ما يمكن اعتباره خواطر، استقيتها من قراءتي لديوان كريم عبد السلام، "أنا جائع يا رب"، الصادر حديثا عن دار "الأدهم"، التي يستحق مديرها الدكتور فارس خضر التحية، باعتباره واحدا من عدد قليل جدا من الناشرين الذين لا يزالون يهتمون بنشر الشعر. وبالطبع، فإن اهتمامه هذا ليس مستغربا بما أنه شاعر.
في ديوان "أنا جائع يا رب" تتوارى الذات الشاعرة، لتفسح لشخصيات عديدة يتولى سارد خارجي استعراض مآسي كل واحد منهم مع "الجوع" بمختلف تجلياته، منطلقا في القصيدة الأولى من حديث عن جموع، قبل أن يعود إليهم في القصيدة الأخيرة ويترك لهم زمام السرد بضمير المتكلم في صيغة الجمع، وكأن "الجوع" وحدهم وحفزهم على الانخراط فيما يمكن أن نسميه مجازا "ثورة جياع". فانتفاضتهم كانت في واقع الأمر ضد الكثير من مظاهر القبح والفساد. يتكلم هذا الديوان إذن بلسان الفقراء: هؤلاء لا يزعجهم أن يمتص البعوض دماءهم، ما يزعجهم هو الطنين وحسب، كما نقرأ في القصيدة الأولى. وفي القصيدة التالية، يدفع الجوع أحدهم للتفكير في قتل صاحب المخبز، في أول الشارع، "فالجوع شرير ومجنون، الجوع شيطان يحب الدم". وذاك تركت زوجته البيت، بعدما بات بلا عمل. تركت له أطفالا لا يجد ما يسد به جوعهم، فهام على وجهه يكتم صرخة "أنا جائع يا رب". إنه على هذه الحال منذ آلاف السنين، بمعنى أن جوعه متوارث جيلا بعد جيل..
أما "صياد اللمسات"، فيأكل بأصابعه، يقضي نهاره متجولا في الأسواق، سائحا بين المحال والمطاعم وعربات الخضروات والفاكهة. صياد آخر أفضل حظا يُحدث النيل ويأمل أن يجيبه الماء، لحظات، وتقفز الأسماك إلى حقيبته الخوص. وذاك يريد أن يبتسم لكنه يخشى أن تنزل على رأسه مصيبة جديدة إذا هو ابتسم.. مع الوقت تعلم أن يحيا متجهما وأن يعلق ابتساماته على الشجرة أمام البيت. وهناك عجوز تفرش بمناديل وبعد العشاء يطويها الليل، وهناك فتاة تبحث عن عمل، بينما الأيدي تجذبها، والشفاه تبتسم لها، دون صوت.
هؤلاء جميعا لا تنتظر الكلاب العقورة سواهم، دائما مستعدة بالنباح والزمجرة، فيغمضون عيونهم ويمضون. أحد الأغنياء، مدير بنك، وهو جائع على نحو مختلف، فنجده يوقع على أوراق لمطاردة العشاق في الشوارع، ولتحقيق مزيد من الاستثمار في رجال الدين، وتعيين موظفين لنشر الكراهية. هنا أمهات يطبخن الحصى وأطفال يحلمون بأشجار الفاكهة وكراسات الرسم.. ثم يخلعون أيديهم لتطبخها الأمهات.
في قصيدة "موال عن الصبر"، يصير للجائع اسم: "مصطفى". هيأتُه تقول إنه جزار في قرية ما، لكنه في واقع الأمر لا يفعل سوى جز أطراف بقرة نافقة، ويضعها في دلو معدني، قبل أن يتوجه بها إلى المدينة ليبيعها لأهلها الطيبين الذين يأكلون كل شيء. يغني لهم مواويل. يعود إلى قريته ومعه جنيهات قليلة ويواصل الغناء: "يا ليل يا عين". وفي قصيدة أخرى، سائق فقير، لا تعفيه ابتسامته ولمساته المرحبة من الإحراج أمام "أصدقائه" الآملين في عطاياه.
وإذا كان الفقر يصنع شحاذين لا يكفون عن طلب هذا وذاك، فإن هناك شحاذين آخرين لا يطلبون شيئا ويموتون في صمت. وفي الجانب الآخر شركات تلقي أطنان الطعام في المحيط، بينما امرأة "غريبة" تسقط على الرصيف؛ لأنها لم تأكل منذ يومين. وبالطبع هناك أطفال الشوارع، ومقابر مأهولة، وخادمات مسنات. هو عالم فقد قلبه منذ آلاف السنين، وحياةٌ لا سبيل لجعلها أقل قسوة.
عندما أمطرت ثلوجا في ديسمبر (ذلك الشهر الذي يأتي بعده يناير الثورة) وصمتت الطيور خوفا من الرعد والبرق، لم يجد الجائعون مفرا من التهام "مدينة الحدائق المعلقة"، حتى تتوقف الرجفة في أجسادهم. هكذا قال السارد/ الشاعر، ولم يقل مثلا "حتى تشبع بطونهم"! وحين تولوا هم الكلام عن أحوالهم، لم يجدوا مفرا من إبداء الندم على ما فعلوا، لأنهم بعده وجدوا أنفسهم أشد جوعا مما كانوا عليه في السابق!
------------------------
بقلم: علي عطا