صدر عن دار نشر جامعة حمد بن خليفة في الدوحة كتاب "المجتمع والعمران... نفوذ الناس في الحضارة الإسلامية"، من تأليف الدكتور خالد عزب. الكتاب يأتي في إطار مشروع فكري يعيد بناء نسق علم العمران ومعطياته في الحضارة الإسلامية، فقد سبق أن صدر للمؤلف نفسه كتاب بعنوان "فقه العمران" وكتاب "العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية".
ويعطينا الكتاب الأحدث في هذا المشروع بعدا إما غائبا أو تتعمد الدراسات الإسلامية تجاهله. فالناس وليس الحكام هم من شادوا صروح التعليم والمكتبات، وهم من شادوا منشأت توفير المياه للإنسان والحيوان في شوارع المدن، وهم من تولوا رعاية المجتمع ودرء المشكلات عن أفراده، بل كان توفير العلاج والدواء مجانا صونا لكرامة المريض.
يطرح علينا خالد عزب في هذا الكتاب تقسيما جديدا لطبيعة السلطة في الحضارة الإسلامية، فالفقهاء بعد الأحداث التي دارت في القرن الأول الهجري حول السلطة السياسية، شكلوا عبر العديد من النصوص سلطة المجتمع التي جري تمويلها عبر مؤسسة الوقف التي حصنت تجاه الحكام، وصارت تمول العديد من الوظائف التي قام بها المجتمع بعيدا عن يد الدولة. ومن هنا يفسر المؤلف لماذا كانت المجتمعات الإسلامية غير مكترثة بمن يحكم طالما هو يقوم بما عليه من واجبات ولا يتعرض لمال الوقف ولا لدوره في السلطة التي أصبح ينميها بالخبرة والتجربة يوما بعد يوم.
هذا يفسر لنا كما يقول خالد عزب لماذا كان المجتمع لا يلجأ إلى الحكام في حل عدد من مشكلاته بل كان القضاء هو من يحكم ويبني سوابق قانونية يجري القياس عليها. وهذا ما نراه واضحا في مصادر دراسة خالد عزب العديدة التي تجاوزت النصوص التاريخية إلى كتب النوازل والفقه إلى سجلات المحاكم الشرعية والوقفيات. فهذا الكتاب الثري في مصادره ومراجعه، هو إعادة بناء محكم لفلسفة السلطة المجتمعية وآليات عملها في الحضارة الإسلامية. بل إننا في فصل التعليم نرى الكتاتيب أو المكاتب بها منهج عمل واضح ملزم بتعليم الأطفال خاصة الأيتام. فالمجتمع يتكفل بصرف راتب شهري له وكسوتين واحدة في الصيف وأخرى في الشتاء. هنا يبرز خالد عزب نمو منهجية التعامل مع الأطفال، فعكس ما أشيع في الدراما العربية وبعض الأدبيات، كان مشايخ الكتاتيب لهم مواصفات قياسية يجري اختيارهم عبرها أبرزها عدم القسوة مع الأطفال بل أخذهم بالرفق.
إن المؤلف في هذا الكتاب يذهب إلىأن المجتمع كفل بسلطته مجانية التعليم فكان يرفض أن يتحول التعليم لسلعة، لذا فقد كان على طالب العلم أن يتفرغ تماما لتلقي وإجادة العلم، فيقيم في المدرسة ولا يغادرها مهما كان السبب. وهذه الإقامة إجبارية حتى لو كانت مدرسته إلى جوار بيته لكي تكون نفسه صافية وذهنه غير مشتت عند تلقي الدروس. ومن بين ما كفلته مؤسسة الوقف كذلك، الرعاية الصحية لكل مقيم بالبلد، فوفرت مجانا الدواء وكافة مستلزمات العلاج، بل ووفرت الأموال لتعليم الطب، حتي صارت المستشفى القلاووني في القاهرة - مثلا - يأتي إليها المرضى من كل أنحاء العالم للعلاج المجاني وهي المستشفي التي كان يدرس بها الطبيب الشهير ابن النفيس وأسرة القوصوني وداود الانطاكي، والتي طورت مفهوم علاج المرضي النفسيين، بل اعتبرت نوافير المياه وخريرها مما يساعد علي علاج المرضى، وصارت حتي تعترف بفترات النقاهة فتابعت المرضى حتى بعد عودتهم إلى منازلهم.
هذا الكتاب يقدم صورة مخالفة لكل ما كتب سابقا في الحضارة الإسلامية ، فنحن عبره نصل إلي فهم عميق لأليات الاحسان في الحضارة الإسلامية ، وكيف تنازل الأغنياء طوعا عن جانب من ثرواتهم لصالح المجتمع ، وكيف كفل هذا المجتمع الفقراء بحيث لا يبيت بيت بدون طعام ، وكفل أن يخرج طالب للعلم من المغرب إلي الصين دون أن يكون معه مال.