هو واحد من أكثر شعراء محافظة البحر الأحمر حيوية وإجادة ونشاطاً، فهو لا يكف عن الترحال في سبيل المعرفة وتعلم الجديد كل يوم ..لا ينغلق في محطة ما ويلف ويدور حولها، بل برع في عدة مجالات في الشعر والعمل الاجتماعي والسياسي، والإدارة التي مهر فيها مبكراً، وتسنم أعلى المناصب وهو دون الثلاثين..
هو الشاعر جمال عبدالعزيز بدوى الذي ولد بقرية "العطارين" مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية في مارس 1963، وهو ينتمي إلى "عرب البهجة" من قبيلة بني سليم العريقة، الذين استوطنوا مصر في بدايات الفتح الإسلامي وتوزعوا في ربوعها في شمالها وجنوبها ...
نشأ جمال بدوي في هذا القرية بين ربوعها الخضراء، وتعلم في المدارس الابتدائية بها ثم واصل تعليمه الإعدادي والثانوي بمدينة ديرب نجم، ثم في أكاديمية السادات للعلوم الإدارية بالقاهرة، ومن أساتذته الأستاذ الدكتور عادل عز وزير البحث العلمي-فيما بعد.-
جاء جمال بدوي إلى الغردقة عام 1986 عندما عين في شركة قناة السويس للتأمين، وكان في باله أن يعمل عاما أو عامين على الأكثر، ليعود بعدها إلى مسقط رأسه وعائلته الكبيرة التي يتدثر بها، إلا أن الغردقة استولت على حبه وتفكيره ووجدانه، وكما يقولون "الغردقة مثل النيل" من شرب منها لا بد أن يعود إليها مرة أخرى، وهكذا كانت الغردقة منطقة جذب وقع الآلاف في عشقها.. وتدرج جمال بدوى في مناصبه داخل الشركة حتى عين مديراً لفرع الشركة بالغردقة وهو دون الثلاثين من العمر ومازال في منصبه حتى الآن. إن دل فإنما يدل على نبوغه في الإدارة وروحه العالية..
بينه وبين جلال الأبنودي:
توطدت صلة جمال عبد العزيز بدوي بالشاعر الكبير جلال الأبنودي، الذي كان له الفضل في نشر الأدب وازدهاره في هذا إقليم البحر الأحمر - كما بينا في مقال سابق عن الأبنودي- فكان يلتقى تلامذته النجباء الذين صاروا أعلاما -فيما بعد- ومن هؤلاء جمال بدوي، وقد حفزه الأبنودي وجعله يطرق موضوعات جديدة في الشعر والأدب وعلمه علوم القافية والعروض.
وقد قال الأبنودي عنه، وهو يقدم ديوانه "زهرة الخريف": "لعل أجمل ما في الحياة – المفعمة بهمومها وأحزانها أن تجد بجانبك فتى رقيق الحس، فياض الشعور، تندفع العاطفة من تحت طي لسانه اندفاعاً فيثير فيك كوامن الشعور، وينتزع من صدرك أهة اللوعة المكتومة..وتتمثل لك مشاركته الوجدانية ونظرته الواقعية ورؤيته التخلية.. هذا الفتى هو الشاعر جمال بدوي الذي يعيش في المدينة الصاخبة، بقلب القرية الوادعة، حياء وأباء وصفاء ونقاء...".
بدأ جمال بدوي يتحسس خطاه على تراب القرية، وكان لنشأته في هذا المناخ الفطري الأول ونبع الخير وجمال الطبيعة ونقاء النسيم، الأثر في تهيئة وجدانه وإذكاء روحه وإكسابه فيضاً من الجمال الذى أسهم في إرهاف مشاعره وتنقية أحاسيسه، فقد تنسم منذ نعومة أظفاره شذا الغيطان ورحيق المواسم المكتنزة بحيوية الثمار وتأثر بوهج الأفران ورائحة الخبز الطازج الذى سوته الأيدي الخشنة الدافئة إنها القرية المكان الذى صاغ المنظومة الروحية لشاعرنا، فهو يقول في قصيدة "ربيع الحقول":
أحب الحقول
لأنى أعانق فيها السماء
وأرسم في الليل نور الصباح
وأعلم في الصبح كيف المساء
واشعر أن الفضاء مساري
وعيناي في صفوه تبحران
وفيه تهادت أغاني حياتي
ترفرف في الجداول نشوى
تبشر نفسى بقرب اللقاء
أحب الحقول
وأهل الحقول..
(ديوان زهرة الخريف، ص76).
مع الصوفية في إلهامهم:
وقد مثلت التجربة الصوفية برموزها وأقطابها رافداً على قدر كبير من الفاعلية والتأثير في تجارب شعر جمال بدوى، فقد قرأ التراث الصوفي مثل أعمال: النفري، وابن عربي، والحلاج، وعمر بن الفارض، وحكم ابن عطاء السكندري، وكانت لها أكبر الأثر في تكوينه الروحي والاندماج في التجربة الشعرية الصوفية، وكان التقائه بالعلامة الصوفي حسن كامل الملطاوى -صاحب الأعمال الجليلة منها "الصوفية في إلهامهم"- أكبر الأثر في تعمقه بالصوفية وأعلامها..وشعره في هذا يفيض بالخشوع والرهبة من خالق الكون ومدبره الله سبحانه وتعالى وهذا يظهر جلياً في قصيدته (الخوف) الذى يعلن فيها عن شعوره الإيماني وصوفيته الإيجابية حيث يقول:
أنا إن نسيتك ..لا أخاف الخوف نسيان الإله
الخوف أن يذوي ربيعي بين أهداب الحياة
الخوف أن يمضي شبابي صامتا ينعي هواه
الخوف أن ألقى إلهي خالياً بين العصاة
الخوف عمري فاسمعي الخوف في نفسى حياة
(ديوان أصداء الجرح القديم، ص118).
ومن أجمل القصائد لديه قصيدة (لا تذبحوني في الشجر)، ففي إحدى زيارته لقريته وأثناء سلوكه الطريق الجميل إليها وعلى يمينه أشجار الكافور والتوت وعلى شماله ترعة جميلة يظهرانه في أبهى المناظر والصور.. ففوجئ بمن يقرر إزالة هذه الأشجار التي تشكل عمراً له ولقريته فترجف خوفاً ويصرخ قائلاً:
مه يا بشر
لا تذبحوني في الشجر
أنس الليالي والسحر
فلحاؤها جلدي أنا
أوراقها كل الحكايا والصور
لو تعرفون حنوها
مذ كنت أحبو تحتها
تحنو عليّ بظلها
من توتها
كل الهدايا والأمل
(ديوان زهرة الخريف، ص84-85).
ويرتبط بالمكان الذى عاش فيه ومازال، وعنوان هذا المكان البحر الأحمر ودرته الغردقة وعبق تاريخه في مدينة القصير، ومنجم تعدينه في رأس غارب. هناك الشاطئ الساحر الفيروزي الذي يسر الناظرين ورماله الناعمة والموج الأزرق الذي يخطف الألباب فيهتف منادياً (يا بحر):
ألا يا بحر صدقني
أنا مثلك
ولي مدك ولي جزرك
ولي أعماقي الخرساء
والسوداء تسجنني
أنا يا بحر مجنون تداعبه
كما الإعصار أشجاني
أموج وأنحني فوقك
كطود الصبر أحزاني..
(ديوان زهرة الخريف، ص56).
ومازال الشاعر جمال بدوي يبدع ويعيش بقلب شاب ديدنه التفاؤل المفرط والبسمة التي لا تفارقه، ينفعل مع المستجدات التي تظهر في الأفاق...
------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال *
* كاتب ومؤرخ مصري