11 - 05 - 2025

ملامح تطور الأغنية المصرية كما رأتها فيروز كراوية

ملامح تطور الأغنية المصرية كما رأتها فيروز كراوية

بالرغم من ظهور حركة نقدية فنية في مصر مبكرة، إلا أنني فوجئت بكتاب يخرج عن كل سياقات النقد الفني في مصر، مستخدما التحليل الفني متواكبا مع التاريخ وأنثربولوجيا المجتمع المصري. هذه المنهجية الصعبة تطلبت باحثة من طراز فريد اكتشفتها لأول مرة عبر صفحات كتابها (كل دا كان ليه.. سردية نقدية عن الأغنية والصدارة) الصادر عن مكتبة "ديوان". أتحدث عن فيروز كراوية، وهي فنانة وباحثة في الانثروبولوجيا الثقافية، أتاح لها الجانبان قدرات في التناول غير مسبوقة، لدرجة أستطيع معها أن أقول إن هذا الكتاب هو أهم كتاب صدر في هذا المجال في مصر إلى الآن. الكتاب يدور حول قدرة الأغنية على التعبير عن المجتمع والاستجابة للمتغيرات وترسيخ القيم، فهي حاضرة في حياة المصريين كالاحتفاء بالزواج ومن منا لا يتذكر أغاني عايدة الشاعر التي لم يكن أي فرح يتم في مصر إلا بصوتها، أو أغاني شادية عن دبلة الخطوبة أو ابن العم الحبيب (غاب القمر) أو أحمد عدوية الذي عبر عن الفوضى وفقدان القيم في أغنيته الاحتجاجية (زحمة يا دنيا زحمة)، أو ما عبرت عنه فرقة رضا من صعود الطبقة الوسطي في مصر واعتبار الفن رسالة حقيقة تعبر عن التعددية الثقافية والاتجاه نحو الأداء الجماعي. 

الطقطوقة الحديثة

ترصد فيروز كراوية أنه مع دخول العوالم وكبار المطربين والملحنين عالم التسجيلات بدأت الطقطوقة بتقديم لغة تتفاعل مع جمهور أكبر وتنشغل بقضايا مثارة في ساحة الرأي العام. كان موضوع الطقطوقة الحديثة يتنوع بين الغناء الغرامي عن الألم والسعادة في الحب أو الغناء الذي يتبني موضوعات ساخرة واجتماعية وسياسية كما في أعمال سيد درويش. من حيث اللغة، استخدمت بعض الطقاطيق اللغة الكلاسيكية التي كونت قاموس الأدوار والمواويل، وسميت بالطقطوقة الراقية، وأخرى بدت لغتها أكثر اقترابا للعامية المدينية والألفاظ الشعبية وصياغاتها التي صنعت خصوصية النوع المصرية، وهي تعرف بالطقطوقة الخفيفة التي تتميز بمساحاتها المكرسة بشكل واضح للتعبير الجنسي. في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، تحولت الطقطوقة إلى معبر فني أكثر حساسية للغة الاجتماعية. وبالنظر لموقع العوالم المتقاطع مع جمهور أساسي من الرجال بات احتكاك النساء واطلاعهن، في رأي فيروز كراوية، على أنماط الحياة الغربية، مقلقا لهم. هنا نرى فيروز كراوية تحلل لتصل إلي أم كلثوم صاحبة المعادلة السحرية التي قلبت موازين الغناء، لتصل مع الشاعر أحمد رامي إلي التحول من التعبير الحار عن أشواق جنسية ومغازلات صريحة لصورة المحبين المنزهة في لوعتها وشكواها وحبها. وكان رامي يراهن على تطوير شكل يستفيد من مقبولية الطقطوقة وانتشارها بسبب عامية تراكيبها وهيكلها السلس، ولكنه يرتقي نحو غرضه باستخدام الألفاظ الكلاسيكية والفصحي من تراث الشعر.

أم كلثوم ورامي

بهذا المعني، كانت محاولته في اتجاه قاموسي وشكلي معا، بحيث صنع من العربية المتوسطة، بين فصحاها وعاميتها، لغة تقف حدها لتميز النوع الغنائي. أصبحت أغنيته في قالبها المستحدث مفهومه لكل من يتحدث العربية لأنها ذات ألفاظ فصيحة في معظمها لكنها منسقة في شكل يبدو عاميا. 

كانت رؤية أحمد رامي من حيث الشكل والمضمون نهجا سينجح في تحقيق ما تمنته أم كلثوم، ويصوغ لها صورة المطربة التي تتكلم لغة جديدة عن الحب والعواطف، تبذل نفسها من أجل محبوب وتتعذب في حبها وتعاني من الهجر و"الأسية"، كأنها تمنح النساء مساحة جديدة يصبح التعاطي فيها مع علاقات الحب ممكنا. تقودنا فيروز كراوية إلى التناقض في صورة أم كلثوم، الفتاة القوية التي تبوأت مكانتها كنجمة الشرق الأولي خلال عقد من سكنها العاصمة، ولكنها تفرض سياجا حديديا حول علاقاتها العاطفية وحياتها الخاصة. تري المؤلفة أن بين أم كلثوم ومستمعيها خيطا سحريا يصلها بالمكبوت ولا يقربها لدرجة البوح بالممنوع. تقدم إحالات رمزية تعكس كوامن الحوار الداخلي في مجتمع الطبقة الوسطي المأزوم والمتطلع، وتنفذ كذلك للطبقات الشعبية بأسلوبها الأدائي المحلي والمطور. تبدو المطربة وكأنها صوت القدر الذي لا جنس له، تدخل إليه الكلمات والألحان فلا تحتاج لتمييز الأنثى فيه عن الذكر، يدفعها صراعها للتكيف داخل عالم الموسيقي الذي يملك الرجال مفاتيحه، والتكيف مع التقاليد الاجتماعية المحافظة، لأن يكون فنها موضع تحررها الأقصى. 

مشروع عبد الوهاب

تقودنا فيروز كراوية إلى انتقاد أنصار الطرب القديم أسلوب عبد الوهاب الغنائي الذي امتاز بعد الافراط في الزخارف الصوتية وأناقة الاختيار وهي ذات الاناقة التي ميزت اختيار أم كلثوم لمواقع الحليات الصوتية والتصرفات التي يصنع المطرب منها مسافات بينها بحيث تأتي في قفلات ومواضع تبرزها، ولا يطفئ تكرارها عدة مرات في جملة لحنية واحدة أثرها ووقعها علي السمع. هذا التغيير والانتقاء منح غناءهما معني مختلفا. أصبح الالقاء ووضوح الكلمة فيه أكثر أهمية. لمحت المؤلفة ذلك الاختلاف في هذا الغناء على مسامع الأجيال الجديدة في ذلك الوقت. ترى فيروز كراوية أن كل ما يجمع تلك التقاطعات شحنة ومفهوم التجديد الذي تمركز في قلب مشروع محمد عبد الوهاب الفني وهي تراه نافذة لفهم ما كان يحدث في بدايات القرن العشرين وبين الحربين العالميتين. فبينما تظهر الأسطوانة المسجلة تليها الإذاعة والسينما لتعيد صياغة أفكار الموسيقيين والمطربين في عصر الوسائط / الجماهير، أدرك عبد الوهاب أن ميراث الماضي لا يكفي وحده لاستيعاب الطاقة الصاعدة لسوق موسيقي تدخل فيه جماهير أوسع. تحول محمد عبد الوهاب من نجم إلي صانع اتجاه ونزعة ثقافية، وتبدى ذلك في ملابسه وصورته السينمائية كما في ألحانه واستعانته بموارد متعددة من حيث التوزيع للآلات مستعينا بموزعين محترفين ودارسين. كان صعوده أشبه بوسيلة مواصلات بين الطبقات الاجتماعية، فقد أتي من طبقة فقيرة إلى طبقة النخبة. 

إن قدرة فيروز كراوية على السرد والتحليل أعطت الأغنية المصرية نكهة مغلفة بروح الفهم العميق. وهذا ما يجعل عرض هذا الكتاب صعبا ولا يغني كل ما سبق عن قراءة نص الكتاب الذي اعتبره ملمحا مهما في تاريخ الكتاب المصري.
-------------------------------
د. خالد عزب

...