27 - 07 - 2024

وجهة نظري | حي على الخراب

وجهة نظري | حي على الخراب

توقفت الأنفاس فزعا وحزنا.. بدت آلة الدمار مخيفة موحشة امتدت بذراعها الطويلة لتصل لحافة المبنى العتيق .. انعكست صورة تروس الآلة على الحائط لترسم رؤوسا لشياطين.

مشهد حزين لم يكن وحده ما قض مضاجعنا وأرّقنا حزنا على ما آلت إليه كنوزنا من المقابر الأثرية. تداعت المشاهد الواحد تلو الآخر، نصحو على صورة ركام وتراب تهال على مقابر لها قيمتها الأثرية والتاريخية والإنسانية.

بين مئذنتين ظهر الركام .. يكاد يصم صوت الآذان الداعى للصلاة والفلاح.. يخفت صوت المؤذن في آذاننا، بينما يرتفع رغما عنا صوت آخر يدوى مستفزا متحديا مثيرا للغضب "حى على الخراب ..حى على الدمار".. تتخيله عقولنا نابعا من تلك الأيادي السوداء التي استهدفت المقابر الأثرية.

أصابنا صمت الشيطان الأخرس بالعجز، سكتنا عن كلمة الحق ضعفا وقلة حيلة تزيدهما حيرة تعودنا عليها ما بين مخاطر محدقة وواقع مأزوم، وبين تصريحات وردية تحاول تبديد المخاوف وتهوين الأزمة وتبسيط المخاوف والأمور.

بدأت الأزمة بمقابر المماليك التاريخية، ثم تبعتها مقابر الإمام الشافعى .. تكرر السيناريو بحذافيره، بدأ بتحذيرات وتخوفات من مهتمين بالآثاروالتراث عن استهداف المقابر الأثرية .. سلطوا الضوء على أهمية تلك المقابر التي تحمل كنوزا من شواهد ونقوش ومعمار مميز يكسبها قيمة أثرية وتاريخية فضلا عن أنها تحمل أسماء لعظماء ومشاهير سياسيين وأدباء وشعراء تكسبها مزيدا من الأهمية.

لم يتخيل أحد منهم ألا تتوقف آلة الدمار أمام مقابر تحمل أسماء الإمام ورش صاحب ثانى أشهر قراءة للقرآن الكريم.. أو مقبرة الإمام العز بن عبد السلام  الفقيه والمفسر والملقب بسلطان العلماء وقاضى القضاة، فضلا عن مقبرة الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء، ومقبرة جلال الدين السيوطى أحد أشهر المفسرين للقرآن الكريم.

ومن رجال الدين لرجال الأدب والفن استهدفت آلة الهدم مقابر الأديب الكبير يحيى حقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقى والشاعر والسياسى محمود سامى البارودى .. وأخيرا وليس آخرا ماينتظر حوش الأمير يوسف كمال والمهدد أيضا بالإزالة، والذى يعد صاحبه أحد أهم الرحالة والجغرافيين وهو مؤسس مدرسة الفنون الجميلة عام 1905.

نصحو كل يوم لنفاجأ بإحدى علامات الإزالة تهدد مقابرنا الاثرية .. تتعدد ألوانها وأرقامها لكنها تتحول في عيوننا إلى لون الدمار الأسود القاتم فوق الأرواح الكاتم للأنفاس.

وأمام حملة التدمير لم تجد المسكنات التي حملتها تصريحات المسؤولين  الرسمية منها والإعلامية، نافية استهداف المقابر الأثرية، مؤكدة أنها قائمة كما هي ولا يمكن المساس بها، وأنها تخضع لقانون حماية الآثار الذى يجرم أي عمل يتلف أو يهدم أثرا وأن الدولة تحرص دائما على الحفاظ على الآثار بكافة أنواعها وأشكالها ليس للأجيال القادمة وإنما للإنسانية جمعاء ..

الحقيقة أثارتنى كلمة جمعاء التي جاءت في بيان المركز الإعلامى لمجلس الوزراء الصادر في مايو الماضي، لأنها أعادتنى رغما عنى لمشهد محيى إسماعيل في الفيلم الشهير عندما وقف متخشبا معتذرا بصوته الناطق بالتخلف "جمعاء .. جمعاء".

لاتستدعى جمعاء في مخيلتنا خيرا كثيرا .. تماما مثل تصريحات المسئولين التي لاتنجح في الغالب في بث الطمأنينة، بل على العكس تزيد مخاوفنا بوقوع الخطر المحدق والذى تحاول دوما نفيه.

لم تطمئننا تصريحات أحد مسئولي وزارة السياحة، والتي نفى فيها هدم قبر أثرى وتاريخي بأى حال من الأحوال، وأن ما يتردد عار تماما من الصحة، وأن قطاع الآثار الإسلامية بالمجلس الأعلى للآثار بالتعاون مع وزارة الأوقاف يقوم بدراسة كل مقبرة يشتبه في أثريتها، وعند التأكد من أهميتها تقوم وزارة الأوقاف بتسليمها لوزارة السياحة والآثار لنقلها لمخازن الوزارة.

بينما جاء تصريح آخر ينفى هدم مئذنة الأمير سيف الدين قوصون الأثرية والتي تعود لسنة 736 هجرية مؤكدا أن مايجرى هو مجرد عملية فك للترميم ثم يعاد تركيبها!

لم يفت المسئولين أيضا، نفى المساس بمقبرة الشيخ محمد رفعت والفقيه جلال الدين السيوطى .. بينما أكدوا أن مقبرة أحمد شوقى لاتعد أثرية، ولم يخبرنا أيضا عن تقييمهم لأهمية مقابر الأدباء والسياسيين والمفكرين ومنهم يحيى حقى ومحمود سامى البارودى وحافظ إبراهيم والأمير يوسف كمال وعلى باشا إبراهيم وغيرها، هل تمثل قيمة أثرية أم أن إستهدافها ببلدوزورات الهدم الوحشية أمر جائز ومقبول!.

أمام عبثية المشهد وصوت الاحتجاجات التي تذهب أدراج رياح ظهرت محاولات فردية حاولت قدر ماتستطيع توثيق تلك المقابر الأثرية قبل إزالتها، بعضهم قام بالتصوير والآخر قام بحماية ماتسنى له من شواهد وتسليمها للجهات المختصة، محاولات رغم أهميتها تبدو فرديةضعيفة .. أما الأغلبية فلم تملك سوى البكاء على أطلال المقابر ليس حزنا على أصحابها وإنما حسرة على ما آل إليه حال الأحياء أمثالهم.
-------------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | المحافظون الجدد والمواطن المقهور