13 - 10 - 2024

طه حسين كما يراه عمار علي حسن: مشروعه لم يتجذر اجتماعيا وأهمل رافد التصوف

طه حسين كما يراه عمار علي حسن: مشروعه لم يتجذر اجتماعيا وأهمل رافد التصوف

كان عمار علي حسن في الخامسة من عمره، عندما رحل طه حسين في الثامن والعشرين من أكتوبر 1973. وذلك الربط بين هذين "العلميْن" لا يرجع بدايةً إلى مولد كل منهما في إحدى قرى محافظة المنيا، الأول في 15 نوفمبر 1889، والثاني في 21 ديسمبر 1967، إنما هو يرجع أساساً إلى اقتران اسميهما من خلال كتاب "بصيرة حاضرة.. طه حسين من ست زوايا" الذي أكد أن صلة مؤلفه عمار علي حسن بعميد الأدب العربي أعمق من مجرد التباهي بأنه ولد ونشأ مثله في محافظة المنيا، أو أنه ربما قد اتخذه مثلاً أعلى في التغلب على صعاب جمة وقفت في طريق تحققه كباحث وكأديب وكمفكر وصاحب رؤى سياسية في مواجهة الاستبداد، وأخرى نهضوية وتنويرية في وجه أطروحات متخلفة وظلامية. 

الكتاب صدر هذا العام عن مركز اللغة العربية في أبوظبي ضمن برنامج المنح البحثية، ليواكب مرور خمسين عاماً على رحيل صاحب "الوعد الحق"، إلا أنه يؤكد في الوقت ذاته أن أمثال طه حسين لا يرحلون، بل إنهم يبقون دائماً في بؤرة الجدل بأفكارهم ورؤاهم وإبداعهم. كما يؤكد أن مشروع صاحب "شجرة البؤس" قابل للنقد الموضوعي، إذ إن ذلك المشروع على متانته ورسوخه، كان، بتعبير صاحب "شجرة العابد"؛ "ناقصاً وقت أن كان صاحبه يحيا بين ظهرانينا، وزاد هذا النقص مع تقدم السنين بعد رحيله، لاختلاف الظروف والأحوال وتجدد الحاجة والطلب، وما تفرضه طبيعة الأشياء والأفكار من نقد ومساءلة ومراجعة وتهذيب وتشذيب وتعديل بما يلائم واقعاً يتغير، حتى لو بقيت الأسئلة القديمة نفسها مطروحة ومعلقة على رؤوس الأشهاد".

في هذا الكتاب يرجع صاحب السيرة الذاتية "مكان في الزحام" والتي كتبها ربما تأثرا بـ "الأيام"، إلى عشرات المراجع باللغتين العربية والانجليزية؛ ليرسي طريقة مبتكرة لدراسة طه حسين عبر ست زوايا هي: المنهج والنص والذات والصورة والموقف والأفق. 

ومن حيث الزاوية الأولى فإن منهج طه حسين – كما لاحظ عمار علي حسن - قام على الحوارية والتعدّد، والشك والتثبّت، والإفاضة والإحاطة، وتعدّد زوايا الرؤية والاهتمام، والتمييز في الدرس بين العلم والدين. وهذه السمات - يضيف المؤلف الموسوعي - هي التي جعلت لمنهج طه حسين أثراً يختلف عليه الناس، لكن لا يمكن لمُنصف أن يُنكر ما جاد به من إيجابيات على التفكير والتدريس والبحث في العالم العربي. 

أما زاوية النص، فخلاصتها أن نصّ طه حسين كان شفاهياً، لأنه ابن الإملاء، وهو نص بِكر إذ كان لا يراجعه، ونص مميَّز يدل على صاحبه بلا عناء ولا عنت، وإيقاعي تحضر فيه الموسيقى، وهو نص تكراري متنوع حافل بالتناص، ويسعى إلى أداء وظيفة، أو ينهض بالمهمة أو الرسالة التي كان يحملها طه حسين على عاتقه. 

نموذج المثقف المتكامل

أما بالنسبة إلى زاوية الذات: فيجد عمار علي حسن أنه رغم رحيل طه حسين عن دنيانا منذ نصف قرن تقريباً فإنه ما يزال يقدم لنا نموذجاً للمثقف المتكامل، فهو باحث وأديب وناقد ومؤرخ وعالم اجتماع ومترجم وصحفي وسياسي، ارتقى مع توالي إنتاجه ورسوخه، ليصبح مفكراً، بل هناك من يراه فيلسوفاً. وهنا لا أبالغ إن قلت إن تلك الموسوعية كانت نبراسا لعمار علي حسن، (الذي قدم للمكتبة العربية عشرات الكتب) في طريقه نحو التحقق؛ باحثا وصحفيا وعالم اجتماع، وسياسيا وأديبا وناقدا. ومن هنا تبدو جدارته بمساءلة مشروع طه حسين، التي يرى أنها "لا تقلل من قيمته، فهو كان معنياً، بالدرجة الأولى، بوضع الأسس التي يسير عليها التفكير السليم، مؤمناً بأن "العلم بمدخله لا بموضوعه"، ففتح لمن يأتون بعده أفقاً عالياً، وشقَّ درباً واسعاً، يمكنهم أن يمضوا فيه باحثين عن طرق أخرى للتنوير، أو مسارات أخرى تتواشج مع التصور العام لعميد الأدب العربي، لاسيما أنه تصور تفاعل مع قضايا الناس، ولم يزعم صاحبه أبداً أنه مكتمل وقطعي، بدليل أنه كان يراجع نفسه، ويحاور غيره، ويسعى إلى الحكمة أينما كانت، وحيثما تجلَّت. ويتوقف عمار علي حسن في مقدمة كتابه عند تلك الموسوعية التي جعلت من طه حسين صاحب الوجوه المتعددة، إذ إنه الأزهري والمدني، والريفي والمديني، وابن الحضارة الشرقية المتحاور بوعي واستقلال مع الحضارة الغربية، يبحث عن الحكمة أنّى وجدها فهو أولى بها. وهذه الثنائيات ما تزال محلّ أخْذٍ وردٍّ في الثقافة العربية المعاصرة. 

المجدد والمتحايل

وبالنسبة إلى الصورة: فإن لطه حسين عدة صور هي: قاهر الظلام، والتلميذ النجيب، والأستاذ البارع، وصاحب المكانة الرفيعة، والمجدّد، والمتحايل، والمواطن العالمي، وهو ما يؤكد من وجهة نظر عمار علي حسن أننا لا نزال في حاجة إلى دراسة موضوعية منصفة، لفكر الرجل وأدبه. ثم نأتي إلى الموقف فنجد أن طه حسين بحسب كتاب عمار علي حسن أقرّ قواعد بين الأستاذ وتلاميذه، في العناية بهم، والحدب عليهم، وصقل مواهبهم. وهناك أيضاً جهده في التواصل الحضاري، إذ كان أحد الجسور المتينة بين الشرق والغرب، وأعطى مَثَلاً حوارياً ناصعاً بين أبناء ثقافتيْن بينهما جذور مشتركة، أو عطاءات متبادلة، لكن هناك دوماً من يُزكّي الصراع بينهما. 

وأخيرا فإن عمار علي حسن في زاوية الأفق تحدث عما تحقق من مشروع طه حسين، وما لا يزال ينتظر، ومصيره هو، نصاً ومنهجاً وموقفاً، وهو الرجل الذي كان يخشى "موت الكاتب" بعد رحيله عن الدنيا، أي ضياع منجَزِه بعد تحلّل جسده، ليَصير مجرد ذكرى، تُستَعاد بين حين وآخر، أو لا يلتفت إليها أحد.

ولم يوجز عمار علي حسن في الخاتمة ما تضمنه كتابه بل أجمل فيها "مآخذه" على مشروع صاحب "دعاء الكروان"، ومن ذلك أنه لا يجب الاستسلام لوصف طه حسين بأنه "النهضوي الأخير"، فمثل هذا الوصف فيه كثير من القسوة على كل من جاء بعد الرجل، وحاول التفكير في القيم والأفكار التي تقود إلى التقدم، والأساليب التي يجب اتباعها في سبيل بلوغه. ومنها أيضا أن مشروع طه حسين "لم يعطِ الجوانب الأخلاقية والروحية، وتلك المربوطة بالهوية، القدر الكافي من العناية، رغم أنها تتراجع في الواقع المعاصر، بدرجة مخيفة، لاسيما أن مشروع تحصيل السلطة على أساس الدين قد أهملها بل حاربها حين طرحت في مسار يجد في «التصوف» طريقة آمنة ومجدية لبلوغها، فيما يبتعد الناس في بلادنا عنها وسط تكالبهم على المنافع المادية البحتة". 

النخبوية في مقابل الشعبوية

ورغم أن طه حسين قد تأثر – كما يقول عمار علي حسن بكتاب «ألف ليلة وليلة» في كتابه «أحلام شهرزاد"، فإنه تعامل مع هذه الليالي من منظور نخبوي ظاهر، سواء في الأسلوب الذي اتبعه في الكتابة، أم في القيم التي طرحها، عبر الوصف والاستطراد والحوار وبنية الحكاية. ولم يخرج في هذا عن تمسكه بالفصحى في وجه العامية، والنخبوية في مقابل الشعبوية. ويضيف أن مشروع طه حسين العقلاني أو التنويري كان في حاجة إلى إضافة النزعة الروحانية والعمق الاجتماعي إليه، حتى يصبح أكثر فاعلية، ومع ذلك فإنه يظل بمثابة بداية التفكير في مشروع أكثر اكتمالاً ونجاعة. 

ويستطرد: "فربما افتقاد مشروع طه حسين إلى هذين العنصريْن ساهم إلى حدّ ما في تعثِّره، الذي عبَّر عنه البعض بالقول إن هذا المشروع المهم لم يجد قوة اجتماعية تحمله. لكن طه حسين الذي اقتصرت علاقته بالمأثور الشعبي على سيرة بني هلال وبعض الحكايات الخرافية حول «العفاريت» ومبالغات وتخرصات حول كرامات الأولياء، لم يعنَ بالبحث في هذا الموروث عن العناصر التي تُعبِّر عن العقل الجمعي، الذي إن لم نفهمه على وجه دقيق لا يمكننا أن نعول على العقل المفرد، حتى لو كان هذا الفرد هو أكثر الناس ثقافة، في الأخذ بيد المجتمع إلى النهضة. فعلى الأقل، يجب على هذا العقل أن يقف جيداً على طريقة تفكير المجموع الذي يخاطبه، بتعبير عمار علي حسن. وهناك جانب ثالث لاحظ حسن أنه ينقص مشروع طه حسين على المستوى النظري، يتمثل في أن الرجل، ورغم انغماسه في مشكلات أمته سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فإنه لم يضع رؤية متكاملة لحلها، نابعة من قدراتها الذاتية.

شجاعة نقدية

ويرى عمار علي حسن أن مع إسهام طه حسين في الثقافة العالمية، وهي مسألة مشهود له بها، فإن ما شغله هو إسهام العرب الأقدمين في هذه الثقافة، والذي دافع عنه في وجه الغرب، بينما لم يلتفت بالقدر الكافي إلى عطاء الذين عاصروه، وهو ليس بالقليل. ويوضح أنه رغم أن طه حسين، مثلاً، تحدث عن اتباع خطى الغرب في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، لكنه، وهو الرجل المتفاعل بقوة مع مجتمعه، وجد نفسه لا يلتزم بهذا التصور كلياً، حين نظر بإمعان إلى طبيعة مشكلاتنا. لكنه لم يُفصّل في هذه الناحية، أو يضع رؤية شاملة، على هذا الدرب، وذلك يُعد من الجوانب التي يفتقر إليها مشروعه النهضوي الكبير، إلى جانب عدم انتباهه إلى روحانية التصوف، وعطاء الموروث الشعبي العامر بالمعاني والقيم وطرائق العيش.

وأخيرا، أجدني راغباً في القول بأن الدكتور عمار علي حسن، تعامل بشجاعة نقدية تحسب له مع تراث طه حسين، فأهدى المكتبة العربية مرجعا في غاية الأهمية، ليس في موضوعه المباشر فحسب، بل وكذلك في رؤى هذا الكاتب القابض على الجمر، دفاعا عن عما أرساه رواد نهضتنا الحديثة من مبادئ ينبغي أن تظل راسخة لنبني عليها، عبر مساءلة المستقر وخلخلته، لتتجدد حيوية العقل العربي في سياق حضاري يشمل الإنسانية جمعاء.
-------------------------------
بقلم: علي عطا


             

مقالات اخرى للكاتب

نحو مدوَّنة سلوك مهني تواكب حتمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي