16 - 06 - 2024

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ

في 30 أغسطس توفي العم نجيب محفوظ عام ٢٠٠٦م، وأعتقد أن الكُنية بعمّ نجيب أقرب لرُوحهِ وسمتهِ، وسيميائيَّةِ وجههِ، وملامحهِ، وملابسهِ، ونظراته العميقةِ في طيبةٍ، الذَّكيَّة في حنانٍ، الكاشفة في سترٍ من خلال نظَّارته الضَّخمة فوق حسنتهِ المميَّزة لتكتملَ صورةُ العمّ الأُسطوريّ الخالدةُ التي جمعَ فيها كلَّ العائلةِ العربيَّةِ في ظلِّ عمومتهِ.

والعمُّ، عادةً، يحملُ رُوحَ الأب، ومحبَّتَهُ، وخبرتَهُ، وقد يكون أكثر قُربًا وفهمًا وإدراكًا لشخصيَّة الإبنِ من أبيهِ، الذي يحجبُ حرصُهُ على تقدُّم ولده ورؤيتَهُ في صورةٍ أقربَ إلى الموضوعيَّة والحقيقةِ! .. 

وكونهُ جديرًا بعمومة المصريّين جميعًا؛ احتفظَ محفوظٌ بصُورةِ العَمّ الرَّحَّالةِ ذي الأسفارِ الذي يخوضُ الفيافي والبِحارَ، ويأتيهم بالحكاياتِ والأخبارِ من عالم ليالي ألف ليلة وليلةٍ؛ حيث الانتقالُ من حديث شهرزادوشهريار المكرور المعاد إلى حكايات طاقية الإخفا، وخاتم سليمان، وعالم الجن والعفاريت، وحكايات السندباد، أو يقابل ابن فطُّومة في رحلته في عوالم الخيال والملكوت؛ ليحمل فلسفة ابن بطُّوطة المعاصرة وتحوّلات إنسان عصره من القيم الرُّوحيَّة إلى الماديَّة، ومن ديار الإيمان إلى الوثنيَّة، ومن الاشتراكيَّة إلى الرَّأسماليَّة، أو يرحل في الزَّمن البعيد؛ فيقابل الأجداد الفراعين، ويأتينا بأسرارهم المذهلة من جبروت الملك، وقتل الملوك للذّكور خوفًا على الحكم فيما يصفه بعبث الأقدارِ، ثم ينتقلُ بنا من خلال الفاتنة رادوبيس إلى علاقة المرأةِ بالفئةِ الحاكمةِ، وعلاقة رجال الدين بالحكمِ، انتهاء بانتصار أحمس على الهكسوس تلخيصًا لكفاح طيبة؛ مجسّدًا رحلة مصر الفرعونيَّة في ثلاثيَّةٍ تاريخيَّةٍ ...!

ولأنّه عمٌّ جوَّابٌ؛ فهوَ أكثرُ اِنفتاحًا من الأب الملازم بيتَهُ؛ فيسامرنا بما جمعَه من أحاديثِ المقاهي؛ خاصَّة قشتمر المقهى الأشهر في سيرته في حي العبّاسيّة لينقل لنا التاريخ السياسيّ الاجتماعيّ الثقافيّ لمصر من خلال خمسة أصدقاء : اثنان منهم من العبّاسية الشّرقيّة، واثنان من العبّاسيَّة الغربيّة، وخامسهم الرّاوي، ولا يمكن أن يفوتنا التّوازن بين الشّرق والغرب هنا؛ ليحكي ما لا يقالُ في العلن، ومالا تنشره الصّحف، ولا يسمعه العابرون..!

 وقد زادته خبرة الأيام ودرايته بسير الفاسدين والمارقين الذين لوَّثوا قاهرة الثلاثين الجديدة بالفساد والاستبداد في عصر الملكيَّة؛ مستغلين فقر الفقراء ليباع الشّرف رخيصًا هيّنًا، ودخل في تفاصيل الأسرة المصريَّةِ؛ فسبر تكوينها وتطورها وأزماتها وسجاياها ومخازيها وظاهرها ومضمرها في ثلاثيته: بين القصرين، وقصر الشوق، والسُّكريَّةِ؛ من خلال أسرة السيّد أحمد عبدالجوّاد، الذي صار واحدًا من الأسرة المصريّة والعربيّةِ؛ بأسرته الممتدَّة في الزَّمان من إرهاصات ثورة 19  إلى إرهاصات ثورة 52،  و قد مهَّد لها من خلال حكايةِ أحمد عاكف  في  خان الخليلي، وأكملها في حكاية الباقي من الزمن ساعة ... إلخ!

ولم يكتمنا العمُّ السَّائح صَيفًا في الإسكندريَّة ليحكي ما حدث للفتاة الرّيفيّة زهرة في ميرامار من حوادث وأسرار ، في حسٍّ بوليسيٍّ ممتزجٍ بصوفيَّة شفيفة، اعتدناها معه منذ حكى حكاية  اللِّص الضَّحية سعيد مهران أمام الكلاب من لصوص الطُّموح ومستغلي البسطاء من المتاجرين بالكلمة كرؤوف علوان، والمتاجرين بالصداقة كعليش، وبالحب كنبوية في اللِّصّ والكلاب،.. إلخ!

 ومن خلال وظيفته في ديوان الأوقاف يسرد لنا غرائب حياة الموظَّفين المعدمين، وأحلامهم المجهضة في نضال الموظّف الصّغير عثمان بيومي ليغدو حضرة المحترم، كما وصف لنا في عمقٍ فلسفيٍّ شفيفٍ حيرة المثقَّف وإفلاسه المعنويّ من خلال أزمة عمر الحمزاوي في الشحاذ، والدِّينيَّة في  بحث سيد سيدالرّحيميّ عن الطَّريق، والعلميَّة المعرفيَّة  التي خاضها عرَفة  أحد أولاد حارتنا، والسّياسيَّة من خلال عيسى الدَّبَّاغ في السِّمان والخريف، والثّقافيّة التي أحاطت  بعباس كرم يونس في أفراح القبَّة، والجنسيَّة التي سيطرت على كامل رُؤبة باظ ، في السراب، ثمَّ مزجها بالسُّقوط السّياسيّ الذي حكتْهُ سمارة بهجت في ثرثرة فوق النيل، وزينب دياب في الكرنك،...إلخ!

 وحين سكت عنه الغضب، وهو العم الطيِّب كتب عمَّن عاشرَهم؛ بداية من جاد أبوالعلا وعبدهالبسيوني، مرورًا ببدر الزَّيَّادي وأنور الحلوانيّ، وكلّ مَن عكستْهم المرايا لينفِّسَ عن مكبوته تُجاه مَن زاملَهم، وصادفَهم، وصادقهم في الجامعة، ووزارة الأوقاف؛ وهي مرايا كاشفة لكلّ النماذج البشريَّة الإنسانيَّة في بانوراميَّة نادرةٍ، لاتقلّ عن بانوراميّة الحارة المصريّة التي سطّرتها أسرة الفتوة عاشور النَّاجي  بطل الحرافيش، وحميدة فاتنة زقاق المدق...إلخ!

 وحين سيطرت عليه مرحلة الشَّيخوخة العمريَّة أحبَّ أن يحكي سيرته على طريقتهِ؛ بوصفِها أحلام فترة النَّقاهة، وأَصداء السّيرة الذَّاتيَّة، وكان قد فرّقها في رواياتهِ، بدايةً من كمال بطل الثُّلاثية إلى راوي قشتمر ...إلخ!

 وهكذا طافَ بنا العمّ حول كلّ الأفكار الإنسانيَّة، في سَرده الرّوائيّ، وعبر مجموعاتهِ القصصيَّةِ التي تجاوزت عصرَها بما سنَّه فيها من تجريبٍ عربيّ خالصٍ، وفي تسع عشرة حكاية ينقل أزمة هزيمة يونيو من خلال حكايات خمارة النّجمة، أو خمارة القط الأسود، ويركز في مجموعاته الأخرى على المشاعر والمعاني الإنسانيَّة الكبرى؛ فيكتب عن الغرام، وموت الحب، وثمن الأمومة، والقتيل البريء، والكره، والحقد، والأنانية، والغيرة، والأحلام، والغرائز، والسحر، والتاريخ، والمأساة، والموت؛ وصولا للكلمة الأخيرة التي لم تنشر!

 كما كتب مجموعةَ مسرحيات تؤكّد لكل أبناء إخوته خبرة العمّ بأبي الفنون، كما احتفظ لنفسهِ بصدارة كتَّاب الفنّ السَّابع بجدارةٍ واستحقاقٍ، وكذا عبَّر عن قدرته النَّادرة على الكتابة في كلّ الأنواع الأدبيَّة؛ فكتب مئات المقالاتِ التي خاطب بها العقول الفتيَّة في الفكر والسّياسة والثقافة والأدب والفنون... إلخ!

 رحم الله عمَّنا الذي شارك الأب في تربيتنا، بل كان الأكثر فهْمًا لطبيعتنا، والأقدر على قراءة أحلامنا وهواجسنا وطموحاتنا وإخفاقاتنا.. رحم الله العم نجيب..!
---------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال 
* أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة العريش
المقال من المشهد الأسبوعية



مقالات اخرى للكاتب

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ





اعلان