27 - 07 - 2024

يفجيني بريجوچين.. المقامر

يفجيني بريجوچين.. المقامر

لم يفهم الطفل ذو السبعة أعوام شيئًا مما يدور حوله، عرف فيما بعد أن تاجر عبيد اشتراه هو ومجموعة من الأطفال وسافر بهم في رحلة طويلة من قراهم الجركسية الجاثمة بمحازاة الجبل على الحدود الروسية وعبر الحدود حتى وصل إفريقيا.

آلمه الحبل الغليظ الملتف حول معصمه والمربوط به باقي الأطفال، من حين لآخر يتوقف بهم التاجر الفظ كي يستريحوا قليلاً، تحيط بهم ثلة من رجال أشداء يتمنطقون بالسيوف والقِسي كي لا يهربوا.

بعد حين عرف أنه لن يري أهله ولا قريته مرة ثانية، غالبه حزن. وكم بكىفي صمت بعد أن يأوي الجميع إلى مضاجعهم، يتطلع للقمر كما كان يفعل مع أخته الصغيرة في الليالي الصافية؛ ثم يغمض عينيه على وجوه أمه وأبيه وأخوته كي لا تهرب من شقوق الذاكرة.

في أحد أسواق القاهرة في خمسينيات القرن الثامن عشر، اختاره أحد رجال علي بك الكبير، ضمن ما اختار من أطفال أشداء، لينضموا إلى عبيد سيده، وأعطوه اسمًا جديدًا، محمد.

أدرك أن خلاصه مرتبط بولائه لسيده وضرورة امتلاك مهارات قتالية فذة، وقد كان. وثق فيه على بك، وقربه منه، ومنحه لقب الباكوية، وزوجه ابنته، ثم لم يلبث أن ولاه منصب الخازندار، (وزير المالية)، وهو دون العشرين، فما كان منه إلا أن نثر الدنانير الذهبية على الفقراء، فعُرف من يومها باسم محمد بك أبو الذهب، الذي لن يوقف طموحه إلا الموت، كان مقامرًا من الطراز الأول.

بعد نحو مائتي عام، وتحديدًا سنة 1961، ولد بمدينة سانت بطرسبرج الروسية طفل أوقف - في يونيو الماضي- العالم على أطراف أصابعه، وعبر مقطع فيديو اتهم يفجيني بريجوچين القيادة الروسية بالكذب وقَتلَ رجاله، ثم أعلن أنه ماض مع جنوده إلى موسكو.

كان بريجوچين قد قضى في مطلع شبابه تسع سنوات في السجن بتهمة الاحتيال، ثم أسس مع بعض أصدقائه شركة للمطاعم والمأكولات استطاعت الاستحواذ على معظم العقود الحكومية، مما حقق للشركة مكاسب طائلة، مكنته من تأسيس شركة عسكرية خاصة أطلق عليها اسم (فاجنر).

لا تحتاج باقي القصة إلى براعة ديستويفسكي لكتابة جزء جديد من روايته (المقامر). كل القصص سواء. فقط شخصيات مختلفة، ورغبة محمومة تتكفل باستمرار اللعب حتى النهاية.

أربع وعشرين ساعة حبس العالم فيها أنفاسه، حتى أعلن رئيس بيلاروسيا، الحليف المقرب من الرئيس بوتين، انتهاء الأزمة، لكن بريجوچين المتمرد كان يعلم أن اللعبة لا تنتهي إلا بالموت. ظلت النهاية مؤجلة حتى أُعلن عن سقوط طائرته الخاصة منذ أيام. كان مقامرًا حتى النخاع.

أُطلق بخور عبارات الأسى والأسف من كبار رجال الدولة على خلفية مقاطع مصورة قصيرة لطائرة الفقيد، تزامنًا مع الإعلان عن فتح تحقيقات موسعة بهدف معرفة الحقيقة، التي يعلم الجميع أنها دُفنت معه، وليتكفل تراب النسيان بالمهمة.

جاء محمد بك أبو الذهب (1734-1775) من قرية على الحدود الروسية وتمرد على أستاذه علي بك الكبير وحبسه أسيرًا، ونَصَبَ نفسه سنجق بك القاهرة (شيخ البلد)، ثم قاد الجيوش إلى الشام ففتح مدنها وقدم له الأمراء فروض الولاء والطاعة، ومع كل انتصار تولد رغبة محمومة للمزيد، لم يكن ليوقفه شيء، إلا الموت. باغته في عكا.

في المقابل، لم يستطع يفجيني بريجوچين السيطرة على أستاذه. فشل في تكرار نموذج أبو الذهب. أيقن في قراره نفسه أنه مطلوب للثأر على مرأى من الجميع، ويبقى ما أُطلق من الوعود للعرض فقط أمام الكاميرات، بينما تتصاعد في الخلفية وتيرة الرغبة المجنونة لاستكمال الدور حتى النهاية.
---------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

يفجيني بريجوچين.. المقامر